المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..282

حذف ياء المتكلم في الوقف

الاعتراض:

يدّعي المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في الجملة التالية:

_  ربّ فارحَمْ وتقبَّلْ منّا دعاءنا، وإليك الشكوى والتجاء.(نور الحق)

وموضع الخطأ وفق زعمه هو في صوغ المصدر في كلمة (التجاء)، حيث الصحيح أن يكون (الالتجاء).

الرد:

لا خطأ في اشتقاق المصدر (التجاء) في هذه الجملة، لأنه قد غاب عن المعترض أن كلمة (التجاء) هي في الحقيقة (التجائِي) أي المصدر (الالتجاء) مضافا إلى ياء المتكلم؛ ولكن حذفت منه ياء المتكلم واكتُفي بالكسرة للدلالة عليها للوقف عليها، فهي إذا، “إليك الشكوى والتجائي” وبحذف الياء (التجاءِ).

وحذف هذه الياء والاكتفاء بالكسرة دليلا عليها، جائز خاصة في الوقف، وكثير في القرآن الكريم، سواء في الأسماء أو الأفعال كما يكثر في الاسم المنادى.

ولهذا أفرد سيبويه بابا خاصا في كتابه فقال:

“هذا باب ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف التي لاتذهب في الوصل ولا يلحقها تنوين”

وتركها في الوقف أقيس وأكثر، لأنها في هذه الحال ولأنها ياءٌ لا يلحقها التنوين على كل حال، فشبهوها بياء قاضي، لأنها ياءٌ بعد كسرة ساكنة في اسم.

وذلك قولك: هذا غلامْ وأنت تريد: هذا غلامِي. وقد أسقانْ، وأسقنْ وأنت تريد: أسقاني وأسقني، لأن ني اسمٌ. وقد قرأ أبو عمرٍو: ” فيقول ربي أكرمَنْ ” ، و ” ربي أهانَنْ ” على الوقف. وقال النابغة:

إذا حاولت في أسدٍ فجوراً … فإني لست منك ولستَ منْ

يريد: مني. وقال النابغة:

وهم وردوا الجفار على تميمٍ … وهم أصحاب يوم عكاظ إنْ

يريد: إني. سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم.

وترك الحذف أقيس. وقال الأعشى:

فهل يمنعني ارتيادي البلا … د من حذر الموت أن يأتيَنْ

ومن شانىءٍ كاسفٍ وجهه … إذا ما انتسبت له أنكرَنْ

وأما ياء هذا قاضيَّ، وهذان غلامايَ، ورأيت غلامَيَّ فلا تحذف؛ لأنها لا تشبه ياء هذا القاضي، لأن ما قبلها ساكن، ولأنها متحركة كياء القاضي في النصب، فهي لا تشبه يا هذا القاضي. ولا تحذف في النداء إذا وصلتَ كما قلت: يا غلامِ أقبلْ؛ لأن ما قبلها ساكن؛ فلا يكون للإضافة علَم؛ لأنك لا تكسر الساكن.

ومن قال: هذا غلامِيَ فاعلم وإنيَ ذاهبُ، لم يحذف في الوقف؛ لأنها كياء القاضي في النصب؛ ولكنهم مما يلحقون الهاء في الوقف فيبينون الحركة. ولكنها تحذف في النداء؛ لأنك إذا وصلت في النداء حذفتها. [الكتاب (ص: 380-379، بترقيم الشاملة آليا)]

وجاء في شرح أقوال سيبويه هذه لأبي السعيد السيرافي ما يلي:

“قال أبو سعيد: أما ياء المتكلم في الفعل فالحذف فيها حسن لأنها لا تكون إلا وقبلها نون، فالنون تدل عليها ولا لبس فيها، ولذلك كثر في القرآن.قال أبو سعيد: جملة الأمر، إذا كانت ياء المتكلم لا كسرة قبلها لم يجز حذفها، لأن الذي يحذفها إذا كان قبلها كسرة يكتفي بدلالة الكسرة عليها، فإذا حذفت هي والكسرة لم يجز لأن لا دلالة عليها في وقف ولا وصل.“[شرح كتاب سيبويه (5/ 59-58)]

 

وجاء في شرح الاشموني لألفية ابن مالك ما يلي:

“وقد تحذف هذه الياء وتبقى الكسرة دليلًا عليها، وقد يفتح ما وليته فتقلب ألفًا، وربما حذفت الألف وبقيت الفتحة دليلًا عليها: فالأول كقوله “من البسيط”:

خليلِ أملك مني للذي كسبت … يدي وما لي فيما يقتني طمع….

الإعراب: خليل: مبتدأ مرفوع بالضمة المقدرة على ما قبل الياء المحذوفة، و”الياء”: المحذوفة ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة. أملك: خبر المبتدأ مرفوع. …

الشاهد فيه قوله: “خليلِ” حيث حذف ياء المتكلم مكتفيا بكسر ما قبلها للدلالة عليها.”

[شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 195)]

وجاء في حاشية الصبان:

“قوله: “ومن قبل” أي من قبل ذلك وقيل الأصل ومن قبلي فحذفت الياء وأبقيت الكسرة دليلا عليها، وعليه فلا شاهد فيه لأن حذف ياء المتكلم المضاف إليها جائز كثيرا بدون الشروط المذكورة.” [حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 415)]

وجاء في اوضخ المسالك:

وقد تحذف ياء المتكلم وتبقى النون المكسورة للدلالة عليها، نحو قوله تعالى: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون} أي: فبم تبشرونني؟. [أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 117)]

ويقول البروفسور فاروق مواسي في مقال له بعنوان: “عن ياء المتكلم وياء المنقوص”: يكثر حذف الياء في القرآن الكريم إما للرسم أي (ملاءمة فاصلة الآيات) أو للاختصار”.

وذكر بعض الأمثلة من القرآن الكريم، نذكرها مع بعض الأمثلة الأخرى فيما يلي:

فقد جاء هذا الخذف كثيرا في القرآن الكريم سواء في الأسماء أو الأفعال المقترنة بنون الوقاية كما الآيات التالية:

{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (38)} (الأنبياء 38)

{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } (إِبراهيم 40-41)

{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } (الفجر 15-17)

{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } (المؤمنون 100)

{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ } (غافر 39)

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } (الزخرف 62)

{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} (الصافات 57)

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} (يس 24)

{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} (الشعراء 80)

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } (الشعراء 81-82)

{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا} (البقرة 127)

 

فخلاصة القول أن حذف ياء المتكلم والاكتفاء بالكسرة دليلا عليها، جائز صحيح في فصيح الكلام واللغة الفصحى القرآنية، ويرجع هذا إلى الوقف والتخفيف ومراعاة الفواصل في النثر أو القافية في الشعر. وهذا حقيقة ما جاء في كلام المسيح الموعود عليه السلام أعلاه.

فقد جاءت هذه الجملة في السياق التالي:

“ووالله ما تَأَوُّهِي لِفَوْتِ أيامِ السرور ولا للتنعم والحبور، بل للإسلام الذي صال عليه الأعداء، وأفَلَتْ شموسُه وطالت الليلة الليلاء، وظهرت المداجاةُ في فِرق الإسلام والتفرقةُ في أمّة خير الأنام. وأمّا الكفّار وأحزاب اللئام، فقد انتظموا في سِلك الالتئام. والحسرة الثانية أن فينا العلماء والفقهاء والأدباء، ولكنهم فسدوا كلهم وأحاطت عليهم البلاء، إلا ما شاء الله. ربّ فارحَمْ وتقبَّلْ منّا دعاءنا، وإليك الشكوى والتجاء. يقولون إنّا نحن أعلام الدين وعمائد الشرع المتين، ولكني ما أرى فيهم أحدًا كذي مِقْوَلٍ جَرِيٍّ، خادمِ دينِ نبيِّنا كمُحِبٍّ وليٍّ، بل سقطوا في الشهوات والأهواء والدعاوي والرياء، وما أجد أكثرهم إلا فاسقين. وكنت أخال في رَيْقِ زماني أنهم أو أكثرهم من أعواني، ولكنهم ولّوا دبرهم عند الابتلاء، وكان هذا قدرًا مقدّرًا من حضرة الكبرياء، فالآن أُفرِدتُ كإفراد الذي يبيتُ في البيداء، أو كالذي يقعد في أهل الوبر وسكان الصحراء، فالآن قلّتْ حيلتي وضعفت قوّتي، وظهر هواني على قومي وعشيرتي، ولا حول ولا قوّة إلا بك يا ربّ العالمين. إليك أنبتُ، وعليك توكّلتُ، وبك رضيتُ. ربّ فاستُرْ عَوراتي، وآمِنْ رَوعاتي، ولا تذَرْني فردًا وأنت خير الوارثين.” (نور الحق)

فواضح من هذا السياق أن كلمة (التجاءِْ) جاءت بحذف ياء المتكلم للوقف عليها ومراعاة لبعض الفواصل التي تحيط بها والسجع المراد فيها. فهي قد تقرا بالكسر (التجاءِ) ولكن مراعاة للوقف قد تقرأ بالتسكين، لتتلاءم مع الفواصل الأخرى في السجع ولو أُثبتت الياء فيها، لتعذر كل هذا، ولوجب قراءتها بالكسرة المطولة الممدودة.

وعليه لا خطأ في اشتقاق المصدر في هذه الفقرات.