المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..260

فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..33

حمل الاسم الموصول (ما) على اللفظ وعلى المعنى

الاعتراض:

يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام:

1: بل تكلّم في شأن سيد الأنام بأقبح الكلام، كما هو عادة الأجلاف واللئام، (ترغيب المؤمنين)

2: ومال إلى الكَلْمِ والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، (الهدى والتبصرة لمن يرى)

3: وعرَض عليهم النصارى بعض القصص محرّفين مبدّلين كما هو عادة الأشرار (الهدى والتبصرة لمن يرى)

4: فلا شك أنه تحكُّمٌ محضٌ كما هو عادة المتعصبين. (حمامة البشرى)

5: فقد هلك مِن رفضِ رعاية كمالاته وتركِ التأنق في عجائباته، والغفلةِ عما يليق بذاته، كما هو عادة المبطلين. (كرامات الصادقين)

6: بل يسترجع على موته كما هو عادة المؤمنين (مكتوب أحمد)

 

وموضع الخطأ وفق زعمهم، يكمن في تذكير الضمير (هو)، والذي يجب أن يكون مؤنثا (هي)؛ لتأنيث الكلمات الواقعة بعده والتي يشير إليها. هذا وفق منطق وزعم المعارضين.

 

الردّ:

لا خطأ واقع قطّ في كل هذه الجمل والتراكيب، إذ لم يتنبه المعارضون إلى أن الضمير (هو) واقع بعد الاسم الموصول (ما) ويعود عليه؛ وهذا الاسم الموصول(ما) هو من الأسماء الموصولة العامة والمشتركة والتي لا تختص بمفرد مذكر أو مفرد مؤنث أو بالمثنى والجمع بنوعيه؛ بل يصلح للدلالة على جميع هذه الأنواع.  [ينظر: النحو الوافي (1/ 342)]. والأهم من كل هذا، أن هذا الاسم الموصول هو مفرد مذكر في لفظه، ولكن بما أنه قد يعني غير المفرد المذكر في دلالته؛ فيجوز في الضمير العائد عليه أن يطابق لفظه في التذكير أو أن يطابق معناه في التأنيث.

وعليه فمن الممكن للضمير العائد عليه، أن يعود عليه مفردا مذكرا حملا على اللفظ، فنقول: كما هو عادة المتعصبين، أو أن يعود عليه مفردا مؤنثا إن كانت هذه دلالته، وذلك حملا على المعنى؛ فنقول: كما هي عادة المتعصبين.

وفي كل العبارات الآنفة الذكر من كلام المسيح الموعود عليه السلام، عاد الضمير على الاسم الموصول (ما) مذكرا ، مراعاة للفظه المذكر المفرد فجاء (كما هو ..)، ولو أراد مراعاة المعنى لقيل (كما هي..).

 

وفي هذا يقول النحو الوافي:

” لما كانت “ما” إحدى الموصولات المشتركة التي لفظها مفرد مذكر، ومعناها قد يكون غير ذلك، جاز في الضمير العائد إليها أن يكون مطابقا للفظها أو لمعناها، كالذي سبق في – من” الموصولة، وغير الموصولة- ص 349 وقد سبق بيان لهذا في ص 266. فكلمة: “ما” موصولة وغير موصولة- مثلها، كالمتبادر من كلام الصبان.” [ النحو الوافي (1/ 351)]

وما ينطبق على (ما) ينطبق على (من) وفيها يقول النحو الوافي:

“كلمة: “مَنْ” سواء أكانت موصولة أم غير موصولة؛ من الكلمات المفردة المذكرة من ناحية لفظها، ولكنها من ناحية معناها قد تكون غير ذلك. ومن هنا يصح أن يعود الضمير عليها مفردًا مذكرًا ، مراعاة للفظها، وهو الأكثر. ويجوز فيه مراعاة المعنى المراد وهو كثير ؛ فمن الأول قوله تعالى:

{وَمِنْهُمْ منْ يُؤْمنُ به وَمِنْهُم مَنْ لا يُؤْمِنُ به} .

ففاعل “يؤمن” مفرد مذكر؛ مراعاة للفظ “مَن”. ومن الثاني قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْك} وقول الفرزدق:

تعالَ، فإن عاهدتنى لا تخوننى … نَكُنْ مثلَ من – يا ذئبُ – يصطحبانِ

فالفاعل فى الآية واو الجماعة، وفى البيت ألف الاثنين وكلاهما ضمير عائد إلى “من” مراعاة لمعناها:

وقد اجتمع الأمران فى قوله تعالى: {بَلَى من أسْلَم وَجْهَه للهِ وهُو مُحْسِنٌ، فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِهِ، ولاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . فالضمائر فى الشطر الأول من الآية مفردة مذكرة؛ مراعاة للفظ: “مَنْ”. بخلافها فى الشطر الثانى فإنها للجمع؛ مراعاة لمعنى: “مَن” وقوله تعالى: {ومَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ ورَسُولِهِ وتعملْ صالحاً نؤتِها أجْرَها مَرَّتين} .

ففاعل الفعل: “يقنت”؛ ضمير مفرد، مذكر؛ مراعاة للفظ: “مَنْ” أما الضمائر بعده فللجمع المؤنث: أو للمفردة؛ مراعاة لمعنى: “مَن”.” [النحو الوافي (1/ 350-349)]

وفي تفصيل الحمل على اللفظ والمعنى في الاسم الموصول (من)  يقول:

“وقد يراعى المعنى كثيرا بعد مراعاة اللفظ، نحو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} .

وقد يراعى اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ، نحو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، كَأَنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرًا، فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيم} – وستجيء الإشارة لهذا في رقم 1 من هامش ص 377.” [النحو الوافي (1/ 349)]

وقد أسهب النحو الوافي في تفصيل كل هذا عند حديثه عن عود الضمير على (كم) وما يشابهها من الألفاظ مثل (من) و(ما) فقال:

” إذا كان المرجع: “كم” جاز أن يرجع إليها الضمير مراعى فيه لفظها، أومراعى فيه معناها.

بيان ذلك: أن لفظ: “كم” اسم مفرد مذكر، ولكن يعبَّر به عن العدد الكثير، أوالقليل، المذكر، أوالمؤنث: فلفظها من ناحية أنه مفرد مذكر – قد يخالف أحيانًا معناها الذى يكون مثنى مؤنثًا، أومذكرًا، وجمعًا كذلك بحالتيه. فإذا عاد الضمير إلى: “كم” من جملة بعدها جاز أن يراعى فيه ناحيتها اللفظية؛ فيكون مثلها مفردًا مذكرًا، وجاز أن يراعى فيه ناحيتها المعنوية إن دلَّت على غير المفرد المذكر؛ فيكون مثنى، أوجمعًا، مؤنثًا، أومذكرًا فيهما. تقول: كم صديق قدِم للزيارة! بإفراد الضمير وتذكيره، مراعاة اللفظ “كم”. وتقول؛ كم صديق قَدِما، أو: قدِموا؛ بتثنية الضمير، أوجمعه؛ مراعاة لما يقتضيه المعنى. وكذلك تقول: كم طالبة نجح، بمراعاة لفظ: “كم”، أو: كم طالبة نجحت ونجحتا، ونجحن؛ بمراعاة المعنى.

وهناك كلمات أخرى تشبه “كم” فى الحكم السابق، منها: “كِلاَ” و”كلتا”. وقد سبق الكلام عليهما من هذه الناحية. ومنها “منْ”، و”ما”و”كلٌّ” و”أىّ”. … كل متعلمة سافَرتْ، أو: سافَر، كل متعلمتين سافَر، أو: سافرتا. كل المتعلمات سافَر، أو: سافَرْن. …

أيّ رجل حضر. أيّ رجلين حضر، أو: حضرا … أيّ الرجال حضر، أو: حضروا، أيّ كاتبة حضر، أو حضرت، أيّ كاتبتين حضر، أو حضرتا، أيّ الكاتبات حضر، أو: حضرن.

بعض الناس غاب، في الصور المختلفة، مراعاة للفظ “بعض”. ويصح مراعاة المعنى، فيقال: بعض الناس غاب أو: غابت، أو، غابا، أوغابتا، أو: غابوا، أو: غبْن. ”

[ النحو الوافي (1/ 267-266) ]

وفي الهامش يقول :

“كما يراعى اللفظ أو المعنى في الضمير يراعي أيضا في كل ما يحتاج للمطابقة أحيانا، مثل: الخبر، والصفة ونحوهما -كما أشرنا في الصفحة الماضية- وكما يجيء في باب التوكيد ج3 م116 ص415.” [النحو الوافي (1/ 267)]

وبما أن هذا الضمير قد يكون -على الأغلب – العائد على الاسم الموصول في جملة الصلة، ففي هذا العائد  يقول النحو الوافي في سياق الحديث عن أحكام جملة الصلة:

“أن تكون مشتملة على ضمير يعود على اسم الموصول – غالباً- ويطابقه؛ إما فى اللفظ والمعنى معًا، وإما فى أحدهما فقط على التفصيل الذى سنعرفه. وهذا الضمير يسمى: “العائد، أو: الرابط” لأنه يعود – غالبًا – على الموصول، ويربطه بالصلة. ولا يكون إلا فى الموصولات الاسمية دون الحرفية.

ويجب أن تكون مطابقته تامة؛ بأن يوافق لفظ الموصول ومعناه. وهذا حين يكون الموصول اسمًا مختصًا؛ فيطابقه الضمير فى الإفراد، والتأنيث، وفروعهما؛ نحو: سَعِدَ الذى أخلص، واللذان أخلصا، والذين أخصلوا، والتي أخلصتْ، واللتان أخلصتا، واللاتى أخلصْن. ومن هذا قول الشاعر:

أمَنزلَتىْ مَىٍّ، سَلامٌ عليكما … هل الأزْمُنُ اللاَّتى مَضَيْنَ رَوَاجعُ

أما إن كان الاسم الموصول عامًّا “أى: مشتركاً” فلا يجب فى الضمير مطابقته مطابقة تامة: لأن اسم الموصول العام: لفظه مفرد مذكر دائماً، كما أسلفنا “مثل: مَنْ – ما – ذو- … ” ولكن معناه قد يكون مقصوداً به. المفردة، أو المثنى، أوالجمع. بنوعيها، ولهذا يجوز فى العائد “أى: الرابط” عند أمْن اللبس، وفي “غير أل”: مراعاة اللفظ، وهو الأكثر، ومراعاة المعنى وهو كثير أيضًا، بالتفصيل الذي عرفناه، تقول شَقِيَ مَنْ أسْرَف … فيكون الضمير مفردًا مذكرًا في الحالات كلها؛ مراعاة للفظ “من”، ولو كان المراد المفردة، أو المثنى، أو الجمع بنوعيهما. وإن شئت راعيْت المعنى، فأتيت بالرابط مطابقًا له؛ فقلت: من أسْرَفَتْ. من أسْرَفَتَا -من أسْرفُوا- من أسْرفَّن. فالمطابقة في اللفظ أو في المعنى جائزة في العائد على اسم الموصول المشترك. إلا إن كان اسم الموصول المشترك “أل” فتجب المطابقة في المعنى وحده؛ لخفاء موصوليتها بغير المطابقة، كما سبق عند الكلام عليها2.” [النحو الوافي (1/ 376-377)]

وفي الهامش يقول:

” ويجوز مراعاة المعنى بعد مراعاة اللفظ، ويجوز العكس، كما يجوز مراعاة اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ – كما في رقم 2 من هامش ص 349 -…. كل ذلك مع أمن اللبس. فإن حصل لبس من مراعاة اللفظ وجب مراعاة المعنى، نحو: أنصف من أنصفتك. فلا يصح من أنصفك إذا كان المراد أنثى. ومثل اللبس. … قبح الإخبار بمؤنث عن مذكر، نحو: من – هي حمراء- أمتك. وكذا في باقي المواضع الأخرى التي سبقت إليها الإشارة التفصيلية في رقم 2 من هامش 349.” [النحو الوافي (1/ 377)]

فأما مسألة قبح الإخبار ففيها نظر وخلاف بين النحويين، وهنا نقول أن كل هذا وارد في أساليب الحمل على المعنى، وقد أجاز الكوفيون عدم التطابق بين الموصول وصلته والمبتدأ وخبره في التذكير والتأنيث في مثل هذه الأساليب كالقول : مَن هو حمراء جاريتك / ومَن هو أحمر جاريتك ؛ فلا إشكال في عدم تطابقهما خاصة في الحمل على المعنى.   (ينظر : الحمل على المعنى في العربية، ص 103-104)

فبناء على كل هذا تتوجه الفقرات أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام، فتوجيهها على حمل الكلام على لفظ الاسم الموصول العام (ما) والذي هو في لفظه مفرد مذكر فقال : كما هو عادة، وكأنه قال: كالذي هو عادة .. ولم يحمل على معناه فلم يقل :كما هي عادة..

وعليه فلا لَبس ولا قُبح ولا خطأ واقع في كل تلك الفقرات؛ فهي على النحو التالي من التفسير:

كأنه قال:

1: أقبح الكلام هو عادة الأجلاف/ بأقبح الكلام الذي هو عادة الأجلاف / أو كالذي هو عادة…

2: الإيذاء بالأقلام هو عادة الحاسدين/ ومال إلى الكلم والإيذاء بالأقلام الذي هو عادة الحاسدين/ أو كالذي هو عادة الحاسدين

3: عرْض النصارى القصص محرفين مبدلين هو عادة الأشرار/ وعرْض النصارى القصص محرّفين مبدّلين الذي هو عادة الأشرار / أو كالذي هو عادة الأشرار

4: التحكم المحض هو عادة المتعصبين/ التحكم المحض الذي هو عادة المتعصبين/ أو كالذي هو عادة…

5: رفض رعاية كمالاته.. هو عادة المبطلين/ رفض رعاية كملاته.. الذي هو عادة المبطلين/ أو كالذي هو عادة المبطلين

6: الاسترجاع على موته هو عادة المؤمنين/ الاسترجاع على موته الذي هو عادة المؤمنين/ أو كالذي هو عادة المؤمنين.

وفي كل هذا إخبار بالمؤنث عن المذكر، وهو كثير في كلامنا، ولا خطأ ولا لبس ولا قبح فيه. ويسوغه ما ذكره النحو الوافي في قوله:

“إن كان مرجع الضمير متقدمًا، ولكنه يختلف فى التذكير أو التأنيث مع ما بعده مما يتصل به اتصالا إعرابيًّا وثيقًا – جاز فى الضمير التذكير أو التأنيث، مراعاة للمتقدم أو للمتأخر، مثل: الحديقة ناضرة الزرع، وهى منظر فاتن، أو: وهو منظر فاتن، ومثل: الزرع رعايته مفيدة، وهو باب من أبواب الغنى، أو: وهى باب من أبواب الغنى. وأسماء الإشارة تشارك الضمير فى هذا الحكم “كما سيجئ فى بابها، وفى باب المبتدأ … ” نحو: الصناعة غنى وهذه مطلب حَيَوىّ أصيل، أو: وهذا … ”  [النحو الوافي (1/ 266-265)]

فالارتباط الإعرابي الوثيق بين (ما) و (عادة) يسوغ رجوع الضمير على (ما) بالتذكير والتأنيث.

و(ما) تعني (الذي) الذي يفيد المفرد المذكر للعاقل وغير العاقل أيضا، كما في قوله تعالى:

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ } (النساء 164) ففيها جاء:

قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَمَا أَوْحَيْنَا) : الْكَافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ؛ تَقْدِيرُهُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِثْلَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ مِنَ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ. [التبيان في إعراب القرآن (1/ 409)].

وبناء على كل هذه الشواهد تثبت صحة كل الفقرات المذكورة من كلام المسيح الموعود عليه السلام.