المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 20
أعجمة هذه يا أعاجم العرب!؟
(ملحوظة: من يشق عليه قراءة المقال كله بإمكانه بعد المقدمة الانتقال إلى التلخيص والنتيجة)
المقدمة:
وردت الفقرات التالية في كتابات المسيح الموعود عليه السلام:
- “ولا ينجو أحد من غوائل النفس وشرورها إلا بعد أن يتقبله الله بإخلاصه، ويعصمه بفضله وحوله وقوته، ….فعَلَّم الله تعالى عباده أن يفروا إليه بالدعاء عائذا من شرورها ودواهيها ليُدخلهم في زُمر المحفوظين.” كرامات الصادقين (2/ 51)
- “وكنت أتوقع أن العلماء يعدونها من الآيات، ويعقدون لزَوري حبك النطاق بصحة النيات، وما زلت أسلي بالي بهذا الأمل، حتى وجدتهم فاسد النية والعمل” حجة الله (ص: 1)
- “والعجب أن هذه العلماء آمنوا بأن الله تعالى يوحي إلى المسيح …وإني أرى أن الله سلَب عنهم قوة الفيصلة…والسر في ذلك أنه ما رآهم حرِيًّا بالأسرار الإلهية، ورأى رؤوسهم خالية من القوى المدرِكة الفاطنة،“حمامة البشرى (2/ 20)
- فسيُضرَب عليهم الذلّة ويُمْسُون أخا عَيلة (حجة الله).
- “ ولا شك أن أهل الصلاح وأهل المعصية يرون ثمرات أعمالهم بعد الموت بغير مكثِ طرفةِ عين، وجنّتُهم ونارهم معهم حيثما كانوا، ولا تفارقانهما في آن.” حمامة البشرى (2/ 86)
وقد اعتُرض على ما جاء في هذه الفقرات من ألفاظٍ وضعناها بين الأقواس المزدوجة، حيث يرتكز هذا الاعتراض في عدم مطابقة هذه الألفاظ لسياق الكلام الذي سبقها خاصة من حيث الإفراد والتثنية والجمع. وقد عُرضت الفقرات الأربع الأُوَل على أنها أخطاء في صاحب الحال والحال التي تليه، نظرا لوجوب التطابق بين الحال وصاحبها في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث. وققيل ان السبب في كل هذه الأخطاء هي العجمة التي تفرض نفسها، وأن حضرته لا يمتلك ناصية اللغة.
وبالنظر إلى الفقرات الثانية والثالثة والرابعة نرى أن الألفاظ المعترض عليها فيها والمشار إليها بالخط العريض، لا بد من اعتبارها مفعولا ثانيا للأفعال الناسخة التي تنصب مفعولين أو تنصب الخبر وهي: “وجدتهم” و “رآهم” (التي من أخوات “ظن”)، و”يمسون” ( التي من أخوات كان). وهذه الألفاظ المنصوبة ليست “حالا” بل مفاعيل منصوبة أو خبرا منصوبا، ولكننا سنأخذها ونعتبرها على أنها شبيهة بالحال على حد قول الفراء فيها حيث جاء في أوضح المسالك :
“ذهب الجمهور إلى أن أصل مفعولي ظن وأخواتها مبتدأ وخبر،…..
وذهب الفراء إلى أن المنصوب الأول: مفعول، والمنصوب الثاني منصوب على التشبيه بالحال” {أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (2/ 28)}
ووفق الاعتراض الذي قدم، قيل بأن الألفاظ:” عائذا”، “فاسد”، “حريا”، “أخا”، “تفارقانهما” التي جاءت بصيغة المفرد والمثنى، كان من الواجب إيرادها بصيغة الجمع كما يلي: “عائذين”،”فاسدي”، “حريين”،” إخوة”، “تفارقانهم”.
الرد بحثا وتفصيلا:
الحمل على المعنى في اللغة العربية
الحقيقة أن اعتراضا كهذا يُثبت سطحية التفكير وقلة علم المعترضين لمدى عظمة اللغة العربية ومدى اتساعها وجزالتها وغناها بالتعابير والتراكيب اللغوية. إذ إن هذه الفقرات التي يُعترض عليها تخضع كلها تحت أسلوب خاص في اللغة العربية يعرف بأسلوب “الحمل على المعنى” والذي يراد به حمل الكلام على معنى مغاير لحقيقة اللفظ الوارد في السياق نفسه.
والحمل على المعنى أسلوب فاشٍ في اللغة العربية، ولم يكن الغرض والمراد من اللجوء إليه لحِكَمٍ بلاغية فقط كما يظن البعض، فهذا ما يقرّ به كتاب ” الحمل على المعنى في العربية” للدكتور علي عبد الله حسين العنبكي، حيث قال: أشار النحويون إلى كثرته في الكلام المنثور والمنظوم وأنه أكثر من أن يُحصى والشواهد عليه كثيرة جدا. (إ.هـ){( الحمل على المعنى 93)}
وقد أكّد ذلك ابن جني في حديثه عن هذا الأسلوب بقوله:
“وباب الحمل على المعنى بحر لا يُنْكَش ( أي: لا ينزف وينتهي ماؤه )، ولا يُفْئج (أي: لا يُبلَغ غوره) ولا يُؤبى (أي: لا ينقطع من كثرته). ولا يُغَرَّض (أي: لا ينزح ولا ينقص) ولا يُغضغض (لا ينزح ولا ينقص). وقد رأينا وجهه، ووكلنا الحال إلى قوة النظر وملاطفة التأوّل/ التأمل.” (إ.هـ) {الخصائص (2/ 437)}
وقد جاء الحمل على المعنى بالعديد من الأساليب والصيغ، سواء بالاقتصار عليه أو الانتقال منه وإليه قبل وبعد الحمل على اللفظ.
وقد اختلف النحاة في كل هذه الأساليب ومدى جوازها أو ضعفها ولهم فيها آراء وآراء. إلا أن الثابت في كل هذا، وهو الذي يهمنها، أن هنالك العديد من النحاة الذين أثبتوا كل هذه الأنواع والأساليب بشواهد قرآنية غاية في الروعة والفصاحة والبلاغة؛ وكذلك بشواهد من القراءات القرآنية المختلفة والشعر والنثر، مما يؤكد صحة هذا الأسلوب العربي والقرآني وفصاحته وبلاغته.
وقد قال ابن جني الذي كان أول من عُني بهذا المجال في كتابه الخصائص عن هذا الأسلوب العربي الفصيح ما يلي:
“فصل في الحَمْل على المعنى:
اعلم أن هذا الشَرْج غور من العربية بعيد، ومذهب نازح فسيح. قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورًا ومنظومًا؛ كتأنيث المذكر، وتذكير المؤنيث، وتصوير معنى الواحد في الجماعة، والجماعة في الواحد، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول أصلًا كان ذلك اللفظ أو فرعًا، وغير ذلك مما تراه بإذن الله.” (إ.هـ) {الخصائص (2/ 413)}
غير أن ابن جني لم يُجز أو قُل ضعَّف أسلوب العود الى اللفظ بعد اعتماد المعنى بقوله: “واعلم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ؛” {الخصائص (2/ 421)}
إلا أن الزركشي قد رد عليه في كتابه البرهان في علوم القرآن، مستشهدا بالقرآن الكريم بقوله:
” وَأَمَّا الْعَوْدُ إِلَى اللَّفْظِ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَقَدْ وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ كَمَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ.” {البرهان في علوم القرآن (3/ 384)}
وفي هذا الفصل من الحمل على المعنى، أفرد ابن جني في كتابه الخصائص حديثا خاصا لباب الواحد والجماعة، سقنا لكم أدناه الأمثلة التي أوردها في هذا الباب، كما سيأتي في موضعه.
حمل الواحد على معنى الجمع:
بما أن الفقرات المعترَض عليها من كتابات المسيح الموعود والمذكورة أعلاه، جاء في أغلبها المفرد بمعنى الجمع، نسوق الشواهد التالية لإثبات صحة هذا الأسلوب:
قال ابن جني في كتاب “المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/ 202):”ووقوع الواحد موقع الجماعة فاشٍ في اللغة، قال الله تعالى: {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي: أطفالًا”.
ويقول الفراء في “معاني القرآن”:
“لأن الواحد قد يكون فى معنى الجمع ولا يكون فِي معنى اثنين ألا ترى أنك تَقُولُ: كم عندك من درهم ومن دراهم، ولا يَجوز:كم عندك من درهمين. فلذلك كثرت التثنية ولم يُجمع.” {معاني القرآن للفراء (2/ 54)}
وفي كتاب الحمل على المعنى في العربية جاء ما يلي:
“وقوع المفرد بمعنى الجمع يجيء كثيرا في الكلام نثرا وشعرا؛ لأن الممفرد يدل على الجنس، وهو أصل للجمع، وإذا كان في الكلام ما يدل على انه مراد به الجمع جاز الإفراد لأن الغرض الدلالة على الجنس والواحد يحصل به المراد من ذلك . قال ابن جني: ووقوع الواحد موقع الجماعة فاش في اللغة……
المفرد النكرة يؤدي معنى الجمع؛ لأن النكرة تفيد الجنس الذي يدل على القليل والكثير، كما أن الواحد يقع موقع الجمع؛لأنه أصل له ولعدم حصول اللبس في الكلام ….
“جاء المفرد النكرة مرادا به الجمع في غير التمييز، من ذلك قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (37) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (38) } (الزخرف 37-38) جمع الضمير في إنهم و ليصدونهم حملا على معنى ( شيطان) لأنه بمعنى الجمع ، وإن كان لفظه واحد.
وقال تعالى: { وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (5) } (التحريم 5) أي ظهراء، ذكر أبو علي أنه بمعنى الجمع واللفظ مفرد. .. اما ابو حيان فقدر حذف موصوف والتقدير: فوج ظهير. والصحيح أن صيغة فعيل مما يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع …” (إ.هـ) {( الحمل على المعنى في العربية)}
ورغم أن الكاتب في كتاب “الحمل على المعنى” قد عدّ بعدها بعض الصيغ المفردة التي تأتي بالدلالة على الجمع مثل: اسم الجنس مثل( بشر) واسم الجنس الجمعي والمعرف بأل الجنسية والمصدر والنكرة والمضاف. إلا أن هذا لا يمنع الحمل على معنى الجمع في غيرها من الصيع المفردة أو تقدير محذوف لتتلاءم الألفاظ من حيث الإفراد والتثنية والجمع.
فمن أمثلة تقدير محذوف في الكلام قدّر أبو حيان حذف موصوف في الآية التالية ” والملائكة بعد ذلك ظهير” أي “فوج ظهير” . ومن أمثلة الحمل على المعنى كما قال البعض في تفسير الآية: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (75) } (الفرقان 75) فلم يقل تعالى “أئمة” بل إماما، حملا على معنى:اجعل كل واحد منا إماما.
كما أن ابن جني في كتابه الخصائص لم يقصر حمل المفرد على معنى الجمع على مثل هذه الصيغ ؛ فقد ذكر بعض الألفاظ المفردة المغايرة للصيغ أعلاه وأخذها على أنها “واحد وقع موقع الجماعة” مثل الكلمات ” أخ” و”مفقتوقا” حيث قال في كتابه الخصائص: “فقلنا أسلموا إنّا أخوكم … فقد برئت من الإحن الصدور”. وقال في شرحه: “… ويجوز (أخوكم) أن يكون واحدًا وقع موقع الجماعة كقوله:ترى جوانبها بالشحم مفتوقا”؛(إ.ه) { كتاب الخصائص}.
وهاكم الأمثلة التي أوردها ابن جني في كتابه الخصاص عند تفصيل حمل المفرد على معنى الجمع:
- هو أحسن الفتيان وأجمله، حمل المفرد على معنى الجمع “أجملهم”
- وميَّة أحسن الثقلين وجهًا … وسالفة وأحسنه قذالًا} حمل المفرد على معنى الجمع “أحسنهم” وقيل: السبب لأن الإفراد يؤلف ويكثر في هذا الموضع كأحسن فتى وأجمل فتى
- {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (83) } (الأنبياء 83) حمل لفظ المفرد “مَن” على معنى الجمع فقال يعملون بدلا من يعمل
- {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (113)} (البقرة 113) حمل “من” على اللفظ لأنها مفردة فقال “أسلم” ثم حملها على معنى الجمع بقوله” عليهم”
- فقلنا أسلموا إنّا أخوكم … فقد برئت من الإحن الصدور ( حمل المفرد ” أخوكم” على معنى الجمع “إخوانكم”)
- ترى جوانبها بالشحم مفتوقا ( حمل المفرد “مفتوقا” على معنى الجمع “مفتوقة” أي الجوانب )
إلى هنا النقل من كتاب الخصائص لابن جني (2/ 421-425).
وبذلك يثبت صحة حمل المفرد على معنى الجمع كأسلوب عربي قرآني فصيح وبليغ.
الجمع بمعنى المثنى:
وبما أن الفقرة الخامسة المعترض عليها أعلاه من كتابات المسيح الموعود عليه السلام قد وقع فيها الجمع بصورة المثنى (تفارقانهما)، لنا في هذا الباب أن نورد الشواهد التالية التي تؤكد صحة هذا الأسلوب وبلاغته:
جاء في معاني القرآن للفراء :
“وقوله: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ، فُتِقت السماء بالقطر والأرض بالنبت (كانَتا رَتْقاً) ولم يقل: رتقين (وهو) كما قال (ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً)” {معاني القرآن للفراء (2/ 201)}
فذكَر المفرد (رتقا) و”جسدا” وأراد به الجمع .كما أنه حمل الجمع (السماوات والأرض) على صيغة المثنى (كانتا.. فتقناهما) على اعتبار أنهما صنفين ( صنف السماء وصنف الأرضين) كما في الآية : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ}
وجاء في معانى القرآن للأخفش :
“وقال {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} قال {كَانَتَا} لأنه جعلهما صنفين كنحو قول العرب: “هُما لِقاحانِ سُودَان” وفي كتاب الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} . وقال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد الخمسون بعد المئتين] :رَأَوْا جَبَلاً فَوْقَ الجِبالِ إِذا الْتَقَتْ * رُؤُوسُ كَبِيَرِيْهنَّ يَنْتَطِحَانِ فقال “رُؤوسُ” ثم قال “يَنْتَطِحانِ” {معانى القرآن للأخفش (2/ 448)}
فحمل الجمع ( رؤوس الجبل والجبال الأخرى) بصورة المثنى على أنهما فريقان أو صنفان. وقد أورد ابن جني نفس هذا المثال في كتابه الخصائص عند حديثه عن حمل الجمع على معنى المثنى .
ومن الأمثلة الأخرى التي أوردها ابن جني في باب الحمل على المعنى في الواحد والجماعة ما يلي:
– حمل الجمع على معنى المفرد:
فيا ليت داري بالمدينة أصبحت … بأجفار فلج أو بسيف الكواظم (حمل الجمع “أجفار” و”كواظم” على معنى المفرد حيث قصد الجفر وكاظمة).
وإذا ذكرت أباك أو أيامه … أخزاك حيث تُقَبَّل الأحجار ( حمل الجمع “أحجار” على معنى المفرد حيث قصد الحجر الأسود في الكعبة المشرفة)
أقفر من أهله ملحوب… فالقطبيات فالذنوب ( حمل الجمع “قطبيات” على معنى المفرد لأنه يقصد به “القطبية”).
– حمل المثنى على معنى المفرد:
بان الخليط برامتين فودعوا … أو كلما ظعنوا لبين تجزع ( حمل المثنى “رامتين” على معنى المفرد حيث قصد “رامة” وهي مكان معروف)…..
– حمل المفرد بمعنى المثنى:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني … نكن مثل مَنْ يا ذئبُ يصطحبان ( حمل “من” على معنى المثنى رغم أنها مفردة اللفظ)
أخو الذئب يعوي والغراب ومن يكن … شريكيه تطمع نفسه كل مطمع ( حمل “من” على معنى المثنى رغم أنها مفردة اللفظ)
إلى هنا النقل من كتاب الخصائص لابن جني (2/ 421-425).
إمكانية وجواز عدم التطابق بين الحال وصاحبها:
وبناء على كل ما قدمناه من إثباتات على أسلوب الحمل على المعنى، يثبت إمكانية عدم تطابق الحال وصاحبها من حيث الإفراد والجمع عند حمل الكلام على المعنى، كما تؤكده الشواهد القرآنية والغوية التالية:
جاء في كتاب “الدر المصون في علوم الكتاب المكنون حيث ورد في سياق الحديث عن الآية الكريمة { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (14)} (النساء 14):
“…وفي نصبِ «خالدين» وجهان، أظهرهما: أنه حال من الضمير المنصوبِ في «يُدْخِلُه» ، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ. (إ.هـ){الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (3/ 614)}
إذًا، يُقرّ الكاتب أنه لا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً بسبب أخذ الكلام على المعنى.
ومن الآيات القرآنية الأخرى التي لم يتطابق الحال فيها مع صاحبه من حيث الإفراد والتثنية والجمع هي الآية التالية:
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (12)} (فصلت 12) فقال “طائعين” بدلا من “طائعتان” فحمل لفظ المفرد أو المثنى للسماء والأرض على معنى الجمع أي السماوات والأرضين.
لذا فلا إشكال في عدم تطابق الحال وصاحبها من حيث الإفراد والتثنية والجمع بشواهد قرآنية غاية في الفصاحة والبلاغة.
تلخيص البحث:
بناء على كل هذه الشواهد نخلص إلى ما يلي:
- الحمل على المعنى دون اللفظ فاش في اللغة العربية
- عند الحمل على المعنى ليس بالضرورة أن تتطابق الحال مع صاحبها أو الألفاظ المختلفة في نفس السياق، من حيث الإفراد والثنية والجمع.
- عدم التطابق هذا، وأسلوب الحمل على المعنى وارد في القرآن الكريم بكثرة وكذلك في القراءات القرآنية المختلفة، مما يؤكد جوازه وفصاحته وبلاغته.
- ممكن أن يُحمل المفرد على معنى المثنى والجمع، ولفظ المثنى على معنى المفرد والجمع، ولفظ الجمع على معنى المفرد والمثنى كما رأينا في الأمثلة المختلفة.
- وقوع الواحد موقع الجماعة فاش في اللغة وجائز على أنه أصل للجمع ويدل عليه خاصة إذا وُجد في الكلام ما يدل على أن المراد منه الجمع.
- هنالك بعض الصيغ والتعابير المفردة التي تأتي بمعنى الجمع كالتي تدل على الجنس، مثل المصدر واسم الجنس والمفرد النكرة كما فصلنا، أو بعض الموصولات مثل “من” الموصولة والألفاظ الأخرى مثل كلمة “أحد” في سياق النفي. غير أن الأمر ليس مقتصرا على هذه الصيغ بل من الممكن حمل لفظ مفرد غيرها على أنه يقع موقع الجماعة، كما أكّد ذلك ابن جني في كتابه الخصائص، على اعتبار أن المفرد هو أصل الجمع ويدل عليه خاصة إذا دل السياق على أن القصد منه هو الجمع.
- من الممكن تقدير محذوف لتتلاءم الألفاظ من حيث الإفراد والتثنية والجمع؛ كما في {الملائكة بعد ذلك “فوج” ظهير}.
- صيغة فعيل يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع.
- فحمل المفرد على معنى الجمع قد يتأتّى بواحد أو أكثر من الطرق التالية:
- كون اللفظ المفرد يؤدي معنى الجمع بذاته (كأن يدل على الجنس او تكون مصدرا أو يكون بصيغة فعيل وغيرها كما فصلنا)؛
- أو لكون اللفظ المفرد يقع موقع الجمع لأنه أصل له ولدلالة السياق على ذلك
- اذا لم يحمل اللفظ على المعنى من الممكن تقدير محذوف في الكلام.
النتيجة :
انطباق البحث على كلام المسيح الموعود عليه السلام في الفقرات أعلاه:
وبناء على هذه الخلاصة لا بد أن نرى كيفية انطباق كل هذا على فقرات المسيح الموعود عليه السلام، وذلك باتباع ثلاثة طرق: 1- إثبات أن بعض القواعد المذكورة آنفا تنطبق عليها. 2- أو بتقدير محذوف في الكلام يوجز تلاؤم الألفاظ من حيث الإفراد والتثنية والجمع.3- إيراد أمثلة مطابقة لهذه الفقرات من الأدب العربي.
نذكر كل فقرة مع شرح ما جاء فيها، وذِكر أكثر ما يمكن أن ينطبق عليها من القواعد أو الأمثلة السابقة الذكر، مع أنه من الممكن أن تنطبق عليها بعض الأمثلة والقواعد الأخرى :
الفقرة الأولى:
” فعَلَّم الله تعالى عباده أن يفروا إليه بالدعاء عائذا من شرورها ودواهيها ليُدخلهم في زُمر المحفوظين.” (كرامات، ص 68).
الشرح:
- فاللفظ “عائذا” هو واحد وقع موقع الجماعة. وهذا أكثر ما ينطبق على المثال التالي المذكور أعلاه: “ترى جوانبها بالشحم مفتوقا” إذ جاءت الحال فيه مفردة (مفتوقا) رغم أن صاحبها جمع (جوانبها)، حيث أكّد ابن جني هذه الإمكانية بإيراده المثال نفسه عند تفسيره المثال التالي: “فقلنا أسلموا إنّا أخوكم … فقد برئت من الإحن الصدور” في كتابه الخصائص. حيث قال في شرحه: “… ويجوز (أخوكم) أن يكون واحدًا وقع موقع الجماعة كقوله:ترى جوانبها بالشحم مفتوقا“؛(إ.ه) { كتاب الخصائص}. فأقر ابن جني أن “مفتوقا” رغم كونها مفردة جاءت لتدل على الجمع ولم توافق صاحب الحال في الجمع.
- وفي حمل آخر على المعنى لهذه الفقرة قد تحمل كلمة “عباد” التي هي جمع على معنى المفرد بتقدير “فريق العباد” فجاءت الحال منها ( أو من واو الجماعة في كلمة يفروا) مفردة “عائذا”.
- كما يمكن تقدير محذوف في المثال أعلاه “ترى جوانبها .. مفتوقا” وهو “كل جوانبها/ أقصى جوانبها/ أدنى جوانبها.. مفتوقا”.
- كما ينطبق هذا على المثال: وميَّة أحسن الثقلين وجهًا … وسالفة ((وأحسنه)) قذالًا}، حيث عاد فيه بالضمير المفرد على لفظ الجمع ” الثقلين”.
- ومن حيث عدم تطابق الحال مع صاحبها فهذا مماثل لما في الآية: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (12)} (فصلت 12) مع القلب، حيث حمل لفظ المفرد أو المثنى للسماء والأرض على معنى الجمع ألسماوات والأرضين، فلم تتطابق الحال مع صاحبها { ائتيا (مثنى) .. قالتا (مثنى).. اتينا (مثنى).. طائعين (جمع)}، وكما في آية {يدخله (مفرد) جنات … خالدين (جمع)}(النساء 14).
الفقرة الثانية:
“ وكنت أتوقع أن العلماء يعدونها من الآيات، ويعقدون لزَوري حبك النطاق بصحة النيات، وما زلت أسلي بالي بهذا الأمل، حتى وجدتهم فاسد النية والعمل” {حجة الله (ص: 1)}
الشرح:
- – اللفظ “فاسد” هو واحد وقع موقع الجماعة كالألفاظ “أخ” و “مفتوقا” في الأمثة أعلاه التي أقرها ابن جني.
- – كما يمكن تقدير محذوف وهي كلمة ” فريقا” أو “قوما” يرجع إلى العلماء، ليكون معنى الكلام (حتى وجدتهم فريقا فاسد النية). وهذا أكثر ما ينطبق على تقدير أبي حيان لمحذوف “فوج” في الآية: { وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (5)} (التحريم 5) أي “فوج ظهير”.
- – وقد يكون حملا على المعنى بأن يُحمل ” العلماء” على معنى “الفريق” الواحد فيعود اليهم بصيغة المفرد؛ ليكون الحمل على المعنى كما يلي: “حتى وجدت فريق العلماء فاسد النية” أو حتى وجدت كل واحد من العلماء فاسد النية؛ وذلك كما حمل البعض الآية: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (75) } (الفرقان 75) على معنى واجعل كل واحد منا إماما.
- – هذا بالإضافة لتشابه الفقرة مع الآيات الأخرى: { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت 12) و {يدخله جنات … خالدين (جمع)}(النساء 14)؛ في عدم تطابق الحال مع صاحبها في الإفراد والتثنية والجمع.
الفقرة الثالثة:
3- “والعجب أن هذه العلماء آمنوا …وإني أرى أن الله سلَب عنهم قوة الفيصلة،… والسر في ذلك أنه ما رآهم حرِيًّا بالأسرار الإلهية” حمامة البشرى (2/ 20)
الشرح:
- – جاء الحمل على المعنى في هذه الفقرة أكثر ما يكون منطبقا على كون كلمة “حريا” على وزن فعيل الذي يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع كما أسلفنا سابقا، وكما هو في الآيات: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (5)} (التحريم 5)، و: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (70) } (النساء 70) حيث فيها الكلمات “ظهير ورفيقا” مفردة على وزن فعيل أُريد بها الجمع.
- – هذا بالإضافة إلى انطباق كل ما ذكرناه في الشرح عن الفقرتين السابقتين على هذه الفقرة أيضا. حيث يكون “حريا” واحد وقع موقع الجمع، كما يمكن تقدير محذوف ” قوما” أو “حزبا” أو “فريقا” ليكون المعنى ” وما رأهم قوما حريا بالأسرار الإلهية”. او بالحمل على معنى “فريق العلماء أو حزب العلماء” فعاد إليهم بالمفرد. وكذلك التشابه بين هذه الفقرة مع الآيات القرآنية التي لم يتطابق فيها صاحب الحال مع الحال من حيث الإفراد والتثنية والجمع.
الفقرة الرابعة:
“فسيُضرَب عليهم الذلّة ويُمْسُون أخا عَيلة” (حجة الله).
الشرح:
- يكفي لتخريج هذه الفقرة في حمل كلمة “أخ” المفردة على معنى الجمع، أن نذكر ما جاء مشابها لها في كتاب الخصائص لابن جني حيث أورد المثال التالي: فقلنا أسلموا إنّا أخوكم … فقد برئت من الإحن الصدور. وذكر في شرحه عن كلمة “أخوكم” ما يلي:”… ويجوز (أخوكم) أن يكون واحدًا وقع موقع الجماعة كقوله: ترى جوانبها بالشحم مفتوقا” (إ.هـ)
- فنرى أن كلمة “أخ” المفردة ممكن أن تأتي بمعنى الجمع.
- كما يمكن تقدير محذوف: “يمسون “قوما/ فريقا/ أخا عيلة”.
- ويمكن الحمل على معنى فريق العلماء فعاد إليهم بالمفرد كما في الأمثلة السابقة.
الفقرة الخامسة:
” ولا شك أن أهل الصلاح وأهل المعصية يرون ثمرات أعمالهم بعد الموت بغير مكثِ طرفةِ عين، وجنّتُهم ونارهم معهم حيثما كانوا، ولا تفارقانهما في آن.” {حمامة البشرى (2/ 86)}
الشرح:
ففي هذه الفقرة حمَل المسيح الموعود عليه السلام أهل الصلاح وأهل المعصية على أنهما فريقان، فقال عن جنتهم ونارهم “لا تقارقانهما”، وعاد بضمير المثنى “هما” إلى فريقي أهل الصلاح وأهل المعصية ولم يأخذهما على الجمع، وهذا مطابق تمام التطابق للأمثلة التي أوردناها أعلاه وهي:
كما جاء في معانى القرآن للأخفش :
“وقال {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} قال {كَانَتَا} لأنه جعلهما صنفين كنحو قول العرب: “هُما لِقاحانِ سُودَان” وفي كتاب الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} . وقال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد الخمسون بعد المئتين] :
رَأَوْا جَبَلاً فَوْقَ الجِبالِ إِذا الْتَقَتْ * رُؤُوسُ كَبِيَرِيْهنَّ يَنْتَطِحَانِ فقال “رُؤوسُ” ثم قال “يَنْتَطِحانِ” {معانى القرآن للأخفش (2/ 448)}
فحمل الجمع ( رؤوس الجبل والجبال الأخرى) بصورة المثنى على أنهما فريقان من الجبال فقال “ينتطحان”.
فثبت من كل ما تقدم صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه، أولا: بإيراد أمثلة مطابقة لها تمام التطابق من الأدب العربي لا سيما من القرآن الكريم، وهو ما ينطبق على كل الفقرات أعلاه. ثانيا: لكون التطابق بين الحال وصاحب الحال من حيث الإفراد والتثنية والجمع ليس ضروريا عند حمل الكلام على المعنى وأكدنا ذلك بشواهد قرآنية، وهذا ينطبق على الفقرات الأربع الأُوَل. ثالثا:لأن المفرد قد يقع موقع الجمع لأنه أصل له ويدل عليه خاصة إذا دل السياق على ذلك، وهذا ما ينطبق على الفقرات الأربعة الأوِل أيضا. رابعا: لأن بعض الصيغ المفردة تأتي للمفرد والمثنى والجمع مثل صيغة “فعيل” وهذا ينطبق على الفقرة الثالثة بالذات. خامسا: بإمكانية تقدير محذوف في الكلام لتتلاءم الألفاظ وهو ما ينطبق على الفقرات الأربع الأوِل أيضا.
وبذلك ثبتت صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكرة أعلاه، فلم يقع فيها أي خطأ ولا أي سهو ولا أي عجمة، بل ما جاء فيها من عدم تطابق الحال مع صاحبها ما هو إلا بسبب حمل الكلام على المعنى والذي هو لغة عربية فصيحة وبليغة شائعة في القرآن الكريم بالذات، وواردة في الكثير من الآيات القرآنية.
وبذلك يكون الحمل على المعنى من حيث الإفراد والتثنية والجمع، مظهرا جديدا من مظاهر الإعجاز اللغوي في لغة المسيح الموعود عليه السلام، جاء ليؤكد صدق معجزته في تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة من الله تعالى، وليؤكد ان حضرته عليه السلام يمتلك ناصية اللغة ولا تأثير للعجمة في لغته العربية البتة.