المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..44
دخول “أن” على خبر كاد وتوسُط هذا الخبر بين كاد واسمها.. 2
الاعتراض:
أخطأ المسيح الموعود عليه السلام في العبارة التالية وأمثالها:
- وكاد أن ينفطر عمود الإسلام. (سر الخلافة)
وذلك أن إقران خبر كاد بـ (أن) عامة غير مفضل نحويا، وكذلك فإن توسط هذا الخبر المقرون بأن بين كاد واسمها ممنوع نحويا.
الردّ:
لقد أجبنا في المقال السابق عن الشق الأول من الاعتراض، والذي يقول بعدم تفضيل اقتران خبر كاد بـ (أن) بشكل عام، وأثبتنا جواز وفصاحة هذا التركيب وفق القواعد النحوية، وظاهرة التقارض في النحو، وبورود هذا التركيب في كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أفصح الفصحاء ومن أوتي جوامع الكلم. فقطعنا الشك باليقين بكون هذا التعبير جائز فصيح في كلام العرب.
وأما بالنسبة للشق الثاني من الاعتراض، والذي يقول بمنع دخول أن على خبر كاد إذا توسط بينها وبين اسمها، فينقضه النحو الوافي بما يلي:
“إذا كان الخبر (خبر أفعال المقاربة) مقترناً “بأن” لم يجز – فى الأشهر1 – أن يتوسط بينها وبين اسمها، أما غير المقترن فيجوز كما فى خبر كان. {النحو الوافي (1/ 619)}
وفي الهامش: تعليقا على قوله ( في الأشهر) قال النحو الوافي ما يلي:
“في هذا الرأي المنسوب للشلوبين ومن معه – تضييق، بالرغم من أنه الأفصح. وهناك رأي للمبرد، والفارسي، والسيرافي، ومن معهم – يبيح التوسط. وفي هذا الرأي تيسير، وإزالة للتفرقة بين الخبر المقرون بأن، وغير المقرون بها، ولكنه غير الأفصح. {النحو الوافي (1/ 619)}
إذن، يقرّ النحو الوافي أن القول بعدم جواز توسط الخبر المقرون بأن بين كاد واسمها، ما هو إلا رأي لبعض النحاة مثل الشلوبين؛ وأن هنالك رأي آخر لنحاة آخرين مثل المبرد والسيرافي والفارسي الذي يجيز ذلك. ويقرّ النحو الوافي أن الرأي الأول ما هو إلا تضييق في اللغة، ويميل إلى ويرجح الرأي الثاني الذي يأخذ بالجواز لما فيه من تيسير وقلة في التعسف من التفريق بين الخبر المقرون بأن وغير المقرون بها. .
وإذا كان الرأي الثاني لهؤلاء النحاة يجيز اقتران الخبر المتوسط بين كاد واسمها بأن، فمن باب أولى عند كل هؤلاء إجازة هذا الاقتران عامة في خبر كاد سواء أكان مقدما أو مؤخرا عن اسمها. وهذا يؤكد ما قلناه في الرد على الشق الأول من الاعتراض، بجواز هذا الاقتران عامة في خبر كاد.
ونفس هذا الرأي سار على أفعال الشروع والرجاء المشابهة لأفعال المقاربة، حيث كرر النحو الوافي هذا الجواز عند حديثه عن كل واحد من هذه الأنواع. ( يُنظر النحو الوافي 1/ 621- 627)
ومما لا بدّ من ذكره أن النحو الوافي قد صنف الرأي الأول على أنه الأفصح؛ فماذا يعني هذا التصنيف؟ إنه يعني ببساطة أن الرأي الثاني فصيح أيضا ولكنه أقل فصاحة من سابقه.
وهذا يقودنا إلى استشهاد المعارضين بورود كاد في القرآن الكريم على غير ما أورده المسيح الموعود عليه السلام، إذ لا بد أن نؤكد ونقول: إنه لا شك بأن القرآن الكريم هو أسمى درجات الفصاحة والبلاغة؛ ولكن هذا لا يقول بأن الفصاحة مقصورة على لغة القرآن الكريم بل قد نجد من الكلام الفصيح على غير ما ورد في القرآن الكريم، والذي من الممكن أخذه من لغات القبائل الموغلة في البداوبة والمعروفة بنقاء لغتها وفصاحتها. وهذا ما أكدناه في المقال السابق بورود هذا التركيب في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فالفصاحة والبلاغة درجات ومستويات، وما لا يقع تحت أسمى درجات الفصاحة فهو ليس بالضرورة غير فصيح، بل قد يندرج في المدارج المتوسطة من الفصاحة والبلاغة، أو ما هو أعلى منها أو أدنى، ولكنه يبقى في عداد الفصيح. وعليه فإن عدم ورود بعض الأساليب العربية في القرآن الكريم لا يجعل منها بالضرورة غير فصيحة وغير جائزة، بل هي عربية جائزة فصيحة وبليغة ولكنها لا ترقى إلى البلاغة والفصاحة القرآنية.
فثبت من كل هذا ما يلي:
- جواز اقتران خبر كاد بأن .
- جواز توسط هذا الخبر المقترن بأن بين كاد وخبرها
- وكل هذا الجواز صحيح فصيح يجوز محاكاته.
- ثبت من كل هذا، أن ورود هذا التركيب في الفقرات أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام، ما هو إلا لغة عربية صحيحة وفصيحة، ومظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي، وتجلّ لمعجزة تعلم حضرته عليه السلام، اللغة العربية من الله تعالى في ليلة واحدة، حيث علمه أربعين ألفا من اللغات العربية.فهذه لغة من هذه اللغات.
دحض الاعتراض من وجهة إحصائية:
لقد أورد المعترضون سبع فقرات من كلام المسيح الموعود والتي ادّعَوا فيها العجمة والركاكة والخطأ، نظرا لاقتران خبر كاد بــ (أن) وتوسطه بين كاد واسمها بهذه الصورة. إلا أن هذا الاعتراض ينتسف دفعة واحدة إذا ما قمنا بعملية إحصاء بسيطة لورود (كاد) واستعمالها في لغة المسيح الموعود عليه السلام. إذ نجد أنها وردت ما يقارب 65 مرة أي ما يقارب عشرة أضعاف الفقرات المعترض عليها، وفيما عدا هذه الفقرات المعترض عليها، فقد وردت كاد بالتراكيب الأكثر شيوعا وفصاحة في عدم اقتران خبرها بأن وعدم توسط الخبر بين كاد واسمها أو باقترانه ب(أن) مؤخرا عن الاسم. نورد فيما يلي بعض هذه الفقرات:
- وكادت تلمَعَنْ أنوارُ شمسي. (تحفة بغداد )
- وكادوا يتميَّزون من الغيظ. (تحفة بغداد)
- وكادوا يقتلونني. (حمامة البشرى)
- تكاد السماوات يتفطرن منه. (حمامة البشرى)
- تكاد السماوات يتفطرن منها. (التبليغ)
- تكاد السماوات تتفطّرن. (الهدى والتبصرة لمن يرى )
- وكادت السماوات أن يتفطّرن به. (الهدى والتبصرة لمن يرى)
- وكادوا أن يقتلوه مشتعلين. (حمامة البشرى )
- وكادوا أن يقتلوه.( الخطبة الإلهامية )
- ولقد كادت أنوار الإسلام تغرُب. (نجم الهدى )
وإذا ما نظرنا إلى كل عبارات المسيح الموعود عليه السلام هذه والتي وردت فيها (كاد)، نرى أنها تجلٍّ واضح لبلاغة المسيح الموعود عليه السلام وامتلاكه لناصية اللغة، حيث يتفنن في تعابيره هذه بأساليب مختلفة؛ فمرة بتقديم الخبر على الاسم وتارة العكس، وتارة بإقران الخبر بأن وتارة دون إقترانه؛ فجاء في لغته بجميع أشكال التراكيب الممكنة في معاملة كاد مع اسمها وخبرها.
وهنا تكمن بلاغة المسيح الموعود الذي ملك ناصية اللغة وعرف اسرارها ودقائقها، فيتفنن في تراكيبها ويطيّع اللغة ويتلاعب فيها كيفما يشاء، دون الخروج عن جادة الصواب فيها؛ وهذا هو معيار البلاغة وامتلاك ناصية اللغة التي لا يمكن أن يحيط بها إلا نبي على حد قول الشافعي. وهذا ما وجدناه وذكرناه أعلاه في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم؛ فنرى أنه صلى الله عليه وسلم يجيز لنفسه أن يتفنن باللغة وأن يأتي بخبر كاد مقرونا بأن أيضا على غير ما جاء في القرآن الكريم. فهذه إذن، ميزة البلغاء.