المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..122

فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..21

سرّ التأنيث في كلمة (أحد)

الاعتراض:

اعتُرض على المسيح الموعود عليه السلام في تأنيثها لكلمة (أحد) في الفقرات التالية:

  • ومن سُنن الله القديمة المستمرة الموجودة إلى هذا الزمان التي ((لم تنكرها أحد من الجهلاء)) وذوي العرفان (سر الخلافة).
  • فتمسّ روحهم دقائقَ ((لا تمسّها أحدٌ من العالمين)). (سر الخلافة )

وقيل بوجوب أن تكون الأفعال مذكرة كما يلي: (لم يُنكرها أحد) و (لا يمسّها أحد). وأما تأنيث المسيح الموعود عليه السلام لهذه العبارات فمنبعه العجمة والخطأ.

الجواب:

إن منبع اعتراض المعترضين لهو الجهل بمعنى كلمة (أحد)! إذ يغلب على فكرهم أن كلمة (أحد) تعني (واحد)؛ غير أن الأمر ليس كذلك، بل لا بدّ  من كشف الستار عن دقائق هذه الكلمة حتى يتبين لنا سبب التأنيث الوارد في فقرات المسيح الموعود عليه السلام أعلاه.

فالسرّ في الأمر أن كلمة (أحد) تُحمل على معنى العموم أو الجمع أو الجماعة حينما ترد في سياق النفي أو الاستفهام، وهو ما يؤكده كتاب الحمل على المعنى في العربية حيث جاء فيه:

ومما يحمل على معنى العموم لفظة (أحد) إذا سُبقت بنفي، قال تعالى: { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (48)} (الحاقة 48)…وقال آخرون: إن (حاجزين) نعت لأحد وجُمع (حاجزين) حملا على المعنى؛ لأن (أحدا) يفيد العموم، لكونه في سياق النفي.

وقال تعالى: { وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (74)} (آل عمران 74) قيل: إن الضمير في (أو يحاجوكم) جُمع على معنى ( أحد) لأنه للعموم وقد تقدمه نفي هو ( أن) التي هي بمعنى (لا) أو لئلا. وفي قوله تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (27) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28) استثنى (مَن) من (أحد) لأن (أحدا) بمعنى الجمع. [ الحمل على المعنى في العربية 246-247]

وهذا ما يؤكده النحاس في إعرابه للقرآن، حيث قال بأن كلمة (أحد) تُحمل على معنى (الجماعة) لإفادتها العموم، كما يلي:

“إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ في موضع نصب على الاستثناء من (أحد) لأن (أحدا) بمعنى جماعة.” [إعراب القرآن للنحاس (5/ 37)]

وفي تفصيل معنى (أحد) جاء في كتاب “معاني النحو” أن كلمة (أحد) على ضربين الأول ما يفيد العموم  والجمع  عند وقوعه بعد النفي كما ذكرناه؛ والثاني ما هو بمعنى (واحد)، حيث جاء:

إن لفظه (أحد) كما يرى النحاة على ضربين:

الأول أن يراد بها عموم العقلاء، فتلزم الأفراد والتذكير، وتقع بعد النفي، والنهي، والاستفهام، والشرط، وفي غير الموجب عمومًا.، تقول (ما في الدار أحد) أي ما فيها شخص عاقل، قال تعالى: {هل يراكم من أحدٍ} [التوبة: 127]، وقال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} [التوبة: 6]، وقال: {إن تصعدون ولا تلون على أحد} [آل عمران: 153]، والذي يدل على وقوعها بلفظ واحد في المفرد وغيره قوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47]، وقوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]، فهذا جمع لأن (بين) لا تقع إلا على اثنين فما زاد. وقال تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32]، فأوقعها على المؤنث.

ويرى كثير من النحاة أن همزة (أحد) هذه أصلية وليست بدلا من الواو، ويرى آخرون أنها كصاحبتها الأخرى مبدلة همزة عن الواو، وهذا الذي يترجح عندي.

والضرب الآخر من ضربي (أحد) أن يراد بها معنى (واحد)، وأجمعوا على ان همزتها منقلبة عن واو وأصلها وحد (4).” [معاني النحو (3/ 273-274 )].

وجاء في كتاب “التحرير والتنوير” أن (أحد) يفيد العموم مثل كلمة (ديار) :

وَكَلِمَةُ أَحَدٌ اسْمُ نَكِرَةٍ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهَا شَخْصٌ أَوْ إِنْسَانٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ عَرِيبٍ وَدِيَارٍ وَنَحْوِهِمَا وَنَدَرَ وُقُوعُهُ فِي حَيِّزِ الْإِيجَابِ، وَهَمْزَتُهُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ وَأَصْلُهُ وَحَدَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَرِدُ وَصْفًا بِمَعْنَى وَاحِدٍ.” [التحرير والتنوير (3/ 283)]

وأما كتاب “درة الغواص” فقد أكّد كون كلمة (أحد) تفيد الجمع بقوله أنها لاستغراق الجنس حيث قال:

وَنَظِيره لَفْظَة أحد فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {لَا نفرق بَين أحد من رسله} ، وَذَلِكَ أَن لَفْظَة أحد تستغرق الْجِنْس الْوَاقِع على الْمثنى وَالْجمع وَلَيْسَت بِمَعْنى وَاحِد بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} ، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: مَا جَاءَنِي أحد، فقد اشْتَمَل هَذَا النَّفْي على استغراق الْجِنْس من الْمُذكر والمؤنث والمثنى وَالْمَجْمُوع.” [درة الغواص في أوهام الخواص (ص: 73-74)]

ويؤكد كل هذا لسان العرب بقوله إن لفظة (أحد) يستوي فيها المذكر والمؤنث والمفررد والجمع حيث جاء:

وَقَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ، لَمْ يَقُلْ كَواحِدة لأَن أَحداً نَفْيٌ عَامٌّ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ” (.لسان العرب )

وفي موضع آخر من لسان العرب جاء:

وَقَوْلُهُمْ مَا فِي الدَّارِ أَحد فَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ يَصْلُحُ أَن يُخَاطَبَ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ والمؤَنث وَالْمُذَكَّرُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ؛ وَقَالَ: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ

الخلاصة والنتيجة:

  • لفظ (أحد) لا تعني بالضرورة (واحد) بل هي على ضربين مختلفين أحدهما يفيد معنى (واحد) والثاني يفيد معنى العموم.
  • عند وقوع لفظ (أحد) بعد نفي أو استفهام أو شرط أو نهي، فهي حينها تفيد معنى العموم واستغراق الجنس.
  • عندما تفيد كلمة (أحد) معنى العموم، فهي تُحمل على معنى الجمع أو الجماعة.
  • وردت كلمة (أحد) بمعنى الجمع والجماعة في القرآن الكريم في الآيات التالية:

{ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (48)} (الحاقة 48) حيث جُمع نعتها.

{ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (74)} (آل عمران 74) حيث جُمع الفعل العائد عليها (يحاجوكم).

{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (27) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28) حيث تم الاستثناء منها.

  • ومن هنا نخلص إلى أن كلمة (أحد) عند وقوعها بعد النفي، ونظرا لاستغراقها الجنس فهي تُحمل على معنى الجمع، والجموع تُذكّر وتُؤنث وفق المذهب الكوفي، حملا لها على معنى الجماعة؛ فجاز أن يُؤنث فعلها.
  • وبناء على كل هذا تتضح صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه، والتي أنّث فيها الأفعال المسندة إلى كلمة (أحد)، وذلك من منطلق حمل كلمة (أحد) على معنى الجماعة كما في القرآن الكريم، أو يصح القول نظرا لكونها تفيد الجمع واستغراق الجنس، والجموع يجوز تذكيرها وتأنيثها وفق المذهب الكوفي. وذلك لأن في هاتين الفقرتين قد وردت كلمة (أحد) بعد نفي.
  • فيثبت من كل هذا عظمة المسيح الموعود عليه السلام، ومدى إلمامه وعلمه ومعرفته ليس بأسرار اللغة العربية فحسب، بل بأسرار القرآن الكريم التي لم تستطع أحد من أساتذة وعلماء اللغة المعاصرين اليوم من الإلمام به.
  • نتابع عدّ هذه الفقرات التي قمنا بتوجيهها في فنون التذكير والتأنيث.
  • ومن سُنن الله القديمة المستمرة الموجودة إلى هذا الزمان التي ((لم تنكرها أحد من الجهلاء)) وذوي العرفان (سر الخلافة). [التأويل: لم تنكرها جماعة الجهلاء كلها.]
  • فتمسّ روحهم دقائقَ ((لا تمسّها أحدٌ من العالمين)). (سر الخلافة ). [التأويل: لا تمسها جماعة العالمين كلهم].