# المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..202
صحة صياغة اسم المرة (جَهلة) قياسا على القاعدة الصرفية
الاعتراض:
في اعتراض المعترض على كلمة (جهْلة / جهَلات) التي استعملها المسيح الموعود عليه السلام قال المعترض ما يلي:
“ثم إنّ هناك أفعالا لا يُشتقّ منها اسم المرة، لأنها غير قابلة للعدّ، فالضربات تُعَدّ، أما الجهل فلا يُعَدّ، بل هو صفة ثابتة تلازم صاحبها، فلا يقال جهل جهلةً واحدةً، لأنّ هذا التعبير يعني أنه كان عالما طوال الوقت، ثم جهل لحظةً، ثم عاد عالما، وهذا غير معقول.”
الردّ:
نعم إن القاعدة الرائجة تمنع صوغ اسم المرة من الأفعال العقلية أو الصفات الثابتة، وهذا ما ذهب إليه عباس حسن في النحو الوفي فقال:
“ولا بد في صياغة “فَعْلة” الدالة على “المرة” من تحقق شرطين: أن تكون لشيء حسي صادر من الجوارح الظاهرة والأعضاء الجسمية، وأن يكون ذلك الشيء المحسوس غير ثابت؛ فلا تصح صياغة “فَعْلة” لدلالة على أمر معنوي عقلي محض، كالذكاء، أو العلم، أو الجهل، أو النبوغ … ولا تصح صياغتها من الأوصاف الثابتة؛ كالظرف، والحسن. والملاحة، والقبح، والطول، والقصر …” النحو الوافي (3/ 227)
ولكن في الحقيقة بعد البحث والتحري يتضح أن هذه القاعدة ليست قطعية، والمسألة خلافية بين النحاة، فقد اختلفوا في كون صياغة اسم المرة على وزن فَعلة أهو قياسي مطلقا أو غير قياسي، ومنهم من لم يشترط القياس على الأفعال المحسوسة فقط، ولم يمنع القياس من الأفعال العقلية ولا من الأفعال التي تدل على صفات ثابتة.
وفي هذا يقول ابن عقيل في المساعد ما يلي:
“(ويُدَلُّ على المرة بفعلة) – كضربة وجلسة؛ وكلام النحويين على أن هذا مقيس في الثلاثي التام التصرف؛ وفي البسيط: ليس لحوق هذه الهاء قياساً، فلا يقال: فهمة.” [المساعد على تسهيل الفوائد (2/ 624- 623)]
ومعنى كلام ابن عقيل أن النحاة الأوائل ذهبوا إلى القياس في اسم المرة على وزن (فَعلة) دون هذا التقييد، أي دون القصر على الأفعال الحسية فقط؛ ويظهر هذا أيضا من شرحه هو لألفية ابن مالك، فلا قيود هناك على الأفعال الحسية ولا منع لهذه الصياغة من الأفعال العقلية والثابتة.
وللتحقق من هذا الأمر عُدت إلى العديد من كتب النحو القديمة وتحققت مما جاء فيها في باب اسم المرة، فاتضح لي أن قول ابن عقيل صحيح تماما. إذ إنني لم أجد النحاة الأوائل مثل سيبويه والسيرافي والمبرد وابن سهل النحوي والجرجاني وابن مالك وبعض شراح الألفية، لم أجدهم يذهبون إلى هذا التقييد أو يذكرونه. وإنما على ما يبدو لي فإن هذا التقييد قد جاء متأخرا أو من قبل بعض النحاة فقط، فراج هذا التقييد في الكتب المتأخرة حملا له على المنطق، متناسين إمكانية المجاز فيه وسعة الفكر والكلام.
وهاكم قائمة من الكتب والمؤلفين الذين لم أجد هذا التقييد عندهم:
1: الكتاب: الكتاب
المؤلف: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (المتوفى: 180هـ)
2: الكتاب: شرح كتاب سيبويه
المؤلف: أبو سعيد السيرافي الحسن بن عبد الله بن المرزبان (المتوفى: 368 هـ)
3: الكتاب: المقتضب
المؤلف: محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد (المتوفى: 285هـ)
4: الكتاب : شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك
المؤلف : ابن عقيل ، عبد الله بن عبد الرحمن العقيلي الهمداني المصري (المتوفى : 769هـ)
5: الكتاب: الأصول في النحو
المؤلف: أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي المعروف بابن السراج (المتوفى: 316هـ)
6: الكتاب: المفتاح في الصرف
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (المتوفى: 471هـ)
7: الكتاب: شرح المفصل للزمخشري
المؤلف: يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع (المتوفى: 643هـ)
8: الكتاب: الشافية في علم التصريف (ومعها الوافية نظم الشافية للنيساري – المتوفى في القرن 12)
المؤلف: عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب الكردي المالكي (المتوفى: 646هـ)
9: الكتاب: شرح شافية ابن الحاجب
مع شرح شواهده للعالم الجليل عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب المتوفي عام 1093 من الهجرة
المؤلف: محمد بن الحسن الرضي الإستراباذي، نجم الدين (المتوفى: 686هـ)
10: الكتاب: شرح شافية ابن الحاجب
المؤلف: حسن بن محمد بن شرف شاه الحسيني الأستراباذي، ركن الدين (المتوفى: 715هـ)
11: الكتاب: شرح تسهيل الفوائد
المؤلف: محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين (المتوفى: 672هـ)
12: الكتاب: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك
المؤلف: علي بن محمد بن عيسى، أبو الحسن، نور الدين الأُشْمُوني الشافعي (المتوفى: 900هـ)
13: الكتاب: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
14: الكتاب: إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك
المؤلف: برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية (المتوفى 767 هـ)
15: الكتاب: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (2/ 868)
المؤلف : أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (المتوفى : 749هـ)
وأما من المصادر التي وجدت فيها هذا التقييد، فكانت بالإضافة إلى النحو الوافي الذي ذكرناه في مستهل هذا البحث المصادر التالية:
1: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (3/ 207)
المؤلف: عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام (المتوفى: 761هـ)
2: ضياء السالك إلى أوضح المسالك (3/ 45)
المؤلف: محمد عبد العزيز النجار
3:حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك
المؤلف: أبو العرفان محمد بن علي الصبان الشافعي (المتوفى: 1206هـ)
وهذه المصادر التي ذهبت إلى التقييد هي مصادر متأخرة، علاوة على أن التقييد التي ذهبت إليه لم يقل به العديد من النحاة الأوائل. ويكفينا كل هذا لإثبات أن القاعدة التي تقيّد صوغ اسم المرة من الأفعال الحسية ليست هي بقطعية. وهذا يؤكد صحة ما ذهبنا إليه في المقال السابق حيث قلت:
“فإذا كانت القاعدة اللغوية تمنع اشتقاق اسم المرة من الفعل (جهل)، … فمجيئ هذه الكلمة في عصور الاحتجاج على ما يخالف القواعد النحوية والصرفية، لهو دليل على خطأ القواعد نفسها لا على الخطأ في الكلمة، لأن القواعد تُشتق من اللغات وتخضع لها وليس العكس بصحيح.”(ينظر: المظاهر الإعجازية 199 على الرابط: https://wp.me/pcWhoQ-5fD )
ولعل ما يقطع الشك باليقين في هذه المسألة هو ما جاء في شرح الرضي للكافية حيث قال أن دخول التاء على المصادر للدلالة على الوحدة والآحاد هو قياسي فقال في المعاني التي تجيء لها التاء:
“الثاني: لفصل الآحاد المخلوقة، وآحاد المصدر، من أجناسها، كنخل، ونخلة، وتمر وتمرة، وبط وبطة، ونمل ونملة، ففي قوله تعالى: (قالت نملة) يجوز أن يكون: (النملة) مذكرا، والتاء للوحدة، فتكون تاء (قالت) لتاء الوحدة في (نملة)، لا لكونها مؤنثا حقيقيا، كما يجيئ، والمصادر نحو: ضرب وضربة، واخراج واخراجة، واستخراج واستخراجة، وهو قياس في كل واحد من الجنسين المذكورين،” [شرح الرضي على الكافية (3/ 325)]
وهو يقصد من الجنس الاخير المصادر. وقد اكد الاستاذ محمد شوقي امين على قياسية دخول تاء الوحدة على المصادر، مستشهدا بقول الرضي المذكور اعلاه. ويضيف شوقي امين ما يلي:
” لا يكاد يشذ نحوي عن القول بأن من أغراض التاء ومعانيها أن تكون فارقة بين الآحاد أو المرات من أسماء الأجناس أو المصادر،…. وهو يكادون يجمعون كذلك على أن لحوق هذه التاء قياسي في المصادر، من نحو: الضرب والأكل“ (في أصول اللغة،ج3، ص 31)
وقول الرضي مرفقا بقول الأستاذ محمد شوقي أمين، يؤكد النتيجة التي وصلنا إليها، بأن التقييد في صوغ اسم المرة على المحسوسات، لهو تقييد متأخر لا أصل له عند النحاة الأصليين. وأن صوغ اسم المرة من المصادر العقلية جائز أيضا، بدخول تاء الوحدة أو تاء المرة على المصدر.
وقد أجزل الحديث عن صيغتي فَلعة وفِعلة عضو المجمع القاهري الأستاذ شوقي ضيف، في مقال بعنوان “صيغ أكثر من أن تحصى في العربية” ، عرض من خلاله الاستعمالات المختلفة لهاتين الصيغتين، فقال في فَعلة إنها تأتي مصدرا ك:رَحمة وحَيرة وخَشية؛ واسما للمرة كـ: زَلّة وهَفوة وهَدأة، وللجمع شذوذا كـ: رَجلة، واسما للجنس كـ:بلدة وزهرة وصخرة، واسم عَلَم كـ: طَيْبة وكَعبة. ثم كثر استعمالها في أسماء الأمراض مثل السَّكتة والسَّعفة والرَّعشة والدَّمعة وغيرها.
وبعد عرضه هذا خلص الأستاذ شوقي ضيف إلى ما يلي:
” وبعد هذا الاستعراض لصيغتي فَعلة وفِعلة وكثرة قياس الأسلاف والمعاصرين عليهما في وضع مصطلحات الأمراض والأدوية، حريّ بالمجمع أن يُجيز القياس عليهما، لا في مصطلحات الطب والصيدلة فحسب، بل أيضا في مصطلحات العلوم المختلفة بحيث يضع القرار التالي: ابتغاء للتيسير في وضع المصطلحات العلمية يجيز المجمع أن تصاغ من صيغتي فَعلة بفتح الفاء وفِعلة بكسرها، صياغة قياسية مطردة.” (في أصول اللغة، ج4، ص 365-372)
فالدكتور شوقي ضيف يؤكد قياسية الاشتقاق على وزن فَعلة للاستعمالات المختلفة، نظرا لكثرة استعمالها إلى درجة تبيح هذا القياس، سواء اعتُبرت هذه الصيغة مصدرا أو اسما للمرة أو غيره (واسم المرة هو مصدر بحد ذاته).ولا نجد في كل هذا تقييدا يستثني الأفعال العقلية من هذا القياس.
وكل هذا يؤكد من جديد صحة الكلمات (جهلة/ وجهلات) التي وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام، أنها تسير وفق القاعدة الأصلية في صوغ اسم المرة قياسا على وزن (فَعلة)، دون التقييد الذي ذهب إليه بعض النحاة في وجوب كون الفعل من الأفعال الحسية لا العقلية ولا الثابتة.