إن من غريب اللفظ الوارد في كلام المسيح الموعود عليه السلام ما جاء في الفقرة التالية:
فالذي يقول أن الأصحاب الثلاثة كانوا من الكافرين والمنافقين أو الغاصبين فلا يُكفّر إلا كلهم أجمعين. (سر الخلافة)
إذ قد يخيّل لقارئ هذه الفقرة أنها لا تفيد المعنى المتوخى منها، وهو أن الذي يكفّر الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل فهو عمليا يكفر الصحابة كلهم أجمعين. فهذا، فعلا هو المعنى الذي قصده المسيح الموعود عليه السلام في هذه الفقرة.
غير أن الذي لا باع له في أسرار ودقائق اللغة العربية، قد يتعثر في فهم هذه الفقرة، ليظن أنها لا تفي بالمعنى المطلوب، ليكون المعنى المترتب عليها وفق فهمه الخاطئ، أن الذي يكفّر الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل فهو لا يكفر أحدا غير الصحابة كلهم.
ولدحض هذا الفهم الخاطئ وإثبات الفهم المقصود الذي عَناه المسيح الموعود عليه السلام ، نورد لذلك ثلاثة تخاريج:
التخريج الأول: وقوع كلمة ” كل” بعد النفي يفيد سلب العموم لا عموم السلب
جاء في كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 265) ما يلي: التركيز على الخط العريض في النصوص التالية
“قَالَ البيانيون إِذا وَقعت كل فِي حيّز النَّفْي كَانَ النَّفْي موجها إِلَى الشُّمُول خَاصَّة وَأفَاد بمفهومه ثُبُوت الْفِعْل لبَعض الْأَفْرَاد كَقَوْلِك مَا جَاءَ كل الْقَوْم وَلم آخذ كل الدِّرْهَم وكل الدَّرَاهِم لم آخذ وَقَوله (مَا كل رَأْي الْفَتى يَدْعُو إِلَى رشد … )، وَقَوله (مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ … ).
وَإِن وَقع النَّفْي فِي حيزها اقْتضى السَّلب عَن كل فَرد كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أنسيت أم قصرت الصَّلَاة كل ذَلِك لم يكن؛ وَقَول أبي النَّجْم- (قد أَصبَحت أم الْخِيَار تَدعِي … عَليّ ذَنبا كُله لم أصنع)
وَقد يشكل على قَوْلهم فِي الْقسم الأول قَوْله تَعَالَى {وَالله لَا يحب كل مختال فخور}
وَقد صرح الشلوبين وَابْن مَالك فِي بَيت أبي النَّجْم بِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْمَعْنى بَين رفع كل ونصبه ورد الشلوبين على ابْن أبي الْعَافِيَة إِذْ زعم أَن بَينهمَا فرقا وَالْحق مَا قَالَه البيانيون؛ وَالْجَوَاب عَن الْآيَة أَن دلَالَة الْمَفْهُوم إِنَّمَا يعول عَلَيْهَا عِنْد عدم الْمعَارض وَهُوَ هُنَا مَوْجُود إِذْ دلّ الدَّلِيل على تَحْرِيم الاختيال وَالْفَخْر مُطلقًا.” (إ.ه)
وجاء في كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (1/ 297) ما يلي:
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى كُلٌّ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ هِيَ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ نَحْوَ: كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ يَقُمْ أَفَادَتِ التَّنْصِيصَ عَلَى انْتِفَاءِ قِيَامِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَيْهَا مِثْلَ: لَمْ يَقُمْ كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ تَدُلَّ إِلَّا عَلَى نَفْيِ الْمَجْمُوعِ، وَذَلِكَ بصدق بِانْتِفَاءِ الْقِيَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ عُمُومَ السَّلْبِ وَالثَّانِي سَلْبَ الْعُمُومِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يُحْكَمُ فِيهِ بِالسَّلْبِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَالثَّانِيَ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ إِنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضِهِمْ.
قَالَ “الْقَرَافِيُّ”*: وَهَذَا شَيْءٌ اخْتُصَّتْ بِهِ كُلٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ، قَالَ: وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ، وَأَصْلُهَا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ” لَمَّا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ. (إ.ه)
ومن هذه الاقتباسات يثبت ما يلي:
- إذا وقعت “كل” بعد النفي فهي تفيد سلب الحكم عن المجموع لا عن كل فرد، بمعنى أن النفي في الحكم واقع على المجموع، رغم أن البعض من هذا المجموع لا يسري عليه هذا النفي، فيبقى الحكم سائرا على البعض.
- وعليه فعندما نقول: “لا يكفّر كلَهم” ، يكون المعنى أنه لا يكفّر الجميع بل يكفّر البعض منهم. فالمقارنة الحاصلة في هذه الصيغة هي بين المجموع والبعض المجتزَأ منه.
- فعند دخول أداة الاستثناء قبل “كل” يكون الاستثناء للمجموع مقارنة بالبعض المجتزأ منه ليكون معنى “فلا يُكفّر إلا كلهم“، أي يكفّر كلهم لا بعضهم. ووفقا لهذا، يكون معنى الفقرة الواردة عن المسيح الموعود عليه السلام: لا يكفر من الصحابة إلا كلهم، أو لا يكفر أحدا أو جزءا أو فريقا من الصحابة إلا كلهم، أو لا يكفر من مجموع الصحابة إلا كلهم، أو لا يكفر من كل الصحابة إلا كلهم.
التخريج الثاني: جواز استثناء المساوي والأكثر والمستغرِق عند البعض
ويُحمل جواز هذا الاستثناء على جواز استثناء المستغرِق من المستثنى منه عند بعض النحاة مثل الفرّاء، أو على جواز استثناء المُساوي للمستثنى منه أو استثناء الأكثر من المستثنى منه، عند بعض النحاة مثل نحاة الكوفة وغيرهم؛ كما تثبته ما بين الأقواس المزدوجة من النصوص والإثباتات التالية المؤكَدة بالأمثلة القرآنية والحديثية:
جاء في كتاب همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 266)ما يلي:
” وَيجوز اسْتثِنَاء الْمسَاوِي خلافًا لقوم، وَالْأَكْثَر وفَاقا لأبي عُبَيْدَة والسيرافي والكوفية وَعَلِيهِ (كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته) إِلَّا الْمُسْتَغْرق خلافًا للفراء وَفِي الْعدَد ثَالِثهَا لَا يجوز عقد صَحِيح وَهُوَ من الْإِثْبَات نفي وَعَكسه خلافًا للكسائي ومباحث الِاسْتِثْنَاء من صناعَة الْأُصُولِيِّينَ (ش) قَالَ أَبُو حَيَّان اتّفق النحويون على أَنه لَا يجوز أَن يكون المستثني مُسْتَغْرقا للمستثنى مِنْهُ وَلَا كَونه أَكثر مِنْهُ إِلَّا أَن ابْن مَالك نقل عَن الْفراء جَوَاز لَهُ على ألف إِلَّا أَلفَيْنِ
وَاخْتلفُوا فِي غير الْمُسْتَغْرق فَأكْثر النَّحْوِيين أَنه لَا يجوز كَون الْمُسْتَثْنى قدر الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَو أَكثر بل يكون أقل من النّصْف وَهُوَ مَذْهَب الْبَصرِيين وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور والأبذي وَأكْثر الْكُوفِيّين أَجَازُوا ذَلِك وَهُوَ مَذْهَب أبي عُبَيْدَة والسيرافي وَاخْتَارَهُ ابْن خروف والشلوبين وَابْن مَالك وَذهب بعض الْبَصرِيين وَبَعض الْكُوفِيّين إِلَى أَنه يجوز أَن يكون الْمخْرج النّصْف فَمَا دونه وَلَا يجوز أَن يكون أَكثر من ذَلِك وَيدل لجَوَاز الْأَكْثَر قَوْله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} [الْحجر: 42] والغاوون أَكثر من الرَّاشِدين {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه} [الْبَقَرَة: 130] وَحَدِيث مُسلم:
(يَا عبَادي كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته) والمطعمون أَكثر قطعا، ولجواز النّصْف قَوْله تَعَالَى: {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا نصفه} [المزمل: 2 – 3] قَالَ أَبُو حَيَّان وَجَمِيع مَا اسْتدلَّ بِهِ مُحْتَمل التَّأْوِيل والمستقرأ من كَلَام الْعَرَب إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِثْنَاء الْأَقَل و…“
وجاء في كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (1/ 368) ما يلي:
“وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَانِعِينَ مِنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ5 مِنَ النُّحَاةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
وَأَمَّا جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْمُسَاوِي فَبِالْأَوْلَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}. (إ.ه)
ومن هذه الاقتباسات يثبت ما يلي:
- فكل هذه النصوص تثبت جواز استثناء الأكثر والمساوي عند الكوفيين وغيرهم، وحتى تثبت استثناء المستغرق وإن كان قد ورد فقط عن الفراء.
- فبناء على كل هذا يثبت صحة استثناء كل الصحابة من بعضهم، بتقدير قول المسيح الموعود: لا يكفّر من الصحابة إلا كلهم، أو لا يكفّر أحدا أو جزءا أو فريقا من الصحابة إلا كلّهم، نظرا لجواز استثناء المستغرق والأكثر؛ أو بتقدير لا يكفّر من مجموع الصحابة إلا كلهم، أو “لا يكفّر من كل الصحابة إلا كلهم”، نظرا لجواز استثناء المساوي.
التخريج الثالث: الاستثناء من النفي إثبات للحكم
جاء في كتاب همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 268) ما يلي:
” وَمذهب الْجُمْهُور أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فنحو قَامَ قوم إِلَّا زيدا وَمَا قَامَ أحد إِلَّا زيدا يدل الأول على نفي الْقيام عَن زيد وَالثَّانِي على ثُبُوته لَهُ ..” (إ.ه)
وجاء في كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (1/ 369)
“وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِثْبَاتٌ، وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إِثْبَاتًا …..
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، …..
وَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ ( يقصد الحنفية) صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ تَوْحِيدًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيٍ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إله إلا الله” 1.” ( إ.ه)
ووفق هذا المبدأ تُحل الغرابة الموهومة في فقرة المسيح الموعود عليه السلام، إذ إن استثناء أمر من الحكم المنفي يثبت وقوع الحكم عليه، فيكون معنى قول المسيح الموعود “فلا يُكفّر إلا كلهم” أي يكفر كلهم، وبإعادة العبارة كلها مرة أخرى:
فالذي يقول أن الأصحاب الثلاثة كانوا من الكافرين والمنافقين أو الغاصبين فلا يُكفّر إلا كلهم أجمعين. (سر الخلافة) يكون المعنى وفق المبدأ المذكور: فالذي يقول أن الأصحاب الثلاثة كانوا من الكافرين والمنافقين أو الغاصبين فهو يكفرهم كلهم أجمعين إي الصحابة).وهذا هو المعنى الذي قصده حضرته عليه السلام تماما.
إذن، نرى أنه بالأخذ بعين الاعتبار التخاريج الثلاثة الآنفة الذكر سواء منفردة، أو مجتمعة مع بعضها البعض، فهي تؤكد صحة عبارات المسيح الموعود عليه السلام التي وقع فيها استثناء الكل من النفي.
ولا يخفى على القارئ مدى الاختلاف بين النحويين في هذه الأحكام والمبادئ النحوية كلها، سواء في إثبات الحكم على المستثنى من النفي، أو شمول النفي عند وقوع “كل” بعد أو قبل أداة النفي، أو في استثناء المستغرق، والأكثر، والمساوي، وحتى استثناء الأقل اختلفوا في مدى قلته من أجل أن يصح الاستثناء فيه، وكذلك اختلافهم في استثناء العدد. أوليس هذا إثبات آخر على ما قاله المسيح الموعود عليه السلام، بأن مذهبه هو أن علماء النحو والصرف لم يصلوا إلى جميع القواعد النحوية بعد، وأن عملهم في تقعيد اللغة لم يكتمل بعد، وأن قواعد اللغة بحر لا شاطئ له!؟
ومن هنا ثبت مرة اخرى أن اللغات التالية:
- استثناء المستغرق أو الأكثر أو المساوي
- الاستثناء من النفي لهو إثبات لوقوع الحكم على المستثنى.
- وقوع كلمة ” كل” بعد النفي يفيد سلب الحكم عن العموم وإثباته على البعض.
لهي كلها لغات صحيحة من اللغات العربية التي سمعت عن العرب وأخذ بها بعض النحاة. وثبتت معجزة المسيح الموعود عليه السلام مرة بعد أخرى بتعلّمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة، فجاءت هذه اللغات الآنفة الذكر من بين ما تعلمه عليه السلام من الله العلّام.
وبذلك ثبتت نبوّته عليه السلام مرة أخرى، بإثبات إلمامه بأدق دقائق اللغة العربية التي يجهلها أبناؤها وعلماؤها.
وبعد هذا قلت وأقول مرة أخرى، إنني على يقين أن أي غريب في ألفاظ المسيح الموعود عليه السلام، إذا لم يندرج تحت السهو في النقل والكتابة والغفلة، فلا بدّ أن نجد له تخريجا لغويا.
فيا أيها الأحمديون! آتوني غريب اللفظ من أقوال حضرته عليه السلام أخرجْه لكم، وإن طال الزمن، بعون الله فلا ناصر لنا إلا هو!!!!!!