المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..33
كان “التامّة الحُجّة” عقلا ومنطقا ..!
لقد سبق لنا في أحد المقالات أن قلنا بأنه لا خطأ وارد في كلام المسيح الموعود عليه السلام حين قال:” وما كان حديثٌ يُفترى” فلا خطأ في رفع (حديثٌ) لأن (كان) في هذه الجملة تامة ولا تحتاج إلى خبر. فما كان من زمرة المعارضين إلا أن يعترضوا على قولنا هذا بما يلي:
“هذا من سابع المستحيلات، ببساطة لأن المعنى سيتغير بشكل جدري. … معلوم لدى جميع من له أدنى إطلاع على علوم اللغة العربية أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وبالتالي يصير معنى عبارة الميرزا : لا يوجد أي حديث كاذب وكل الأحاديث صادقة…وليس هذا مراده قطعا…. وإنما أراد أن يقول ما كان حديثي حديثا يفترى، فرفع العاجز خبر كان، وهذا من أوضح مظاهر عجز الغلام التي تعد بالعشرات”
الردّ:
لقد سبق وقلت أن هذا الاعتراض الذي يوجهه المعارضون ما هو إلا قمّة السخافة والتفاهة ويدحضه العقل والمنطق قبل القواعد النحوية واللغوية، فلنبدأ بالعقل والمنطق.
يقول المعارضون أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ورغم أن هذا ليس صحيحا دائما كما سنبينه وفق القواعد النحوية، إلا أننا سنفترض ذلك، ونقول أنها تفيد العموم؛ ولكن لم يتنبه المعارضون إلى أنها تفيد العموم النسبي أو الوضعي أو السياقي الذي يحدده السياق، وهي لا تفيد عموم العموم بمعنى أنها لا تفيد العموم في كل زمان ومكان! ولكي أوضح ذلك سأضرب المثال التالي في الفقرة التالية:
“ لقد كان موعد الاحتفال قبل ثلاثة أيام، واجتمعت حشود غفيرة فيه، من الرجال والنساء، وتبادل الجميع أطراف الكلام، واجتمعوا لتناول الطعالم ثلاث مرات في اليوم، واستمعوا إلى خطابات ومحاضرات قيّمة، وصلَّوا جميعا خمس صلوات بالجماعة، وما بكى طفل!”
ففي هذه الفقرة، الفعل (بكى) تام المعنى يفيد الفعل والزمن وهو لازم، تماما كما (كان التامة)؛ وأما (طفل) فهي نكرة في سياق النفي ولنفترض أنها تفيد العموم؛ فهي بذلك وفق السياق الواردة فيه كما هو واضح لكل عاقل ولكل من له حسٌ لغوي مرهف، أنها تعني: ما بكى أي طفل (عموما) في هذا الاحتفال وفي كل الفعاليات التي ذكرت من قبل، فقط. إذن، فهي تفيد عموم الأطفال الحاضرين في هذا الاجتماع وفي الفعاليات المذكورة في السياق؛ ولكنها لا تعني بأي شكل من الأشكال أنه لم يبك طفل في هونولولول ولا في كفر صور ولا اعبلين ولا في المغرب ولا في الأماكن والأزمنة الأخرى غير تلك المذكورة في السياق نفسه. وبهذا فإن (طفل) نكرة في سياق النفي تفيد عموم الأطفال الموجودين في الاحتفال فقط، وهي لا تفيد عموم عموم الأطفال.
والآن فلو وضعنا عبارة “وما كان طفلٌ” بدل عبارة ” وما بكى طفل” فيكون المعنى أنه لم يوجد أي طفل في هذا الاحتفال وكل فعالياته المذكورة في السياق فقط، فالنفي لعموم الأطفال في هذا الاحتفال فقط، وليس نفي وجود الأطفال عموما في كل مكان وزمان آخر؛ فلا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن القصد هوعدم وجود أي طفل في أي زمان ومكان. وهذا هو المعنى الذي قصده المسيح الموعود عليه السلام في قوله:” ما كان حديثٌ يفترى” وقتلناه شرحا وتفصيلا في مقال سابق.
وهنا نذكر أحد هذه السياقات التي وردت فيها الفقرة: “وما كان حديث يفترى” لنبين انطباق ما فصلناه أعلاه عليها.
يقول المسيح الموعود عليه السلام: “فانظر كيف ذكر الله تعالى ههنا سلسلتين متقابلتين: سلسلة موسى إلى عيسى، وسلسلة نبيِّنا خيرِ الورى إلى المسيح الموعود الذي جاء في زمنكم هذا، وإنه ما جاء من القريش كما أن عيسى ما جاء من بني إسرائيل، وإنه عِلْمٌ لساعةِ كافّةِ الناس كما كان عيسى عِلْمًا لساعة اليهود. هذا ما أُشيرَ إليه في الفاتحة، ((وما كان حديث يُفترى))، وقد شهدت السماء بآياتها، وقالت الأرض الوقتُ هذا الوقت، فاتق الله ولا تيأس مِن رَوح الله، والسلام على من اتبع الهدى.( الخطبة الإلهامية)
والمعنى: ما وقع/حدث/ حصل/ وُجد حديث يفترى، في ما أشير إليه في الفاتحة، أوفي كلام وحديث الرسول بأنه علم للساعة، أو في كل ما فصّلناه سابقا، أو في ما جئتكم به كمسيح موعود ( بشكل عام)، أو بأني أنا المسيح الموعود، بل شهدت السماء على صدقه بآياتها كما شهدت الأرض…
ولا يمكن لعاقل أن يفهم من هذه العبارة أنه لم يقع ولم يوجد حديث يفترى في أي زمان ومكان، كما لم يفهم من الفقرة السابقة عدم بكاء أو وجود أي طفل في كل زمان ومكان كما يظنه المعارضون، فكلمة (حديثٌ) هنا هي نكرة في سياق النفي تفيد العموم المقيّد بالسياق أو المؤول كما يقول سيبويه وسنبينه لاحقا، ولا تفيد عموم العموم في كل زمان ومكان.
وكل هذا قد عُرف عند الأصوليين بتخصيص العموم بالسياق والذي هو : “إخراج بعض ما كان داخلا تحت العموم الوارد على صورة السبب بدليل خاص هو السياق، وهو مقام الحال أو القرينة الحالية”. والقرائن الدالة على هذا التخصيص متعددة يمكن أن نستشفها من النص والسياق فمنها قرائن لفظية، وسياقية أو حتى خارجية منفصلة وكذا عقلية.
هذا ما يحتمه المنطق والعقل والذوق والحس اللغوي السليم. وبناء على هذا العقل والذوق سننتقل في الجزء الثاني من الردّ إلى الناحية النحوية في الموضوع.