المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية..163

الفصاحة في لغات المسيح الموعود عليه السلام.. 10

لا خير في الكثير من تأويلات النحاة وتقييداتهم فلا بدّ من أخذ اللغات على ظاهرها ومحاكاتها كما هي

نتابع ما أورده العلامة عباس حسن في سلسلة مقالاته: “صريح الرأي في النحو العربي داؤه ودواؤه” :

10: مما عرض له عباس حسن في مقالاته، هي نظرية “العامل” وأثرها السلبي على اللغة العربية،  وما أحدثته من تقييد وتعقيد في اللغة، وذلك بتقسيماتها المختلفة للعامل من: لفظي ومعنوي ومذكور ومقدَّر أو محذوف، وما صُنف من بينها بأنه عامل قوي وآخر ضعيف، والآخر الذي يترنح بين القوة تارة والضعف تارة أخرى.

ونحن لسنا في صدد شرح هذه النظرية، إنما تبيان ما ضيّقته -عبثا- في اللغة وأساليبها وتراكيبها وبلاغتها، ومنعها من محاكات الكثير من فصيح الكلام وصحيحه الوارد عن فصحاء العرب، والحكم على اللغات والتراكيب بالضعف والشذوذ تعسفا. حيث أجاز النحاة ما اتفق مع هذه النظرية ومنعوا أو أوّلوا ما لم يتفق. وكل كلام لم يتفق مع هذه النظرية وإن كان كلام الله المتنزل في القرآن الكريم، أو حتى كلام النبي صلى الله عليه وسلم،- أفصح الفصحاء- والوارد في الحديث الشريف، أو أي قول فصيح لعربي فصيح ؛ فلا بد من إخضاعه إلى هذه النظرية بالتأويل، وإلا فلا بدّ من قذفه بالشذوذ والقلة والضعف وما شابهها، من أوصاف لم يُنزل الله بها من سلطان.

ورغم الإخضاع بالتأويل، فيبقى الأمر غير صالح للقياس عليه. وأما التأويل فهو بتقديرات مختلفة واللجوء إلى القول بالتقديم والتأخير، وحجج مصطَنعة أخرى كمثل: يُغتفر في المقدَّرات ما لا يُغتفر بالملفوظات”  و” يُغتفر في الثواني ما لا يُغتفر بالأوائل” أو ” يُتوسَّع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها”، وإن أجازوا أمرا في القرآن الكريم اقتصروه عليه، ومنعوه في كلامنا ومنعوا محاكاته.  كل هذا رغم أن هذه النظرية “العامل” نظرية إنسانية قابلة للنقد والنقض في آن واحد.  ويكفي لدحضها ما قالته القلة من النحاة، “إنه لا عامل في الألفاظ إلا المتكلم” لا سيما المتكلم  العربي الفصيح نفسه؛ إذ هكذا خُلقت الألفاظ على لسانه. وفي هذا يقول عباس حسن:

فليست المسألة اذاً مقصورة على حركة يجلبها العامل معه، أو يستبدل بها غيرها، وإنما تمتد إلى أثره في تكوين الكلمة، وتركيب الجملة، وبلاغة الأسلوب، فيباح لعامل مالا يباح لغيره، ويمنح واحدٌ ما يحرم على سواه؛ من حذف أو ذكر، وتقديم بعض الكلمات عليه، وتأخير بعض آخر، وإيجاب ذلك، أو جوازه، وتأويل ما يخالف ذلك ولو جاء في القرآن الكريم، والحديث الصحيح، وتأويله أو الحكم عليه بالشذوذ أو الضعف أو عدم القياس عليه إن جاء في كلام آخر عربي فصيح… و… و… إلى غير ذلك من ألوان التحكم المفسد، والتقييد الضار، لا لشئ إلا للخضوع للعامل الذي صنعناه بأيدينا، ونسينا أننا خلقناه؛ فقدسناه، وأحَطْناه بهالة من الجلال والإكبار أنْستْنا أصله والغرض منه.“[إ.هـ]

ويتابع في ضرر هذه النظرية :

إنما الضرر كل الضرر أن نسبغ على هذا العامل المصنوع ألواناً من القوة، وصنوفا من المزايا تجعله يتحكم ـ بغير حق ـ في المتكلم، ويفسد عليه تفكيره، ويعوقه في الأداء، ويتناول كلامه الصحيح الفصيح بالتشويه والتجريح، ويفرض عليه طرقا خاصة في التعبير تستمد سلطانها مما أسبغه النحاة على ذلك العامل، لا مما جرى على ألسنة الفصحاء من العرب الخلص، أو مما جاء به التنزيل الحكيم …” [إ.هـ]

وضرب عباس حسن بعض الأمثل التي تبين كيف أن هذه النظرية بتقييداتها العبثية، تضيّق على اللغة وأساليبها وتراكيبها كما يلي:

  1. مَنْع ان تقع الحال من المبتدأ، -رغم إقرار سيبويه بجوازه-مثل: “محمدٌ هاجمًا أسدٌ”، أو “هذا هاجما أسدٌ” ؛ بحجة أن العامل في الحال يجب أن يكون هو نفسه العامل في صاحب الحال، والابتداء عامل معنوي ضعيف لا يقوى على التأثير في شيئين.
  2. أن يتقدم معمول المصدر عليه، أو يفصل بينهما فاصل كالقول: “انت في الشدة العون”. بحجة أن المصدر عامل ضعيف لا يؤثر بمعموله إذا سبقه أو إذا فُصل عنه. كل هذا رغم ورود هذه الصِّيغ في القرآن الكريم كقوله تعالى: ” فلما بلغ ـمعه السعي… ” وقوله: ” ولا تأخذكم ـبهما  رأفة… ” وقوله: ” إنه على رجعه ـ لقادر.
  3. أو  في باب الاشتغال، قولهم إن العامل لا يعمل في الاسم وضميره معا، وهذا الباب اقترح عباس حسن إلغائه كلية.
  4. أو منع العطف على إن واسمها كقراءة: ” إن الله وملائكتُه يصلّون..” والذي تفوّه سيبويه فيه بأن العرب يخطئون فيه ! فكيف يخطئ العرب الفصحاء، وكلام الله يؤيدهم في ذلك!!!؟ هذا هو العجب العجاب في أقوال النحاة، وأمثاله كثير.

ويتساءل عباس حسن بعد ضرب أمثلته وأقوال النحاة العبثية فيها :

فهل بعد هذا عبث وإضاعة وقت وبذلك جهد فيما لا طائل وراءه؟ وهل كان العربي الأصيل يعلم شيئاً من هذه المحاورات والمجادلات أو يقدرها أو يدخل في حسابه ـ وهو يتكلم بسليقته وبمقتضى فطرته ـ قليلا أو كثيراً منها؟. ” [إ.هـ]

لذا فإن منهج عباس حسن هو تجويز مثل كل هذه التراكيب واللغات كما جوّز قبلها أيضا الأمور التالية: 1: كون المبتدا نكرة، كون الحال معرفة، تقدم التمييز على عامله، وغيره.. حيث قال:

أما الخلاف في أن المبتدأ يجب أن يكون معرفة، وجوز بعضهم أن يكون نكرة، وأن الحال يجب أن يكون نكرة ويجوز بعضهم أن يكون معرفة، وأن التمييز لا يتقدم على عامله وقد يتقدم،….من أمثال هذا فسائغ مقبول بل مطلوب على شريطة ألاّ نذكر هذا الخلاف ولا نتعرض لتعدد الرأي وإنما نرفع القيد الذي يسبب التعدي فيرتفع السد الذي يفصل بين الآراء فتمتزج سريعاً ويتسع الأفق التعبيري ويختفي الحاجز الذي يشعب المذاهب فلا تلبث أن تندمج. ولنا أن نرتضي مذهباً نسير عليه وندع سواه كما يفعل فقهاء الشريعة اليوم حين يجددون

وفي النهاية بعد كل ما عرضه يخلص عباس حسن للنتيجة التالية:

والوسيلة الصحيحة لذلك أن ندع كل تأويل وتخريج، وأن نجري في الأمور على ظواهر الألفاظ كما رويت الينا، ونبيح القياس عليها ومحاكاتها، ونغير من أصول القواعد النحوية ما يحرم هذا أو يعارضه؛ فتسلم الألفاظ والأساليب القديمة بغير حاجة إلى تخيل وتوهم، ويتسع مجال التعبير أمامنا من غير كلفة، ولا معاناة، ولا طول دراسة صناعية للقواعد النحوية، ونكاد نجري في هذا على مقتضى السليقة، ووحي القراءة الأدبية المحببة، لا القواعد النحوية المعقدة، ومجادلات النحاة المسرفة المغرقة.” [إ.هـ]

النتيجة:

1: أهم ما نستنتجه من كل ما سبق، أن الحكم على بعض التراكيب اللغوية بالشذوذ والضعف بناء على هذه النظرية لهو حكم تعسّفي، وأن الاحتكام لا بدّ أن يكون أولا وآخرا، إلى ما ورد من لغات العرب الفصحاء، وجواز محاكاتها كما هي، دون هذه القيود العبثية.

وهذا يذكرني ببعض الأساليب التي وردت في كلام المسيح الموعود مثل: كان الزائدة، واقتران خبر كاد بأن الناصبة، وتوسط هذا الخبر المقرون بين كاد واسمها…وكذلك في مسألة اكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه حيث قيّده النحاة  بشرط استقامة المعنى عند حذف المضاف، وذلك رغم ورود ما يعارض هذا الشرط في كلام العرب.

كذلك ورود كلمة “أجمعين” حالا، حيث قُيّدت بقيود وتقديرات مختلفة عند البعض. والتعريف بأل والإضافة، وإضافة الموصوف إلى صفته أو إضافة الشيء إلى ذاته إذا اختلف اللفظان، ولغة أكلوني البراغيث، إنابة الجار والمجرور أو المصدر مناب الفاعل.

فكل هذه الأساليب – وبغض النظر إن كان الحظر فيها منبعه نظرية العامل أو غيرها- إلا أننا بإمكاننا القول، ما دامت وصلتنا من فصحاء العرب فلسنا بحاجة إلى كل هذه التقييدات والشروط والتأويلات التي اصطنعها النحاة فيها، بل لنا أن نحاكيها كما هي، لأن هذا هو الأساس في تكلم العربية وفصاحتها، محاكاة العربي الأصيل.

2: وهنا لا بد من التذكير أننا أيضا في لغات المسيح الموعود عليه السلام، حذونا حذو النحاة في تأويل بعض الأمور، إلا أننا لم نكن بحاجة إلى كل هذه التاويلات، فتكفينا القاعدة التي وضعها عباس حسن هنا، وهي أن يُردّ كلام المسيح الموعود عليه السلام إلى كلام العرب الفصحاء، وهو ما أثبتناه، إذ بيّنّا لكل لغة منها نظائر من لغات العرب؛ وحينها لا ضرورة ولا حاجة  للتأويل، وإنما يكفينا القياس على لغات العرب المختلفة وأمثلتهم ومحاكاتها، دون أي تفسير أو تأويل أو توضيح لها ولقواعدها النحوية.

3: كما إن من المهم الذي نستنتجه من أقوال عباس حسن، أن الفصاحة في هذه الأساليب لا يمكن تقييدها بأقوال النحاة وما أجازوه بناء على نظرية العامل، فما دام التركيب أو الأسلوب وارد من فصحاء العرب، فإن مدار الفصاحة يكمن في محاكاته كما هو، ولا حق لأحد رميه بالشذوذ والضعف وإخراجه من دائرة الفصاحة، بسبب تقييدات النحاة ونظرياتهم العبثية.

4: ورابع ما يمكن استنتاجه عدم قصر القياس وتقييده بناء على هذه النظرية. فيظهر من الأمثلة العديدة، أن الكثير مما اعتبره النحاة سماعيّ لا يقاس عليه، حُكم عليه بهذا الحكم تعسفا وعبثا، ولا يمككنا تقييد أنفسنا بقرارات النحاة هذه، فالكثير مما عُد في عداد السماعي الذي يُمنع محاكاته يجوز لنا محاكاته لا لشيء سوى لكونه واردا في فصيح الكلام، كالقرآن الكريم والحديث الشريف وغيره من فصيح كلام العرب.

وهذا يذكرني بموضوع “التضمين” الذي تضارب فيه النحاة من حيث القياس عليه،  فمنهم من اجاز القياس عليه ومنهم من لم يجز. فنحن لا يهمنا من هذا التراشق شيئ، سوى إقرار الجميع بورود التضمين عن فصحاء العرب كما في القرآن الكريم وكلام الشافعي، والحال هذه يحق لنا محاكاته.

وفي النهاية نخلص إلى أن مجرد توجيه لغات المسيح الموعود عليه السلام، على لغات العرب المختلفة، ومراعاتها بنظرائها من فصيح الكلام، فهو لوحده كفيل للإقرار بفصاحة لغات المسيح الموعود المختلفة التي وجهناها، مهما حُكم عليها بالقلة والشذوذ ؛ وذلك لا لشيء سوى لثبوت أن هذه الأحكام من القلة والشذوذ أُنزلت بلغات العرب تعسفا وعبثا.