كنت قد بينت في مقالتي السابقة أن القرآن الكريم قد وضع معيار الإتيان بالمثل كقاعدة للنقد الأدبي عامة والاعتراض خاصة، وأن الله تعالى قد عرض هذا المعيار على معارضي القرآن ليبين لهم فشلهم وعدم أهليتهم لنقد القرآن أو الاعتراض عليه بقوله:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة 24)
وكيف أن المسلمين قد تأثروا بهذا المعيار وأدخلوه في النقد الأدبي، فنشأت النقائض والمعارضات الشعرية في الشعر العربي، والتي هي نوع من النقد الرزين الذي له قيمته ووزنه واحترامه في الوقت نفسه، بدلا من أن يفتح من هم ليسوا ذوي كفاءة وأهلية أفواههم فيما لا يعلمون. وكيف أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام قد استخدم هذا المبدأ في إنشاء ما يمكن تسميته بالمعارضات النثرية بعد نشوء الكتابة النثرية المزينة المحلاة في الأدب العربي. وهذا المبدأ يقتضي أن يستخدم الشخص الأدوات نفسها من تعابير وكلمات واصطلاحات ليأتي بخير مما يريد نقده أو نقضه. وكيف أن حضرته دعا إلى هذا المبدأ ليأتي معارضوه بمثل ما كتب إن كانوا صادقين.
وقد ينشأ سؤال يقول: ألا يكفي أن يكون لدى الشخص العلم الكافي باللغة والأدب ليكون ناقدا، ولماذا يجب أن يكون هو بنفسه كاتبا أو شاعرا ويكون نقده محصورا في أن يقدِّم مثل ما يعترض عليه؟ ألا يمكن أن يقول إن هذا خطأ، وهذا أفضل من هذا، وغير ذلك من الملاحظات بناء على القواعد المعروفة؟
والجواب هو أن العلم الحقيقي الذي يكتسبه الإنسان لا يمكن أن يصطبغ بصبغة الكمال إلا إذا مارس الإنسان عمليا ما تعلَّمه نظريا، وإلا فسيبقى علمه قاصرا حتما. ولهذا فإن الجامعات مع أنها تدرَّس الدروس النظرية إلا أنها تجبر الطلاب على حضور الدروس العملية ليمارسوا بأيديهم ما تعلموه نظريا، ولهذا أنشئت المختبرات ووضعت البرامج التدريبية الطويلة. وكلما كان العلم حساسا كانت فترة التدريب العملي أطول لأن الإتقان منوط بالتمرُّس. فالطبيب الخريج مثلا لا يُسمح له بالقيام بالعمليات الجراحية ولا يجاز إلا إذا مارس الجراحة تحت إشراف أساتذته لمدة كافية، رغم أنه يعرف نظريا تماما ماذا عليه أن يفعل.
والمسألة لا تتعلق بالأمور الدقيقة فحسب، بل أبسط الأشياء ربما يكون الإنسان محيطا بعملها النظري تماما، ولكنه عند التطبيق العملي يقف عاجزا أو إذا حاول فيفسد كل شيء. وكثيرا ما ضرب المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في هذا السياق مثل الخبز؛ فرغم أن الناس جميعا يعرفون كيف يصنع الخبز، ولكن لو طلبت من شخص لم يخبز من قبل أن يقوم بذلك فسيقف عاجزا أو ستكون النتيجة خبزا لا يؤكل.
ومعلوم أن الكتابة والشعر ليست صنعة بسيطة بل هي تحتاج موهبة خاصة ليست مقصورة فقط على معرفة مفردات اللغة وقواعدها. فالواجب على الذي يريد أن يجلس على كرسي النقد أن يكون كاتبا أو شاعرا متمرسا أولا ثم أن ينقد بهذه الطريقة الرزينة المحترمة المفعمة بالأدب والأخلاق والقوة في آن معا، ليكون نقده مقبولا يعصمه من أن يقف موقف السفهاء أو الذين يدخلون أنوفهم فيما لا يعلمون. فالكتابة والشعر ليست مجرد صفِّ كلمات أو ضبط أوزان، بل هي صنعة دقيقة لها تفاصيلها وخبرتها التي لا تُنال إلا بالممارسة.
وهنا سأضرب مثالا واقعيا قد حدث معي مؤخرا. فلي أخ وصديق عزيز متقن جدا للغة العربية ومتبحر بها، وكذلك هو على معرفة عميقة بالشعر والعروض، وله محاولات شعرية أيضا، ولكن يتضح منها أنه ليس لديه هذه الملَكة ولا تلك الخبرة. وكنت قد كتبت قصيدة أرد فيها على السفهاء الذين ينتقدون لغة وأدب وشعر المسيح الموعود وهم لا حظ لهم ولا نصيب في الشعر أو الأدب، وهي القصيدة التالية التي أصبحت معروفة الآن والتي أقول فيها:
1- زعَمَ السفيهُ بأنَّ أحمدَ مَا لَهُ ….. في الشعرِ أو عذبِ البيانِ نصيبُ
2- وبأنَّ معجزةَ الفصاحةِ كِذْبةٌ ….. والنثرَ أكثرُ دُرِّهِ مسلوبُ
3- عجبًا ولا عجبٌ إذا ما قالها ….. أعمى وقيحٌ حقدُه مشبوبُ
4- مَنْ ذا الذي نَظَمَ الجُمَانَ قِلادةً ….. عَقْدًا فريدًا زانَهُ الترتيبُ
5- مَنْ صَاغَ أَبكارَ المعاني جملةً ….. سُبِكت وسحرُ بيانها مسكوبُ
6- مَنْ جابَ ميدانَ الفصاحةِ فارسًا ….. عَرَفَتْ له الفرسانُ حين يجوبُ
7- مَنْ كانَ مطلبُهُ انتصارَ محمدٍ….. فبحبِّهِ قد حُقِّقَ المطلوبُ
8- هذا الذي حازَ الفضائلَ كلَّها….. هذا نبيٌّ شاعرٌ وأديبُ
9- ما ضرَّهُ كَذِبُ اللئامِ وما ثنى….. منه العزيمةَ والثباتَ كذوبُ
10- إنْ أنكرَ الشمس الذكيَّة كاذبٌ….. أَتُراه يحجبُ ضوءَها التكذيبُ؟
11- يا مَنْ رَفعتَ عقيرةً معقورةً ….. أَقْصِرْ فَعيْبُكَ باديًا وتَعيبُ!
12- هذي الفصاحةُ لستَ مِن فرسانها….. فاخسأْ فمثلكَ في الزمانِ عجيبُ
فأرسل لي عددا من الملاحظات التي كانت مثالا جيدا لملاحظات الناقد العالم باللغة غير الشاعر وغير الأديب، ومنها:
- في البيت الخامس حبذا لو حولت “مسكوب” إلى “مصبوب”
- في البيت السادس لا أرى “عرَفتْ له” صحيحة ومستساغة بل ينبغي أن كون “عرفته” ثم يُصار إلى إصلاح الوزن.
وما أن وصلتني هذه الملاحظات إلا وفهمت تماما مرجعها وخلفيتها ومبرراتها لديه؛ وهذا لأن صديقي هذا عاشقٌ للعربية ولديه حساسية مفرطة للأخطاء الشائعة ويشعر بالضيق عندما يرى كثرتها في كتابة الناس وأقوالهم، فهذا الهاجس المستولي عليه إضافة إلى عدم تمرسه العملي يجعل ذهنه ينتقل تلقائيا إلى الملاحظات. فكان ردِّي عليه كالآتي:
- بالنسبة للنقطة الأولى فالصورة التي أردتها هي المسيح الموعود قد صاغ أبكار المعاني في جملة (أي جمل، والجملة هنا اسم جنس) وكأنه صاغ ذهبا في سبيكة من حيث التركيب، ثم انتقلتُ إلى أن التركيب رغم أنه كسبيكة الذهبِ جمالا إلا أن سحرَه منتشر كما يتضوَّع ريح العطر المسكوب من زجاجته. أما أنت يا صديقي فرأيت أن السحر يصبُّ في السبيكة الذهبية، ولو كانت الصورة على هذا النحو لما كانت بالجمال الذي أردته.
- أما الثانية فإنك ركزت على اللازم والمتعدي وغفلت عن المعنى الذي أردتُه. فلم أرد أنه عندما يدخل ميدان الفصاحة فسيعرفه الفرسان ويقولون: هذا هو، فهذا معنى بسيط للغاية! ما أردته هو أنهم يعرفون له قوة بيانه وشاعريته وقدراته ومهاراته.
وهكذا، فإن هذا المثال يوضح أن المعرفة اللغوية وحدها مهما كانت عميقة لا تكفي ليكون ليصبح صاحبها ناقدا، بل سيخطئ سهمه وسينتقد انتقادات تشوه جماليات النص وتراكيبه التي أرادها الكاتب. أما الشاعر والأديب فإنه سيستشعر هذه الأمور ويتذوقها ويلتقطها بسهولة في أغلب الأحيان بسبب خبرته. ولو كان يرى أن الشاعر أو الكاتب قبله قد أساء استخدام هذه التراكيب والتعابير فإنه سيتقدم ليصوغها بالصورة الأكمل والأفضل، وبذلك يقدِّم نقدا مهذبا صامتا ولكن بليغا في الوقت نفسه، ويكون موقرا ومحترما بثبوت أهليته ومهارته. فلا يمكن أن يكتمل علم أحد بالأدب إلا أن يكون أديبا أريبا، ولا يمكن أن يكتمل علم أحد بالشعر إلا إذا كان شاعرا مجيدا. وهذا بالطبع كمال نسبي، ولكنه تأهيل كافٍ إلى حد كبير.
والعجيب أن هذا المبدأ أيضا إنما هو مبدأ فطري مخزَّنٌ في الذاكرة الجمعية للناس وتراهم يستخدمونه كثيرا. فعندما يرى الناس شخصا يكثر الانتقاد فيقولون له بصيغ مختلفة : “تقدَّم! أرنا شطارتك! هذه هي الساحة والميدان يا حميدان!” وهذا ما يجب أن يقال لمن يريدون أن يمتهنوا النقد وهم بأنفسهم لا تثبت أهليتهم.
وهكذا نرى أن القرآن الكريم يمدَّنا دوما بما ينفعنا في كل مناحي الحياة، ويعلِّمنا أحسن الحديث وأكمله وأرفعه، ويهدينا للتي هي أقوم. أما الجهلة والسفهاء فيهينون أنفسهم في التصدي لما يخزيهم بابتعادهم عن القرآن وتعاليمه، وتراهم يتخبطون على غير هدى ويمدون ألسنتهم بالسوء، بل وتراهم لفرط سفاهتهم يرون استخدام التعابير نفسها التي وردت في نص سابق لصياغة نصٍّ أفضل منه -والتي هي من اللغة وليست ملكا لأحد والتي يجب أن تكون مادة النقد لصياغة ما هو أفضل – سرقةً! وكأنهم يريدون أن يتجنب الناس كل كلمة أو تعبير قالها غيرهم من قبل! لو قبِل الناس بمبدئهم الأحمق هذا وعدُّوا استخدام كل ما قيل أو كتب سابقا من تعابير سرقةً لأصبح لازما للناس أن يصمتوا ويستخدموا لغة الإشارة! ولعل الناس لو استجابوا لهم فلن يسلموا من الاتهام بالسرقة في لغة الإشارة أيضا!
فلا جواب للسفهاء إلا أن يأتوا بمثل ما جاء به المسيح الموعود أو ليخسأوا ويصمتوا. فليس صعبا على السفيه أن يتطاول ويفتح فمه، ولكن هذا لا يجعل لكلامه أي قيمة عند العقلاء.
أترككم مع قصيدتي التي أرد فيها على السفهاء منشدة بصوت ابنه أخي الفاضل محمود الجاسم: