المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية.. 220

نظرة في القياس والسماع في لغات العرب وتصنيفاتها

كانت من بين اللغات التي وجهنا كلام المسيح الموعود عليه السلام عليها بعض اللغات التي صُنفت على أنها من اللغات الشاذة أو القليلة، ومنها ما أقرّ به النحاة أنها مما يُقاس عليها أو مما لا يقاس عليها. فهل قرارات النحاة هذه قطعية؟ فيما هو سماعي أو قياسي، وهل هي قطعية فيما هو فصيح وغير فصيح؟ أو فيما هو كثير وشاذ وقليل ومتروك وما شابه؟

1: فأول ما يجب أن ننوه له هو مفهوم هذه التعابير التي يتحدث بها النحاة، وقد لخصها لنا النحو الوافي بما يلي:

“للمجمع اللغوي القاهري قرار حاسم -فوق المشار إليه كل ما سبق- أصدره بعد دراسة وافية، وهو يقطع بأن “المطرد”، و”القياس” بمعنى واحد؛ “كما جاء في الصفحة الخامسة والخمسين من محاضر جلسات الدور الرابع لانعقاده: وهي الجلسة الرابعة صباح الثلاثاء 19 من يناير 1937، وكما ورد أيضا في الصفحة الأولى من الجزء الرابع من مجلة المجمع” ونص القرار.

“يرى المجمع أن الكلمات التي يستعملها قدامى النحويين والصرفيين؛ وهي: القياس: والأصل، والمطرد، والغالب، والأكثر، والكثير، والباب، والقاعدة … ألفاظ متساوية الدلالة على ما ينقاس. وأن استعمال كلمة منها في كتبهم يسوغ للمحدثين من المؤلفين وغيرهم قياس ما لم يسمع على ما سمع، وأن المقيس على كلام العرب هو من كلام العرب”. ا. هـ وفي محاضر جلسات الدور الرابع للانعقاد ص38 وما بعدها ما نصه: “ويقال للشاذ: القليل، والأقل، والنادر، وأمثالها مما يفيد القلة والضعف أيضا”. ا. هـ.  والمراد من تسجيل هذا القرار هنا ومن الإيضاح الذي ذكرته قبله، إزالة كل غموض عن قياسية الجموع المطردة، ومحو كل وهم تردد أو يتردد على خاطر بعض القدامى والمحدثين بهذا الشأن.

وهناك أسباب أخرى قوية تزيل الشك أو الوهم عن قياسيته؛ هي الأسباب العامة الجليلة التي أشرنا إليها في مواضع متفرقة من الأجزاء الأربعة في الرد على من يتشككون في قياسية بعض المسائل. كالذي سجلناه بإفاضة في الجزء الثالث عند الكلام على: “أبنية المصادر القياسية” “ص183م 98”. ومن تلك الأسباب آراء العالم العبقري ابن جني التي يرجع إليها المجمع اللغوي في كثير من بحوثه، ويستشهد بفصله الرائع الذي عنوانه: “باب في اللغة المأخوذة قياسا” والذي نقلناه كاملا مستقلا ختمنا به الجزء الثاني. وقد سجلته مجلة المجمع في عددها الأول، كما سجلته محاضر جلساته مرة أخرى في الصفحة الخامسة والأربعين من محاضر جلسات الدور الرابع للانعقاد، وأيضا ما نقله عن المازني، وكذلك آراء العالم الذكي: “الفراء” الذي ورد عنه في محاضر جلسات المجمع اللغوي “دور الانعقاد الرابع ص108”: “أنه إمام الكوفيين، ووارث علم الكسائي، ولا تثريب علينا إذا أخذنا بمذهبه”. وكذلك الزمخشري وصاحب المصباح المنير، وغيرهم من الأئمة الذين سردنا آراءهم الجليلة مفصلة في الجزء الثالث -كما سبقت الإشارة هنا م98 ص183.

بقي السؤال عن المعنى الدقيق للاطراد الذي يباح عليه القياس، والمعنى الدقيق للكثرة التي تبيح القياس كذلك؟ ما عددها؟ وما شياتها؟ وما نعوتها؟.. وقد ورد هذا السؤال في ص129 من الكتاب الصادر من مجمع اللغة العربية بالقاهرة باسم: “كتاب في أصول اللغة” وهو المشتمل على مجموعة القرارات: التي أصدرها المجمع من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين، وتصدى للإجابة عن هذا السؤال أحد الأعضاء المجمعين مسجلا إجابته في تلك الصفحة قائلا ما نصه الحرفي: “أضع بين يدي السائل ما قال أصحاب أصول النحو في ذلك من بيان وتحديد نسبة عددية يمكن أن تكون أصلا لنسبة مئوية كالتي يستعملها المحدثون في الإحصاء؛ وذلك هو ما نقله السيوطي صاحب الاقتراح في ص21 سطر10 وما بعده -وكذلك في “المزهر” ج1 ص140- ونصه: “قال الشيخ جمال الدين بن هشام: أعلم أنهم يستعملون غالبا، وكثيرا، ونادرا وقليلا، ومطردا. فالمطرد لا يتخلف، والغالب أكثر الأشياء، ولكنه يتخلف، والكثير دونه، والقليل دونه، والنادر أقل من القليل. فالعشرون بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالب، والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب، والثلاثة قليل والواحد نادر. فاعلم بهذا مراتب ما يقال فيه ذلك”. ا. هـ. سيوطي.

وبمحاولة علم هذا مفسرًا بالنسبة المئوية كما يقال اليوم تكون النتيجة هي: المطرد الذي مثله بثلاثة وعشرين وجعلها نهاية هو 100 % والغالب وهو 20 من 23 = 20/ 23 86 % أو 87 % تقريبا، والكثير وهو 15 من 23 % يساوي 65 %، والقليل وهو 3 من 23 % يساوي 13 % والنادر وهو 1 من 23 % يساوي 1/ 3 4% تقريبا. وبهذا يكتفون، ولا يذكرون الشذوذ في هذا المقام بعدما وصلوا إلى الندرة وهي أقل القليل كما رأينا … “. ا. هـ. انتهت الإجابة.

هذا وقد أشرنا “في رقم 4 من هامش ص627” إلى أن المراد هناك من القلة، والكثرة، والاطراد، وعدم الاطراد مخالف للمراد منها هنا. [النحو الوافي (4/ 634- 635) ]

فهذه هي المعاني لهذه المصطلحات.

2: موضوع القياس والسماع موضوع مختلف عليه بين العلماء، والاختلاف فيه كثير وكثير جدا، فترى في الموضوع الواحد اختلاف الرأي بين النحاة، فمنهم من يبيح القياس في الموضوع ومنهم يمنعه ومنهم من يجيزه بشروط. ولعل الموضوع الذي تحدّث عنه النحو الوافي في النصّ أعلاه هو أكبر مثال على ذلك؛ وهو القياس على صيغ جموع التكسير أو القياس على أبنية المصادر، فمنهم من لا يبيح إلا المسموع فيها وفريق يبيح القياس عليها بشرط عدم ورود السماع بما يخالف القياس، وفريق ثالث وهو الذي يرجحه عباس حسن يجيز القياس على أبنية المصادر بوجود المسموع الذي يخالفها.(يُنظر: كتاب السماع والقياس لأحمد تيمور باشا ص 14)

3: مواضيع أخرى مختلف على القياس والسماع فيها: (ينظر :السماع والقياس لأحمد تيمور)

_ صوغ أفعَل فهو مُفعل مثل: أعشَب فهو مُعشِب، يقال إنها سماعية، وهي عند ابن يعقوب قياسية لكثرنها.

_ صوغ مَفعَلة مثل: مأسَدة ومقثأة ، سماعية، ويرى البعض قياسيتها.

_ صيغة فعّال للحرفة مثل عطّار سماعية، ويرى المبرد قياسيتها.

_ الاشتقاق من الجامد عند البعض هو قياسيّ وعند الآخر سماعيّ.

_ التضمين. وقد أقرّ مجمع اللغة بقياسيته. (ينظر: النحو الوافي باب اللازم والمتعدي ، وآخر الجزء الثاني حيث البحث الخاص لمجمع اللغة العربية المصري عن التضمين)

_ النصب على نزع الخافض أو ما يُعرف بالحذف والإيصال. الأغلب يقول أنه سماعيّ بينما ثلة من النحاة يقول بقياسيته بشروط. (ينظر: النحو الوافي 2/172)

_ إجراء الوصل مجرى الوقف.

فكل هذه مواضيع مختلف على قياسيتها، ومثلها الكثير.

4: من النحاة، أمثال الكوفيين وابن مالك من كان يقيس على الشاذ والنادر،  ومن بينهم أبو زيد استاذ سيبويه الذي كان يسّوي بين الفصيح والشاذ. (يُنظر كتاب القياس في اللغة العربية لمحمد الخضر ص41 . وكتاب السماع والقياس ص 15)

5: من الأمور التي تؤكد أن مقاييس النحاة واعتباراتهم ليست قطعية، هو مخالفتهم لهذه المقاييس بأنفسهم، فمن هذه المخالفات إقرارهم أن المقاييس في اللغة تبنى على الكثرة ، كما يقر أبو حيان بذلك حيث قال:

عن أبي حيان ونصه: “إنما نبني المقاييس العربية على وجود الكثرة” -كما سيأتي هنا -وما نقله أيضًا -في باب التصريف جـ2 ص217- من مذاهب القياس، وفيها يقول ما نصه: “المذهب الثالث: التفصيل بين ما تكون العرب قد فعلت مثله في كلامها كثيرًا واطرد، فيجوز لنا إحداث نظيره، وإلا فلا … “ ا. هـ.[ النحو الوافي (3/ 190)]

إلا انه رغم هذا الإقرار فإن العديد من المواضيع التي ورد فيها الكثير من الشواهد لم يأخذوا بالقياس عليها كمثل زيادة الباء على المفعول به، فرغم كثرتها لم يقيسوا عليها، وصرف صيغ منتهى الجموع رغم كثرتها لم يأخذوا بجواز صرفها، ولغة أكلوني البراغيث رغم فشوها لم يأخذوا بها.

6: ما يصنَّف أنه من بين اللغات المتروكة والشاذة، لا يمكنا ضربها بالخطأ، بل هي لغات عربية صحيحة وفصيحة، وقد أقرّ ابن جني أن ما كان على قياس لغة للعرب فهة من لغة العرب، والمتكلم على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ. ويؤكد هذا ما جاء في كتاب القياس في اللغة العربية حيث جاء :

“إن النحاة لما استقرأوا  كلام العرب وجدوه قسمين: قسم اشتهر استعماله وكثرت نظائره فجعلوه قياسا مطردا، وقسم لم يظهر لهم فيه وجه القياس لقلته وكثرة ما يخالفه فوصوفوه بالشذوذ ووقفوه على السماع لا لأنه غير فصيح بل لأنهم علموا ان العرب لم تقصد بذلك القليل أن يقاس عليه” [ القياس في اللغة العربية لمحمد الخضر ص 31]

وها هو ابن مالك يشهد على أن ما هو قليل فصيح أيضا حيث جاء:

“وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيح قليل في الاستعمال ومنه قوله تعالى{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (العنْكبوت 13) .(شواهد التوضيح243)

7: ورود ما يخالف مقاييس النحاة في القياس والسماع في القرآن الكريم، فبينما نرى منهم من يقر بعدم قياسية التضمين نرى التضمين موجودا في القرآن الكريم، وبينا قرر جماعة منهم عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول بالمضاف نراه موجودا في القرآن الكريم في قراءة عامر للآية (قتل أولادَهم شركائِهم ). وبينما أقروا بأن حذف أن المصدرية الناصبة مع بقاء عملها سماعيّ، نجده في قراءات القرآن الكريم، وبينما نراهم يضربون لغة أكلوني البراغيث بالشذوذ، نراها موجودة في القرآن الكريم ، فيا للعجب أيصح شذوذ في القرآن الكريم؟ أقرآن وشاذ؟

وكل هذا ما هو إلا لتعنت النحاة على وجوب إخضاع القرآن الكريم للشواهد الواردة من لغات العرب، فكيف هذا وكلهم يقرون بأن استقراء اللغة ناقص، وأن ما وردنا منها هو أقلها وليس أكثرها؟ وكيف هذا والقرآن الكريم متناهي الفصاحة والبلاغة ولا بد من الاحتجاج به في كل حال، وإخضاع الشواهد الأخرى والقواعد العربية له وليس العكس؟

وفي هذا يقول الأستاذ محمد الخضر ما يلي:

وأفضل ما يحتج به في تقرير أصول اللغة القرآن الكريم ، فإنه نزل بلسان عربي مبين، ولا يمترئ أحد في أنه بالغ في الفصاحة وحسن البيان الذروة التي ليس بعدها مرتقى، فنأخذ بالقياس على ما وردت عليه كلمه وآياته من أحكام لفظية، ولا فرق عندنا بين ما وافق الاستعمال الجاري فيما وصل إلينا من شعر العرب ومنثورهم، وما جاء على وجه انفرد به ولا نتبع سبيل من يحيدون عن ظاهره ويذهبون به مذهب التأويل ليوافق آراءهم النحوية، قال الرازي في تفسيره: إذا جوّزنا إثبات اللغة بشعر مجهول، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى. وكثيرا ما نرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول، فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن دليلا على صحته كان أولى”

وقال ابن حزم في كتاب الفِصل: ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح أو لأعرابي أسدي أو سُلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب لفظا في شعر أو نثر جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاما، لم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرفه عن موضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه”  [ القياس في اللغة العربية لمحمد الخضر ص 29]

وبالنظر إلى كل هذا اللغط والتضارب في المعايير والمقاييس، نستطيع أن نستنتج بكل وثوق أن اعتبارات النحاة هذه وتصنيفاتهم للغات العرب على الفصيح والشاذ والقليل والكثير والمقيس وغير المقيس، ليست بقرارات قطعية، إنما يعتريها الكثير من الغموض والضبابية واللغط واختلاف الرأي ووجهات النظر، وهي في بعض الأحيان -إن لم يكن في الكثير منها- مخالفة للقرآن الكريم وقراءاته، والذي لا بدّ أن يكون المرجع الأول في النحو للقياس عليه وعلى لغاته، بغض النظر عما يؤيدها من كلام العرب المنظوم والمنثور.

وبناء عليه فإن كل اللغات التي ذهبنا إليها في توجيه كلام المسيح الموعود عليه السلام هي قطعية الصحة والثبوت والفصاحة، وأن تصنيفات النحاة لها ليست ذات بال وليست مما يقدح بصحتها وفصاحتها.

كذلك فإن اللغط الموجود في اعتبارات النحاة في القياس والسماع، يتيح لنا بأريحية أن نستنتج بأن اعتبارات النحاة فيما هو مقيس وغير مقيس ليست بقطعية وليست بالضرورة صحيحة. والأهم من كل هذه الاعتبارات هو ورود اللغة عن العرب ووردو التركيب النحوي أو الصرفي عنهم، وبالأخص ورودها في القرآن الكريم، سواء بشذوذ أو بكثرة، مما يقاس أو لا يقاس عليه، من أجل أن تصح محاكاة هذه اللغة  في كلام المسيح الموعود عليه السلام.

ولهذا  فليس من البعيد أن نجد في كلام المسيح الموعود عليه السلام لغة أقر النحاة بشذوذها وعدم القياس عليها، وما هذا إلا لكون القياس وعدمه قرار إنساني قد يصيب وقد يخطئ ولا قطعية فيه، ولأن أصل هذه اللغات هو صحيح وفصيح.

ومما لا بدّ من التنبه إليه أننا نتحدث عن وحي أو تأييد إليهي في لغة المسيح الموعود بتعليم الله له هذه اللغة، وفي هذا نقول بأن الله تعالى عندما يقرر أن يوحي أو يعلّم مسيح آخر الزمان باللغات العربية المختلفة، فهل يا ترى لا بد لله تعالى – والعياذ بالله- أن يستشير النحاة فيما هو مقيس أو غير مقيس من لغات العرب وتراكيبهم وألفاظهم قبل ان يوحي بها لنبيه ومبعوثه!؟ أو هل يا ترى لا بد لله تعالى أن يستأذن النحاة في محاكاة هذه اللغة أو تلك من لغات العرب سواء أكانت معروفة أو شاذة !؟ ولكم الجواب لتتفكروا فيما أقول…