المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..80
نكتة الخطأ في استعمال ظرف الزمان “قطُّ”
جواز استعمال “قطُّ” للدلالة على الحال والاستقبال بقرار مجمع اللغة العربية القاهري..
الاعتراض:
قيل بأن المسيح الموعود عليه السلام يخطئ في استعمال ظرف الزمان “قطُّ” وذلك بإيراده في سياق استغراق المستقبل، رغم أن استعماله الصحيح يجب أن يقتصر على استغراق الماضي. وقد استشهدوا بقول ابن هشام في كتابه “مغني اللبيب” حيث قال:
“قطّ: على ثَلَاثَة أوجه، أَحدهَا أَن تكون ظرف زمَان لاستغراق مَا مضى وَهَذِه بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الطَّاء مَضْمُومَة فِي أفْصح اللُّغَات وتختص بِالنَّفْيِ يُقَال مَا فعلته قطّ والعامة يَقُولُونَ لَا أَفعلهُ قطّ وَهُوَ لحن” {مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 232)}
وقيل بأنه وجب على المسيح الموعود عليه السلام، أن يستعمل الكلمات التالية بدلا من قط: البتة، عَوض، أو أبدا. فهذه الكلمات هي التي تُستعمل لاستغراق المستقبل وليس “قطُّ”.
وقد ظهر هذا الخطأ – وفق زعمهم- عند المسيح الموعود عليه السلام في الفقرات التالية:
- فالحاصل أن آية: {وإنه لعلم للساعة} لا يدل على نزول المسيح قطُّ (حمامة البشرى، ص 189).
- وإذا قيل لك في الرؤيا إن ابنك الميّت سيعود ويرجع إليك، فلا تحمِلُها قطّ على الحقيقة (مكتوب أحمد، ص 14).
- ثم قال قائل: ذهب وما يرجع قطُّ إلى هذه الحِداب (نجم الهدى، ص 50).
- وأما صناعة المنطق فمتاعٌ سَقَطٌ، وليستْ بعاصمة قطُّ من هذه الهَوجاء (لجة النور، ص 28).
- حتى لا يُفهَم منه قطُّ أنهم يؤمنون بالله ويوم الجزاء (لجة النور، ص 29).
- ولا نغتاب المستورين قطّ (لجة النور، ص 35).
- فإن النور لا ينزل قطُّ من السماء إلا على قلب أُحرِقَ بنيران الفناء (الهدى والتبصرة، ص 31).
الرد:
المقدمة:
لقد سبق وبيّنا اختلاف النحاة في العديد من المواضيع النحوية، وإذا كان هنالك من النحاة مثل ابن هشام من منع استعمال ظرف الزمان “قطُّ” لاستغراق المستقبل والدلالة عليه، فهنالك غيره من النحاة من أقرّ بجواز ذلك بناء على ما سُمع من فصحاء العرب وليس العامة فقط. ومن بين النحاة الذين أقروا بصحة جواز استعمال “قطُّ” للدلالة على الحال والاستقبال، هم نحاة مجمع اللغة العربية في القاهرة، وفق بحث أجرَوه في هذا الصدد. نقدم لكم هذا البحث كما نُشر في كتاب {“أصول اللغة” الجزء الخامس (ص 187- ص 195)} الصادر عن المجمع نفسه؛ وفيه الكفاية لدحض اعتراض المعترضين وتبكيتهم وتحطيم تحدياتهم وأوهامهم التهورية.
البحث والتفصيل:
لقد نشر مجمع اللغة العربية القاهري بحثا أتبعه بقرار وافق وصادق عليه المجمع نفسه، يجيز استعمال ظرف الزمان “قطُّ” لاستغراق الحال والاستقبال، ونُشر البحث تحت عنوان” دلالة ظرف الزمان “قطُّ” على الحال والاستقبال” جاء فيه ما يلي:
“يشيع في العربية المعاصرة استعمال ظرف الزمان “قطُّ” للدلالة على زمن الحال والاستقبال في مثل:”لا أكلمُه قطُّ”. ومنه قول زكي مبارك (ت 1371 هـ):
لا تيأسوا قطُّ من فؤادٍ أنتم بأعماقه حللتم
فقد وقع الظرف “قطُّ” في سياق جملة النهي دالاً على زمن الاستقبال.
وقد خطّأ هذا الاستعمال ابنُ هشام الأنصاريّ (ت 761 هـ)، فيقول في كتابه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج 1/ص 175):”قط..تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى، وهذا بفتح القاف وتشديد الطّاء مضمومة في أفصح اللغات…”
غير أن استعمال ظرف الزمان “قطُّ” دالاً على الحال والاستقبال قد ورد في النصوص النثرية والشعرية القديمة، ومن ذلك:
- قول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه (ت 13 ه) في خطبته بسقيفة بني ساعدة:” لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطُّ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله“
فقد دل ظرف الزمان “قطُّ” في خطبة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، على زمن الحال المستمر.
- قول أبي عبد الله الحسن بن أحمد بن الحجاج (ت 391 ه):
أزجر العين أن ترى أزرق العين أشقرا
ما أرى البوم وجهه قطُّ إلا تطيّرا
فقد دل الظرف “قطُّ” في البيت الثاني على زمن الحال المستمر.
- قول الإمام أبي أحمد محمد بن حزم الأندلسي (ت 456 ه) في “منزلة الوفاء”:” ومن حميد الغرائز، وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحبّ وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل، وأوضح البراهين، على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات، وفي ذلك أقول قطعة منها:
أفعال كل امرئ تُنبي بعُنصُره والعين تَعنيك عن أن تطلب الأثرا
ومنها:
وهل ترى قطُّ دفلى أنبتت عنبا أو تذخر النحل في أوكارها الصبرا
فقد دل الظرف “قطُّ” في البيت الثاني على زمن الحال.
- قول محمد بن دانيال الموصلي (ت 710ه):
احذر نَديمِيَ أن تذوقَ المسكرا أو أن تحاول قطُّ أمرًا منكَرا
يدل الظرف “قطُّ” في هذا البيت على زمن المستقبل في سياق النهي عن المنكر بصيغة الأمر “احذر”.
- قول ابن حجر العسقلاني (ت 852ه) في شخص خانَه في مالٍ جزيلٍ ثم كتب معتذرا مطالبا عود ودّه مغالطا بجنايته فأنشد وأجابه..
خان الأمانة واستن الخيانة واستثنى الديانة جان ثمره العطبُ
………………… ………………………..
وحين يُلدَغ من جحر فتى فطنٌ يوما فليس إليه قَطُّ يقتربُ
فقد دل الظرف “قطُّ” في البيت الثاني على زمن المستقبل.
- قول ابن حجر العسقلاني أيضا “في مختضبة”:
لا تثقْ من فلانةٍ قطُّ بالوعد فإن الوداد منها سقيمُ
إن في الغشِّ في يديها دليلاً أنّهُ في الفؤادِ منها مُقيمُ
فقد دل الظرف “قطُّ” في البيت الأول على زمن المستقبل في سياق النهي.
وبناء على ورود هذا الاستعمال في النصوص العربية القديمة نثرا وشعرا، تقترح اللجنة على إجازة استعمال ظرف الزمان “قطُّ” للدلالة على الحال والاستقبال.
د. محمد رجب الوزير
الخبير بلجنة الأصول
إلى هنا النقل من كتاب “أصول اللغة”.
وبناء على هذا البحث والتوصية التي اقترحتها اللجنة القائمة عليه بتوقيع الخبير د. محمد الوزير، تم عرض هذا الموضوع والقرار الصادر من قبل اللجنة المختصة على مجلس المجمع في جلسته الثالثة والعشرين- المنعقدة يوم الاثنين الثامن من شهر مارس 2010 م- فووفق عليه . ثم عُرض الموضوع على مؤتمر المجمع في جلسته التاسعة المنعقدة بتاريخ السابع والعشرين من شهر مارس 2010م فووفق عليه أيضا.
الخلاصة والنتيجة:
- أثبت مجمع اللغة العربية في القاهرة ورود ظرف الزمان “قطُّ” في فصيح الكلام من النصوص القديمة نثرا وشعرا .
- ورد هذا الاستعمال عن كبار الفصحاء والبلغاء والصحابة والأئمة الأجلاء، مثل: الخليفة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الإمام ابن حزم الأندلسي، محمد ابن دانيال الموصلي، ابن حَجَر العسقلاني، وأبي عبد الله بن الحجاج.
- فأقرّ المجمع بناءً على توصية اللجنة المختصة في الموضوع والتي بحثت في هذا الأمر- أقرّ بجواز استعمال ظرف الزمان “قطُّ” للدلالة على الحال والاستقبال.
- يثبت من كل هذا أن لا خطأ واقع قطُّ في كلام المسيح الموعود عليه السلام، في كل الفقرات التي يَعترض عليها المعترضين، بل يثبت أنها لغة عربية فصيحة بليغة لا يعلمها إلا من ملك ناصية اللغة وألمّ بأدق دقائقها.
- وبهذا يثبت من جديد، أن استعمال “قطُّ” للدلالة على الحال والاستقبال في كلام المسيح الموعود عليه السلام، ما هو إلا كغيره من الدقائق اللغوية والنكات الادبية التي جاءت كتجلّ وإثبات لمعجزة حضرته عليه السلام في تعلمه اللغة العربية من الله تعالى في ليلة واحدة وتصديقا لقوله عليه السلام حيث قال:
“وإن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آيةٌ واضحة من ربي، ليُظهِر على الناس علمي وأدبي، فهل مِن مُعارِض في جموع المخالفين؟ وإني مع ذلك عُلِّمتُ أربعين ألفًا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطةً كاملة في العلوم الأدبية، مع اعتلالي في أكثر الأوقات وقلّة الفترات، وهذا فضل ربي أنه جعلني أبرَعَ مِن بني الفُرات، وجعلني أعذبَ بيانًا من الماء الفُرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكمْ مِن مُلح أُعطيتُها، وكم من عذراءَ عُلِّمتُها! فمن كان مِن لُسْنِ العلماء، وحوَى حُسْنَ البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.“ (مكتوب احمد)
وقوله أيضا:
“وإني أُيّدتُ من الله القدير، وأُعطيت عجائب من فضله الكثير. ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين..“ (مكتوب احمد)
- أما كون ابن هشام وغيره من النحاة لا يجيزون هذا الاستعمال، وكان لا بدّ لمجمع اللغة العربية في القاهرة أن ينقض رأيهم؛ فإن هذا بحد ذاته يؤكد على عظمة المسيح الموعود عليه السلام وعلى صدق فلسفته في قواعد اللغة العربية؛ حيث أكّد أن قواعد اللغة بحر لا شاطئ له، وأن النحويين لم يصلوا إلى منتهى عملهم في تقعيد اللغة، وأنهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، حيث قال:
“إن خواص علم اللغة كبحر لا شاطئ له. من المؤسف أنه فُتّ في عضد واضعي قواعد الصرف والنحو سريعا ولم يؤدوا حق البحث والتحقيق كما كان واجبا. ولم يعزموا- ولم يقدروا- على تدوين قواعد تامة وكاملة بنظرة عميقة ودقيقة واضعين في الاعتبار ألفاظ القرآن الكريم واسعة المفاهيم، بل تركوا هذا العمل ناقصا غير مكتمل…..
لا ندري إلى أيّ مدى كان الزمن الذي دوِّنت فيه القواعد قد تغيّر مقارنة مع زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإلى أيّ مدى كانت أساليب الكلام وتعابيره قد تغيرت. إن علماء الصرف والنحو يقولون أيضا بأن جزءا كبيرا من الألفاظ التي تخالف القياس وتخالف الترتيب أيضا موجود على الرغم من تدوين القواعد. ولا يزال عدد مثل هذه الألفاظ التي لا تخضع إلى الآن لأية قاعدة غير معلوم.” مناظرة دلهي (الخزائن الروحانية مجلد 4) (ص: 64)
- وهذا كلّه يؤكد امتلاك حضرته عليه السلام لناصية اللغة وتعلمه إياها من الله تعالى بفضل الوحي الإلهي، ويؤكد صدقه وصدق دعواه عليه السلام وصدق نبوّته، فكل هذا قد جاء مصداقا لقول الإمام الشافعي بأن اللغة العربية لا يحيط بها إلا نبي.
- فاعتبروا يا أولي الألباب!!!!