المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..266

نكتة الخطأ في اشتقاق المصدر (إِفْكار)

الاعتراض:

يدّعي المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام، قد أخطأ في اشتقاق المصدر في الفقرة التالية:

_ وإني سأرسل كتابا إلى مدير “المنار”، ليفكّر فيه حق الإفكار (الهدى والتبصرة لمن يرى)

وموضع الخطأ حسب زعمه، هو في اشتقاق المصدر (إِفْكار)، إذ حسب زعم المعترض لا بدّ أن يكون المصدر (تفكير).

الرد:

لم يوضح لنا المعترض أبو العجائب جهله في اعتراضه هذا، وما الذي يضايقه في المصدر (إِفكار)، وإني أخاله يظن بأن اللغة العربية لا تحوي مصدرا كهذا (إفكار)، ولذا يعتبره خطأ. وقد يكون اعتراض المعترض نابعا من ظنه، أنه ما دام الفعل المستعمل في الجملة هو (يفكّر) فلا بدّ أن يليه المصدر المشتق منه وهو (تفكير) وليس مصدرا آخر. ولكنني أميل إلى الإمكانية الأولى أكثر. ولا عجب في أن يكون كل هذا من اعتراضاته، إذ ثبت لنا كونه “أبو العجائب” في كل ما يتعلق بلغة المسيح الموعود عليه السلام العربية.

فإن كان اعتقاد المعترض أن المصدر (إفكار) ليس موجودا في اللغة، فتعالوا ننسف له اعتقاده هذا بإيراد هذا المصدر من المعاجم العربية، وفيها جاء:

جاء في كتاب إسفار الفصيح لأبي سهل الهروي من القرن الرابع و الخامس الهجري ما يلي:

“(وليس لي فيه فكر): أي تأمل ونظر في أمره، وجمعه أفكار. يقال منه: أفكَر يُفْكِر، وفكر يفكر، وتفكر يتفكر. والفكر: اسم فعل من أفعال النفس، كالعلم والحفظ والذكر، وليس هو بمصدر.”  [إسفار الفصيح (2/ 634)]

وفي الهامش يذكر المحقق المصادر لهذه الأفعال ومن بينها للفعل أفْكَر – يُفكِر ويقول:

“والمصدر: الإفكار، والتفكير، والتفكر، وهذه المصادر جارية على الأفعال التي ذكرها المصنف، أما الثلاثي فلم يستعمل منه مصدر، كما ذكر ابن درستويه (144/ب) . وفي المصباح 182: “والفكر بالفتح: مصدر فكرت في الأمر، من باب ضرب”. [إسفار الفصيح (2/ 634)]

وجاء في المعجم الوسيط بأليف وتحقيق مجمع اللغة العربية المصري:

“(فَكَرَ) فِي الْأَمر فَكْرا أعمل الْعقل فِيهِ ورتب بعض مَا يعلم ليصل بِهِ إِلَى مَجْهُول

(أَفْكَر) فِي الْأَمر فَكَرَ فِيهِ فَهُوَ مُفْكِر

(فَكَّر) فِي الْأَمر مُبَالغَة فِي فَكَرَ وَهُوَ أشيع فِي الِاسْتِعْمَال من فكر وَفِي المشكلة أعمل عقله فِيهَا ليتوصل إِلَى حَلهَا فَهُوَ مُفكِّر وَفُلَانًا بِالْأَمر أخطره بِبَالِهِ (محدثة)”  [المعجم الوسيط (2/ 698)]

وهنا نرى بأن المعجم الوسيط يورد الفعل (أَفْكَر) على وزن (أفعَل) والذي مصدره (الإفعال) أي (الإفكار).

 

فها هي المعاجم القديمة والجديدة تنسف المعترض وادعاءاته الواهية، والمصيبة الكبرى أنه يضمّن هذه الادعاءات في أطروحة دكتوراة مزعومة ويصادق له عليها أساتذة في الجامعات العربية، وهذه هي الطامة الكبرى!!!

أما إذا كان اعتراض المعترض هو عدم تطابق وزن الفعل (يفكّر) مع وزن المصدر الذي يليه (الإفكار)، حيث إن مصدر (يُفكّر) هو (التفكير)، والمصدر (إفكار) مشتق من الفعل (أَفْكَر)؛ فهنا لا بدّ أن نعود بهذا المعترض الجاهل إلى باب المفعول المطلق لنعلّمه، أن المصدر الذي يلي الفعل ليس بالضرورة أن يكون مصدره الصريح المشتق منه، بل من الممكن أن يُحذف هذا المصدر لينوب عنه ألفاظ أخرى تسمى (بنائب المفعول المطلق). ومن هذه الألفاظ، اللفظ الذي يلاقي المصدر في أصول مادة الاشتقاق؛ بأن يشاركه في حروف مادته الأصلية؛ إما مع كونه مصدر فعل آخر؛ وإما مع كونه اسم عين.

فإن كان منطلق اعتراض المعترض عدم التطابق بين الفعل والمصدر الذي يليه؛ فهو بذلك يشهد على جهله بالمفعول المطلق وما يمكن أن ينوب عنه، وهي أمور من أبجديات وبديهيات النحو والصرف.

ولسنا هنا بصدد إعراب الجملة “ليفكر فيه حق الإفكار” حيث كلمة “حق” هي نائب المفعول المطلق على اعتبار أنها صفة للمصدر؛ ولكن ما يهمنا أن نثبت أنه بعد الفعل ليس بالضرورة أن يتبعه مصدره المشتق منه، ولا شيء في العربية يلزم ويحتم حدوث هذا الأمر؛  بل ممكن أن يتبع الفعل مصدر مشابه لمصدره الصريح، مشتق من فعل آخر مشابه له بمادته اللفظية. كما يقول الله تعالى : “وتَبتّل إليه تبتيلا” بدلا من تبتّل إليه تبتُّلا. كما يمكن القول تبتّل إليه حق التبتّيل، أو القول : تكلمتُ أحسن التكلم أو أحسن الكلام ، أو صحتُ أعلى صراخ.

وفي هذا يقول النحو الوافي:

“فمما يصلح للإنابة عن المصدر المؤكد:

1- مرادفه؛ مثل: أحببت عزيز النفس مقة، وأبغضت الوضيع كرهًا.

2- اسم المصدر, بشرط أن يكون غير علم: نحو: توضأ المصلي وضوءًا – اغتسل – الصانع غسلًا، فالوضوء والغسل اسما مصدرين للفعلين قبلهما، نائبين عن المحذوف، ومثل: فرقة، وحرمة، في قولهم: افترق الأصدقاء فرقة، ولكني أحترم عهودهم حرمة، فالكلمتان اسما مصدرين للفعلين “افترق، واحترم” قبلهما، ونائبين عن المصدرين المحذوفين؛ كالشأن في كل ما يلاقي المصدر في أصول مادة الاشتقاق؛ بأن يشاركه في حروف مادته الأصلية؛ إما مع كونه مصدر فعل آخر؛ كالمثالين الأولين، ونحو: “التبتيل” في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ  إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ، فإنه مصدر للفعل: “بَتَّل” وقد ناب عن “التبتل”، الذي هو مصدر الفعل: “تبتل” وإما مع كونه اسم عين؛ نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} ، فكلمة: “نباتًا” اسم للشيء الثابت من زرع أو غيره، وقد ناب عن: “إنباتًا” الذي هو المصدر القياسي للفعل: “أنبت”. ” [النحو الوافي (2/ 214-215) ]

وهذه كلها تنوب عن المصدر المبين أيضا غير ان هناك أمور اخرى تنوب عن المصدر المبين كصفة المصدر وفي هذا يقول النحو الوافي في سياق النيابة عن المصدر المبيِّن:

” صفة المصدر المحذوف1؛ نحو: تكلمت أحسن التكلم وتكلمت أي تكلم2، إذ الأصل: تكلمت تكلمًا أحسن التكلم – وتكلمت تكلمًا أي تكلم، بمعنى: تكلمت تكلمًا عظيمًا – مثلًا. [النحو الوافي (2/ 216)]

 

ومن كل هذا يثتب جهل المعترض من جديد، ويثبت صحة كلام المسيح الموعود عليه السلام. وبالرجوع إلى كلام المسيح الموعود عليه السلام هذا بسياقه، نرى السبب الذي حدى بالمسيح الموعود عليه السلام لاختيار كلمة (إفكار) بدلا من (التفكير)؛ والسبب هو السجع الوارد في الفقرة نفسها، والذي ينتهي بالأحرف (ار)؛ وجاءت كما يلي:

“وإنْ كان قصد التوهين والاحتقار، فسيقضي الله بيني وبينه ومَن ظلم فقد بار. وإني سأرسل كتابا إلى مدير “المنار”، ليفكّر فيه حق الإفكار، فإمّا اكفهرارٌ بعدُ وإمّا اعتذار، وإنّما هو لإظهار الحق معيار” (الهدى والتبصرة)

وهذا دليل على تفنن المسيح الموعود عليه السلام بهذه الألفاظ والأساليب اللغوية مما يدل على بسطته في اللغة وامتلاكه ناصيتها.