المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..274

نكتة العجمة في الخلط بين حروف الجرّ  ..2

الاعتراض :

يدّعي المعترض وقوع الخطأ في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام، وهي:

1: ومن أنباء العليم القهار أنه أخبر مِن تعطيل العِشار وتفجير البحار وتزويج الديار، فظهر كما أخبر (سر الخلافة)

2: ألا يرون أن الله أخبر مِن وفاة المسيح في مقامات شتى؟ (التبليغ)

3:  وما قدر عليه السابقون إلا لشِقِّ الأنفس وبذلِ الجهد إلى سنوات  (إعجاز المسيح)

وموضع الخطأ وفق زعمه، باستعمال حروف جرّ غير صحيحة وليست في مكانها، بدلا من حروف جرّ أخرى، وكان الأَوْلى أن يقول: (أخبر عن)، بدلا من (أخبر من) ؛ وكذا: (بشق الأنفس)، بدلا من (لشق الأنفس).

الردّ:

قدم المعترض العديد من الجمل الأخرى مدّعيا فيها نفس الادعاء، بأن المسيح الموعود عليه السلام يخلط بين حروف الجر، وسبب ذلك وفق زعمه هو العجمة وقلة علمه عليه السلام باللغة العربية والعياذ بالله. وقد أجبنا عن تلك الجمل في مقال مفصل. (يُنظر مظاهر الإعجاز 28 على الرابط التالي: https://wp.me/pcWhoQ-3wm )

وما قلناه في ذلك المقال ينطبق تمام الانطباق على هذه الجمل والفقرات الجديدة التي نعرضها في هذا المقال. فحقيقة الأمر أنه لا خطأ واقع في هذه الجمل قطّ، ولا خلط ولا عجمة بتاتا. بل توجيه هذه العبارات الأول أن المسيح الموعود عليه السلام، ولبسطته في اللغة، يتفنن في استعمال حروف الجرّ؛ وذلك وفق المبدأ الكوفيّ الذي يجيز نيابة حروف الجر مناب بعضها بعضا، على اعتبار أنها تعني نفس المعنى حقيقة، حيث يذهب المذهب الكوفيّ إلى أن حرف الجر قد يحمل معاني حقيقية متعددة ولا يقتصر معناه على معنى واحد. وأما التوجيه الثاني فهو ما تذهب إليه المدرسة البصرية، وهو في تضمين الأفعال المتعدية بأحرف الجر هذه المعترَض عليها، معنى فعلٍ آخر يتعدى بنفس هذا الحرف، أو قد تلجأ هذه المدرسة إلى القول بالمجاز في مثل هذه الاحوال.

وعلى أي حال، فسواء أخذنا بالمدرسة الكوفية او البصرية، فعبارات المسيح الموعود عليه السلام المعترَض عليها في هذا الشأن، تتوجه على نيابة حروف الجر مناب بعضها بعضا، إما حقيقة أو تضمينا أو مجازا، ولا خطأ ولا عجمة في كل هذا.

وعليه يكون توجيه العبارات السابقة على مل يلي:

الفقرة الأولى والثانية :

1: ومن أنباء العليم القهار أنه أخبر مِن تعطيل العِشار وتفجير البحار وتزويج الديار، فظهر كما أخبر (سر الخلافة)

2: ألا يرون أن الله أخبر مِن وفاة المسيح في مقامات شتى؟ (التبليغ)

وفق المدرسة الكوفية على نيابة حرف الجرّ (مِن) مناب الحرف (عن)؛ وفي هذا الصدد جاء في معجم الصواب اللغوي ما يلي:

“ومجيء «مِن» بدلاً من «عن» كثير في الاستعمال الفصيح، كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر/22، وورد عن العرب أمثلة كثيرة ذكرها ابن قتيبة كقولهم: حدثني فلان من فلان. واشتراك الحرفين في بعض المعاني كالتعليل والمجاوزة- وهما من المعاني الأساسية للحرف «عن» – يسوِّغ صحة النيابة، ويؤكدها وقوعها في بعض الأفعال في المعاجم القديمة. ” [معجم الصواب اللغوي (1/ 37)]

ويؤيد كل هذا ما جاء في الجنى الداني عن معاني (مِن) حيث يقول:

المعنى “السادس: المجاوزة. فتكون بمعنى عن، كقوله تعالى ” أطعمهم من جوع ” ، أي: عن جوع. وقوله تعالى ” فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله “ ، أي: عن ذكر الله. وقول العرب: حدثته من فلان، أي: عن فلان. ومثله ابن مالك بنحو: عدت منه، وأتيت منه، وبرئت منه، وشبعت منه، ورويت منه. قال: ولهذا المعنى صاحبت أفعل التفضيل؛ فإن القائل: زيد أفضل من عمرو، كأنه قال: جاوز زيد عمراً في الفضل أو الانحطاط.” [الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 52، بترقيم الشاملة آليا)]

وما يهمنا من اشتراك المعاني بين (مِن) و(عَن) هو معنى المجاوزة، الذي يبغيه المعترض في اعتراضه، والذي هو المقصود في هذه الجمل من كلام المسيح الموعود عليه السلام. فنرى أن الحرفين يتشاركان هذا المعنى، ولذا جاز نيابة أحدهما عن الآخر.

كما يمكن ان تكون (مِن) في الفقرات المذكورة نابت عن حرف الباء، ليكون اصل الكلام “أخبر بــ”، ويؤيد هذا أن (مِن) قد تأتي موافقة للباء، كما ينص عليه الجنى الداني في معنى من الحادي عشر ليقول:

“الحادي عشر: موافقة الباء، نحو ” ينظرون من طرف خفي ” . قال الأخفش: قال يونس: أي: بطرف خفي. كما تقول العرب: ضربته من السيف، أي: بالسيف. وهذا قول كوفي. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية.” [الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 53، بترقيم الشاملة آليا)]

ويؤكده مجمع الصواب اللغوي فيما يلي:

” ومجيء «من» محل «الباء» كثير في الاستعمال الفصيح، كما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الرعد/11. أي، بأمر الله، وقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} نوح/25، وقول الشاعر:

يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل

واشتراك الحرفين في بعض المعاني، كالتبعيض والاستعانة والتعليل يمكن معه اعتبارهما مترادفين. ويؤكد صحة النيابة هنا وقوعها في بعض الأفعال في المعاجم القديمة….. [معجم الصواب اللغوي (1/ 181)]

هذا كله على نيابة حروف الجر بعضها بعضا.

وأما على التضمين، فيمكن تضمين الفعل (أخبر) معنى الفعل (فرغ) و(انتهى) المتعدي بمن، ليدلل على أن الله تعالى أخبر عن هذه الأمور وفرغ منها وانتهى من ذكرها، فهي أمور مفروغ منها وليست بحاجة إلى المزيد من التفصيل.

وقد تُحمل (مِن) في الفقرات أعلاهن بتاويل او آخر، على معنى ابتداء الغاية أو التبعيض، وهذه ايضا من معانيها.

3:  وما قدر عليه السابقون إلا لشِقِّ الأنفس وبذلِ الجهد إلى سنوات  (إعجاز المسيح)

يريد المعترض أن تُستعمل الباء بدلا من اللام في هذه الفقرة، إلا أنه في الحقيقة لا فرق بين الحرفين في هذا السياق، فكلاهما يفيدان التعليل ويشتركان في هذا المعنى؛ وهو في الحقيقة المعنى المقصود، حيث جاء عن أحد معاني اللام ما يلي:

“السابع: التعليل. نحو: زرتك لشرفك.” [الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 15، بترقيم الشاملة آليا)]

والباء تشاركها هذا المعنى، حيث جاء من معاني الباء أيضا التعليل والسببية وهما معنى واحد :

” الرابع (من معاني الباء): التعليل: قال ابن مالك: هي التي تصلح غالباً في موضعها اللام. كقوله تعالى ” إنكم ظلمتم أنفسكم، باتخاذكم العجل ” ، ” فبظلم، من الذين هادوا، حرمنا ” ، ” فكلا أخذنا بذنبه ” . واحتزر بقوله غالباً من قول العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حي. وغضبت به، إذا غضبت من أجله وهو ميت.

ولم يذكر الأكثرون باء التعليل، استغناء بباء السببية، لأن التعليل والسبب عندهم واحد. ولذلك مثلوا باء السببية بهذه المثل التي مثل بها ابن مالك للتعليل.” الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 5، بترقيم الشاملة آليا)

وعليه فلا خطأ في أن تنوب اللام عن الباء حقيقة في هذا السياق.