المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..35
نكتة العجمة في العدد والمعدود ..1
الاعتراض:
يقول المعترضون بوقوع خطأ مركب في إلهام المسيح الموعود عليه السلام التالي:
– إنا أَمَتْنا أربعةَ عشرَ دوابًّا، ذلك بما عصَوْا وكانوا يعتدون.” (الاستفتاء)
ففي كلمة “دوابّا” ثلاثة أخطاء، أولا: صرفها رغم كونها ممنوعة من الصرف، فيجب أن تكون “دوابَّ”.
ثانيا: أنّ المعدود بعد 14 يجب أن يكون مفردا منصوبا، فنقول 14 دابةً.
وثالثا: حيث إنّ دابة مؤنثة، فيجب أن يُكتب أربع عشرة أي أن يذكّر العدد، فهذه ثلاثة أخطاء في نصف سطر.
وقالوا: هذه ثلاثة أخطاء لا ينتطح فيها عنزان. فهُبُّوا أيها اللغويون، ودافعوا عن لغتكم وتاريخكم ودينكم من كل خَوَّان كَفُور.
الردّ:
أولا: من حيث كونها منصرفة، فكلمة دوابّ هي من صيغ منتهى الجموع التي تقول القاعدة الرائجة بوجوب منعها من الصرف، إلا أن مجيئها منصرفة في إلهام المسيح الموعود عليه السلام لا خطأ فيه، وذلك لأنه يسير وفق قاعدة فصيحة أخرى تجيز صرف صيغ منتهى الجموع، وفق لغة من لغات العرب التي تجيز صرف الممنوع من الصرف دائما وبالأخص في صيغ منتهى الجموع. وتعود هذه اللغة إلى بعض القبائل العدنانية التي سكنت أواسط الجزيرة العربية، وهي قبائل معروفة بفصاحتها ونقاء لغتها. وقد أثبتنا كل هذا في مقال منفصل من الممكن الرجوع إليه على الرابط التالي: المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية – صرف الممنوع من الصرف .. النصر المؤزر من الله تعالى
حيث عرضنا في هذا المقال بحثا خاصا من جامعة الشرق الأوسط الأردنية، قُدم كرسالة ماجستير، خلص فيه الباحث إلى ما يلي:
– صرف الممنوع من الصرف لا ينبغي أن يحال ألى الاضطرار والتناسب فقط، لأنه لغة عربية فصيحة لكنها لا ترقى إلى مستوى القاعدة.
– توجيهات النحاة في أن صرف الممنوع من الصرف للضرورة الشعرية فقط، أو للتأثر بها أو للتناسب والمزاوجة فقط؛ لا ترقى إلى الدليل والبرهان والحجة.
– صرف الممنوع من الصرف لم يكن إلا لغة عربية فصيحة تعود إلى قبائل وسط الجزيرة العربية ينتهي نسبها إلى بني عدنان، حيث صرفت هذه القبائل الممنوع من الصرف مطلقا، ودليل فصاحة هذه اللغة ورودها في القرآن الكريم.
– إن صرف الممنوع من الصرف في الشعر العربي لم يكن للضرورة الشعرية فقط، بل لأن شعراء تلك القبائل اعتادوا صرف الممنوع من الصرف مطلقا؛ وتأثر بهم أيضا الشعراء القحطانيون.
– قواعد الممنوع من الصرف المعروفة لنا إنما حدثت نتيجة التطور اللغوي للغة العربية، وما اختلاف النحاة في علل الممنوع من الصرف إلا دليل على أنها لغة من لغات العرب ( أي صرف الممنوع من الصرف).
– ومن أهم ما توصل إليه هذا البحث هو ما يتعلق بصرف صيغ منتهى الجموع كمثل كلمة “دوابّ” الواردة في إلهام المسيح الموعود عليه السلام المذكورة آنفا حيث جاء في هذا البحث ما يلي:
” ويخلص الباحث إلى القول: إن صيغ منتهى الجموع فيها لغتان: إحداهما تمنع هذه الصيغ من الصرف، والأخرى تجيز صرفها، ويستند الباحث إلى الشواهد النحوية التي صرفت صيغة منتهى الجموع من غير علة أوجبت صرفها فجاء صرفها يمثل لغة فصيحة من لغات العرب. ويرى الباحث أن من يصرف صيغة منتهى الجموع مصيب غير مخطئ وقد أصاب وجها من وجوه العربية، لا يمكن إنكاره أو تجاهله. مما جعل النحاة يقولون:
والصرف في الجمع أتى كثيرا حتى ادعى قوم به التخييرا
إذن فإن صرف غير المنصرف من صيغ منتهى الجموع لهو في خيار الكاتب ولا إلزام فيه عند النحاة، وهو بعيد كل البعد عن الضرورة الشعرية والتناسب اللفظي.
وبهذا نكون قد قوّضنا الاعتراض الأول الذي ساقه المعارضون لإلهام المسيح الموعود عليه السلام الآنف الذكر .
ثانيا: بالنسبة لورود التمييز بعد العدد أربعة عشر مجموعا، فهو الآخر لا خطأ فيه وفق لغة للعرب أقر بها الفرّاء، حيث أجاز جمع التمييز بعد الأعداد من 11 إلى 99 وفق ما أورده السيوطي في كتابه همع الهوامع، حيث جاء: ((التركيز على ما بين الأقواس المزدوجة))
“وَإِن كَانَ أحد عشر إِلَى تِسْعَة وَتِسْعين ميز بمفرد مَنْصُوب نَحْو: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يُوسُف: 4] {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [الْبَقَرَة: 60] (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الْأَعْرَاف: 142] {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الْأَعْرَاف: 155] ((وَلَا يجوز جمعه عِنْد الْجُمْهُور. وَجوّزهُ الْفراء نَحْو: عِنْدِي أحد عشر رجَالًا، وَقَامَ ثَلَاثُونَ رجَالًا، وَخرّج عَلَيْهِ {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} [الْأَعْرَاف: 160])) . {(إ.هـ)همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 348- 347)}
إذن، فقد أجاز الفراء جمع التمييز بعد الأعداد 11إلى 99. ومثّل له بما جاء في القرآن الكريم: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} فبطل اعتراض المعترضين من هذه الزاوية أيضا.
ثالثا: أما بالنسبة لمسألة تذكير وتأنيث العدد الذي اعتُرض عليه فنقول:
“إن القاعدة الأساسية تقرّ بأنه إذا كان مفرد التمييز ( المعدود) مذكرا حقيقيا فلا بدّ من تأنيث العدد بإظهار التاء المربوطة في صدر العدد المركب وحذفها في عجزه، فنقول: ( أربعةَ عشَرَ ولدا). وإن كان مفرد المعدود مؤنثا حقيقيا وجب تذكير العدد، بحذف التاء المربوطة في صدر العدد المركب وإظهارها في عجزه، فنقول: أربعَ عشرةَ بنتا.
وفيما عدا هاتين الحالتين، فيجوز الخيار في تأنيث العدد أو تذكيره. وذلك في العديد من الأحوال منها: أن يكون المعدود مؤنثا أو مذكرا مجازيا، أو لفظا يدل على المذكر والمؤنث، مثل:شخص ونفس وحال. وهذا ما يؤكده النحو الوافي في حديثه عن المعدود وأحواله من حيث التذكير والتأنيث. حيث جاء:
“وقد يكون ( المعدود) صالحا للدلالة على المؤنث أو المذكر، مثل: شخص، نفس، حال …
فإذا كان المفرد مؤنثا تأنيثا حقيقيا “وهو الذي يلد ويتناسل، ولو من طريق البيض” وجب مراعاة هذا التأنيث بتذكير اسم العدد، سواء أكان التأنيث الحقيقي لفظا ومعنى معا، أم معنى فقط. “مثل: فاطمة، زينب”.
وإن كان المفرد مذكرا لفظا ومعنى وجب مراعاة هذا التذكير بتأنيث اسم العدد. وفي غير هاتين الحالتين يصح اعتبار المفرد مذكرا أو مؤنثا؛ كأن يكون مذكرا لفظا ومعناه مؤنث تأنيثا مجازيا، مثل “حرف” المراد به: كلمة. و”بطن”: المراد به: “قبيلة”، و”كتاب” المراد به: ورقاته … وكأن يكون مؤنثا لفظا ومعناه مذكر؛ مثل: طلحة، حمزة، معاوية، وكأن يكون لفظا يصلح للدلالة على المؤنث حينا والمذكر حينا آخر كالأمثلة السالفة “شخص، نفس، حال” وغيرها مما يصلح للأمرين …
بالرغم من أن هذه الصور يجوز فيها اعتبار المفرد مؤنثا أو مذكرا فالأحسن في المفرد إن كان علما مراعاة لفظه، وكذلك إن وجد في السياق ما يقوي جانب اللفظ. فنقول: ثلاث طلحات أو ثلاثة طلحات، والأول أحسن: مراعاة للفظ المفرد “طلحة” لأنه علم. ونقول: ممن اشتهروا في صدر الإسلام بأعمال جليلة باقية على الزمان، سجلها التاريخ لهم: أربعة شخوص، عرفوا بالخلفاء الراشدين، ويصح أربع شخوص؛ ولكن التأنيث هنا أحس؛ لأن نسق الكلام جار على التذكير؛ ففيه: “اشتهروا، لهم، عرفوا، الراشدين”؛ وهذا الاتجاه يقوى في المفرد “وهو: شخص” ناحية التذكير، ويغلبها على ناحية التأنيث، فيستحسن تبعا لهذا تأنيث العدد. (إ.هـ) {النحو الوافي (4/ 542- 541)}
وبناء عليه، فإن كلمة دابة قد وضعت للمؤنث والمذكر من الحيوان والإنسان، فالثور المذكر دابة، والبقرة المؤنث دابة أيضا؛ والرجل دابة والمرأة دابة،كما هو الأمر بالنسبة لكلمة نفس وشخص التي يستوي فيها المذكر والمؤنث.
وعليه فيجوز في العدد لكلمة دابّة أن يكون مذكرا أو مؤنثا، فنقول : أربعة عشرَ دابةً/ دوابًا. أو أربعَ عشرةَ دابة/دوابًا؛ هذا بغض النظر عن جنس المعدود حقيقة أهو مجموعة من الثيران/ الرجال أو مجموعة من البقر/ الإناث، ففي كليهما من الممكن أن يكون العدد مذكرا أو مؤنثا، رغم استحسان الملائمة ومراعاة اللفظ وفق القاعدة الأساسية، التي ذكرناها أعلاه. وهذا مطابق تماما للمثال الذي أورده النحو الوافي عن الخلفاء الراشدين إذ قال عنهم: أربعة شخوص وأربع شخوص، رغم أن الحديث عن مذكر.
لذلك فإن التخريج الأول لتأنيث العدد في (أربعة عشر دوابا) هو كون كلمة دابة مما يستوي فيها المذكر والمؤنث فيجوز تذكير العدد أو تأنيثه معها ولو قُصد بلفظها التأنيث.
هذا هو التخريج الأول لمسألة تذكير العدد في “أربعة عشرَ دوابا” ، أما التخريج الثاني فهو من باب حمل الكلام على المعنى دون اللفظ.
إذ كثيرا ما يُحمل العدد والمعدود على المعنى وليس اللفظ، وهو دارج في أسلوب الحمل على المعنى. فقد يُحمل المذكر على المؤنث والعكس كذلك.
وفي هذا فقد أفرد الدكتور علي عبد الله حسين العنبكي في كتابه “الحمل على المعنى في العربية” فصلين في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، ومما قاله فيها:
” المذكر هو الأصل والمؤنث فرع عليه؛ ولذلك ساغ ردّ الفرع إلى الأصل وحمله عليه. قال ابن جني:
“وتذكير المؤنث واسع جدًّا؛ لأنه ردّ فرع إلى أصل. لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والإغراب. وسنذكره.( الخصائص (2/ 417)}
((والتذكير والتأنيث حملا على المعنى لا يكون إلا في الأسماء المجازية،)) لأن الحقيقة ليس لها معنى ثان فتحمل عليه، قال ابن رشيق القيرواني: (ولا يجوز أن تؤنث مذكرا على الحقيقة من الحيوان، ولا أن تذكر مؤنثا”
وليس مرادنا من الحمل على المعنى في تأنيث المذكر أو تذكير المؤنث ((إلا أن للاسم معنى آخر فيحمل على ذلك المعنى،)) أما إذا كان الاسم يذكّر ويؤنث، أو كانت فيه لغتان، فلا يكون محمولا على المعنى، ولذلك قال أبو البركات الأنباري: “وزعم بعض النحويين أن النفس تذكّر وتؤنث، فلا يكون الكلام محمولا على المعنى”….
وذكر ابن الأثير إن تذكير المؤنث شائع في كلام العرب.وقال ابن مالك:”(( وربما أوِّل مذكر بمؤنث،ومؤنث بمذكر، فجيء بالعدد على حسب التأويل”،)) وإنما يذكّر المؤنث إذا كان بمعنى اسم آخر مذكر، فيحمل الكلام على معنى ذلك الاسم، كالحوادث والحدثان، والأرض والمكان، والصحيفة والكتاب.
ومن الأمثلة التي أوردها على تأنيث المذكر في العدد والمعدود حملا على المعنى، ما يلي:
1- {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} (الأَعراف 161) فقد انّث العدد اثنتي عشرةَ إذ أراد اثنتي عشرةَ فرقة أو أمة، وأسباطا بدل من اثنتي عشرةَ.
2- فكان مجنى دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبانِ ومُعصرُ. فقال (ثلاث شخوص) والشخص مذكر؛لأنه قصد النساء: فأنث العدد على المعنى، ثم ابان ذلك وكشف عن معناه بقوله: كاعبان ومعصر.
3- وقال النوّاح الكلابي: وإن كلابا هذه عشرُ أبطن وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ. أنّث (عشرُ أبطن) حملا على معنى القبائل؛ لأنه أراد بالبطن القبيلة، ثم بين بقوله (من قبائلها العشر) فأنّث على لفظ القبائل بعد أن حمل على معناها.
ومن الأمثلة على تذكير المؤنث في العدد والعدود حملا على المعنى، ذكر ما يلي:
1- قول القتّال الكلابي: قبائلنا سبعٌ وأنتم ثلاثةٌ وللسبعُ خيرٌ من ثلاثٍ وأكثر. قال وأنتم ثلاثة فذكّر؛ لأنه أراد بالقبائل البطون، لأن معنى القبيلة والبطن واحد، او انه أراد الحي، والحي مذكر.
2- قال الحطيئة: ثلاثة أنفس وثلاث ذودٍ لقد جاز الزمان على عيالي. ذكر العدد”ثلاثة” والنفس مؤنثة؛ لأنه حمل على معنى الشخص أو الإنسان، فذكّر على هذا المعنى.
وكل هذا ينطبق على إلهام المسيح الموعود عليه السلام الذي نحن بصدده. فلما كان قصد الإلهام في كلمة “دوابّ” الإشارة إلى أعداء المسيح الموعود عليه السلام الذين قاموا ضده، حمل كلمة دواب مجازا على معنى آخر وهو احد الكلمات التالي: رجال أو مشايخ أو أعداء أو أشخاص أو إنسان في معانيها المذكّرة؛ ونظرا لهذا الحمل على المعنى جاء تأنيث العدد (بأربعةَ عشرَ).
وهنا لا بدّ أن نذكُر سياق هذا الإلهام الذي ذكره المسيح الموعود عليه السلام، لنرى كيف أنه طبّقه على أعدائه من المخالفين المحاربين من البشر الدواب.
قال حضرته عليه السلام:
“إنا أَمَتْنا أربعةَ عشرَ دوابًّا، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.”
(1) قال المسيح الموعود – عليه السلام -: لقد هلك “بابو إلهي بخش” بالطاعون بعد هلاك إحدى عشرة دابة كما جاء في البيت التالي الذي أُلهمتُه:
“برمقام ِفلک شدہ يا ربّ گر اميدے دہم مدار عجب” (فارسية)
“بعد 11.” (أردية)
أي: لقد بلغ دعاؤك عنان السماء، فلو وعدتُك الآن وعدًا فلا تستغربْ. بعد 11.
فتبين من ذلك أن بابو كان رقم 12، وبقي بعده اثنان آخران حتى يكتمل عدد 14. (التذكرة (2/ 89) نقلا عن حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية، مجلد 22، ص 589، الحاشية)
وبهذا نكون قد حطّمنا الاعتراضات الثلاثة التي أثارها المعارضون من جهلهم المركب لقواعد اللغة العربية وصرفها ونحوها، سواء في تمييز العدد أو الممنوع من الصرف، أو تذكير العدد وتأنيثه، ونكون بذلك قد أمتنا خمسةَ عشرَ دوابًا في مقال واحد.
ويكون قد ثبت من كل ذلك أن لا خطأ البتة في إلهام المسيح الموعود عليه السلام، بل هو لغة عربية فصيحة بليغة لم تمسها عجمة. وكل هذا دليل على صدق حضرته في تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية من الله تعالى في ليلة واحدة.