الإيجاز في مظاهر الإعجاز ..10
نكتة رفع خبر كان وأخواتها
الاعتراض:
أخطأ المسيح الموعود عليه السلام في رفع اسم (كان) وهي الألفاظ الموجودة بين الأقواس المزدوجة في الفقرات التالية:
- وقد علمتم يا معشر الأعزة، أن مالِك الذي كان ((أحد )) من الأئمّة الأجلّة (مكتوب أحمد)
- فالآية تدل على أنه علم للساعة من وجه كان ((حاصل)) له بالفعل (حمامة البشرى).
- دقّت المباحث الدينية في هذا الزمان، وصارت معضلاتها ((شيء)) لا تفتح أبوابها من دون الرحمان (الهدى والتبصرة)
- وكان هذا ((وعد)) من الله في التوراة والإنجيل والقرآن (الخطبة الإلهامية).
- وكان هذا ((وعد )) من الله القهار (سر الخلافة).
- كان هذا ((يومٌ)) بعدَ يوم العيد (نجم الهدى).
- وكان ذلك ((وعدٌ)) من الله المنّان (لجة النور).
- وكان وقتي هذا ((وقت ))كانت العيون فيها مُدّتْ إلى السماوات مِن شدّة الكربة (نجم الهدى).
- فإن الله الذي هو قيّوم الأشياء، وبه بقاء الأرض والسماء، كيف يمكن أن يكون ((أحدٌ)) من الموجودات. (مكتوب أحمد).
- إن الصدّيق والفاروق كانا ((أميرا)) ركبٍ علوا لله قُننًا عُلى ودعوا إلى الحق أهل الحضارة والفلا (سر الخلافة)
- هذا ما أُشيرَ إليه في الفاتحة، وما كان ((حديث)) يُفترى (الخطبة الإلهامية)
- وكان الميّت حيّاً ما دام عيسى ((قائم)) عليه أو قاعداً (حمامة البشرى)
- وكانوا عند الحرب لمواضعهم ((ملازمون)). (نجم الهدى).
الردّ:
لم يرِد أيُّ خطأ في الفقرات أعلاه ولم يرتفع خبر كان في أيٍّ منها. بل الكلمات بين الأقواس المزدوجة لها توجيهات عديدة لإثبات صحتها من الناحية النحوية، وإليكم أهم هذه التوجيهات بالنسبة لكل فقرة:
1- هذه الكلمات مرفوعة على اعتبارها أسماء لكان وأخواتها وليس أخبارا لها. وذلك وفق القاعدة التي تبيح للنّكرات عامة وبالأخص النكرات المخصصة لإفادتها، أن تكون أسماء للنواسخ. وكل هذه الكلمات نكرات مخصصة بالوصف أو الإضافة، فهي نكرات مفيدة يصح اعتبارها أسماء للنواسخ، ولذا جاء رفعها. وهذا التوجيه يسري على كل الفقرات أعلاه، وهو التوجيه الأساسيّ.
2- في معظم هذه الفقرات من الممكن اعتبار (كان) شأنية، أي أُضمر ضمير الشأن فيها على أنه اسمها، وبقيت الجُمل بعدها مرفوعة الألفاظ كمبتدأ وخبر في محل نصب خبر (كان). مثلا: وكان ( الشأن) هذا وعدٌ.. ضمير الشأن اسم كان؛ هذا: مبتدأ مرفوع ؛ وعدٌ: خبر المبتدأ مرفوع، والجملة (هذا وعدٌ) في محل نصب خبر كان. وهذا التوجيه يسري بالأساس على الفقرات 3-8 والفقرة 12. وقد يسري من منظار معين على باقي الفقرات.
3- معظم الفقرات أعلاه ممكن أن تُوجّه على أن الكلمات بين الأقواس المزدوجة هي أخبار لمبتدأ محذوف يقدّر بتقديرات مختلفة، مثل: هو، هي، هم، حقيقته، حاله، شأنهما. كما يلي: إن الصديقَ والفاروق كانا (هما/ شأنُهما) أميرا ركبٍ..
وهذا التوجيه ينطبق على الفقرات 3-8، والفقرات 10،12،13.
4- أحد التوجيهات الأخرى هو على لغة “حذف الضمير المتصل خبرا لكان”؛ كما وجّه ابن مالك قول السيدة عائشة الوارد في صحيح البخاري بحديثها عن المحصب حيث قالت: إنما كان منزلٌ ينزله النبى صلى الله عليه وسلم.
وجاء توجيهه: إنما كانهُ منزلٌ. وتوجيه أبي علي الفارسي لبيت الشعر: عدو عينيك وشانيهما .. أصبح مشغولٌ بمشغول، بتوجيه (أصبحه مشغولٌ). ومن نفس هذا المنطلق كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: أليس ذو الحجة. أي أليسه ذو الحجة. وهذا التوجيه يسري على معظم أو كل فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه. مثلا: أن مالِك الذي كان ((أحد)) من الأئمّة ؛ بتوجيه: أن مالِك الذي كانه ((أحد)) من الأئمّة.
فوفق هذا التخريج تكون الأسماء المرفوعة بين الأقواس المزدوجة أخبارا مرفوعة على اعتبار الجملة أو جزء من الجملة التي سبقتها هي مبتدأ أو أصلها مبتدأ. كل ذلك بحذف الضمير المتصل خبرا لكان مع ظهور أو إضمار اسمها.
5- بناء على التوجيهات الأربعة الأولى يثبت أن الكلمات بين الأقواس المزدوجة ليست هي بأخبار لكان وأخواتها واجبة النصب؛ بل إما أن تكون اسمًا لها مرفوعا أو أن تكون أخبارا مرفوعة لمبتدأ مذكور، أو محذوف مقدر، سبق ذكره. وأما إن أصرّ شخص ضيّق العقل والأفق، جاهل بعظمة اللغة العربية ومدى اتساعها وغناها اللفظي والمعنوي، على وجوب أن تكون هذه العبارات كلها أخبارا لكان وأخواتها وأصرّ على وجوب نصبها؛ فيكون لا بدّ لنا أن نخاطبه على قدر عقله، فنقول: لا بأس فإن الفقرات 1 إلى 9 والفقرات 11 و12 كلها منصوبة على لغة قبيلة ربيعة حيث تكتب تنوين النصب دون الألف، هكذا : وكان هذا وعدً من الله.. حيث إنها في النسخ الأصلية غير محركة بتنوين الضم مما يسوّغ هذا النوع من التحريك أيضا.
6- وكذلك الفقرة العاشرة: إن الصدّيق والفاروق كانا ((أميرا)) ركبٍ.. فتُوجه وفق لغة للعرب ألزمت الاسم المثنى الألفَ في جميع حالات إعرابه، الرفع والنصب والجر؛ وتعربه كإعراب الاسم المقصور بحركات مقدرة على (الألف)، مع اعتبار النون للتثنية فتُحذف عند الإضافة. وبذلك تكون كلمة (أميرا) خبرا لكان منصوبة بالفتحة المقدرة على الألف، بدلا من أن تُنصب بالياء.
7- وبهذا تثبت صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام وأن لا خطأ فيها، إذ لم يرتفع خبر كان وأخواتها فيها قطّ. وقد أثبتنا ذلك بستة توجيهات نحوية يشهد عليها ابن مالك وأبو علي الفارسي والمحقق أحمد شاكر. إذ ذهب هؤلاء إلى مثل هذه التوجيهات في توجيه الأقوال المشابهة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والسيدة عائشة رضي الله عنها، والصديق أبي بكر رضي الله عنه، والإمام الشافعي رحمه الله، وأبيات أخرى من الشعر العربي؛ فمَن يجرؤ على الطّعن في لغة المسيح الموعود عليه السلام هذه، فإنه يطعن في كل هؤلاء، ويطعن في من أورد أقوالهم على لسانه أو في كتابه كالإمام البخاري.