المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..82
نكتة نصب المبتدأ .. 2
الاعتراض:
قيل بخطأ المسيح الموعود عليه السلام في العبارتين التاليتين:
- وأما إقامته في مقام عيسى وتسميته باسمه فله ((وجهين)) {حمامة البشرى (2/ 39)}
- ولك من الورق ((ألفين))، إن كنتَ تُثبتُ فضل الإنجيل بغير المَيْن. {نور الحق (3/ 10)}
وموضع الخطأ وفق زعمهم يكمن في نصب الكلمات (وجهين) و (ألفين)، وحقها أن تُرفع على الابتداء، على اعتبار أنها مبتدأ مؤخر في “كلتا العبارتين”؛ وشبه الجملة من الجار والمجرور (لك) و (له) السابقة لها هي الخبر المقدم، ووجب القول: (فله وجهان) و (ولك من الورق ألفان).
الردّ:
لقد قمنا في مقال سابق بتوجيه هذه العبارات من كلام المسيح الموعود عليه السلام، من باب نصب المفعول به بفعل محذوف تدل عليه القرائن السياقية واللفظية والحالية والعقلية، كما مثّلنا لذلك بالعديد من الأمثلة المشابهة لهذه العبارات من القرآن الكريم والأدب العربي؛ ومن أهمها ما ذهب إليه محقق رسالة الشافعي أحمد شاكر في توجيه عبارة الشافعي رحمه الله في الفقرة التالية: وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، ((وموْجوداً )) عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، {الرسالة للشافعي (1/ 358)} ، حيث ذهب أحمد شاكر بتوجيه النصب في كلمة ((موجودا)) إلى أنه نصب بفعل محذوف تقديره (تجدُه) أو (تراه).
وكما نرى فإن أحمد شاكر قد استند في توجيهه هذا على القرائن السياقية والعقلية والحالية المستنبطة من السياق نفسه. وعلى ذلك قسنا في توجيه عبارات المسيح الموعود عليه السلام. (يُنظر: مظاهر الإعجاز ..47 )
وبالمزيد من البحث والتحري في هذا الموضوع، نجد لهذه العبارات ما يعضد ويؤيد ما ذهبنا إليه في التوجيه الأول. وهو ما يندرج تحت باب نصب الحال الواقع في السعر بفعل مضمر، كما صنّفه سيبويه في كتابه، حيث جاء:
“هذا باب ما يَنتصب فيه الاسمُ لأنه حال يقع فيه السَّعرُ
وإن كنتَ لم تَلفظ بفعلٍ، ولكنّه حال يقع فيه السَّعْرُ، فيَنتصبُ كما انَتصب لو كان حالاً وقع فيه الفعل، لأنه في أنه حال وقع فيه أمرٌ فى الموضعين سَواءٌ.
وذلك قولُك: لك الشّاءُ شاةً بدرهم شاةً بدرهم. وإن شئت أَلغيت لَكَ فقلتَ: لك الشاءُ شاةٌ بدرهمٍ شاةٌ بدرهمٍ، كما قلتَ: فيها زيدٌ قائمً، رفعتَ.
وإذا قلت: الشاءُ لك، فإن شئتَ رفعتَ، وإن شئتَ نصبتَ، وصار لك الشاءُ إذا نصبتَ بمنزلة وَجَبَ الشاءُ، كما كان فيها زيدٌ قائماً بمنزلة: استقر زيد قائماً.” {الكتاب لسيبويه (1/ 396- 395) }
وفي شرح ما يقوله سيبويه يقول أبو السعيد السيرافي ما يلي:
“هذا باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال
(يقع فيه السعر وإن لم يلفظ بالفعل، وذكر الباب). قال أبو سعيد: إذا قلت لك الشاء شاةً بدرهم، فالشاء: مبتدأ، ولك: خبر مقدم، وشاةً بدرهم: حال.
كأنك قلت: وجب لك الشاء مسعرا بهذا السعر، ولو اكتفيت بقولك: لك الشاء، وسكت، جاز لتمام الاسم والخبر.
وقوله: (إن شئت ألغيت لك). يعني: لم يجعلها خبرا، فتقول على هذا: لك الشاء شاةٌ بدرهم، فتكون الشاء: مبتدأ، وشاة: مبتدأ ثانيا، وبدرهم: خبرها، والتقدير:شاة منها بدرهم، كأنك قلت: الشاء شاة منها لك بدرهم.” شرح كتاب سيبويه (2/ 286)
وبناء على قول سيبويه والسيرافي نرى ما يلي:
- التشابه الكبير بين عبارات المسيح الموعود عليه السلام: (فله وجهين) و (لك من الورق ألفين)، والعبارات التي أوردها سيبويه ( لك الشاء شاةً بدرهم). إذ فيها كلها نرى وقوع النصب دون ذكر الفعل الناصب. كما أنها كلها تبدأ بنفس التعبير والتركيب من الجار والمجرور : لك/ له.
- كما نرى بأن في مثال سيبويه نصبت كلمة (شاةً) على الحال بفعل مقدر مضمر وهو (وجب).
وهذا ما فصّل فيه ابن عصفور الإشبيلي في كتابه “شرح جمل الزجاجي” تحت باب “ما يُنصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره” حيث قال:
“ وأما “لك الشاء شاةً بدرهم”، فلم يظهر لنيابة المجرور منابه.
فإن قلتَ: فإن العرب لا تقول:”لك الشاءُ”، إلا على “مملوك له” فالجواب: إنه لما اقترنت قرينة تبين هذا المقصود، وهو قولك “شاةٌ بدرهم”، جاز أن تقول: “الشاء لك” على غير معنى مملوك له، بل على معنى: مسعرٌّ لك.”
إذن، يفسر ابن عصفور سبب عدم ظهور الفعل في مثل هذا التعبير بنيابة المجرور منابه.
كما أنه يقول، بأن التعبير “لك الشاء” من الممكن أن يُحمل على غير معنى المملوكية، إذا ظهرت القرينة الدالة على ذلك.
وفي تفسير هذا النحو تقول الدكتورة سائدة عمر العيص في كتابها ” الحال” ، بعد أن سردت أحوال الحال المختلفة، كالحال المشتقة والجامدة والمركبة من لفظين والحال الجملة الاسمية وغيرها، قالت ما يلي:
“ وقد كان العامل في الأمثلة السابقة للحال الدالة على سعر هو الفعل، وهناك مجموعة من الأمثلة أوردها سيبويه والمبرد للحال الدالة على سعر، وكان العامل فيها الجار والمجرور، منها:( لك الشاء شاةً ودرهما)، وتقديره: وجب لك الشاء مسعرا بدرهم،و (لك الشاءُ شاةٌ بدرهم)، فتكون الجملة الاسمية (شاةٌ بدرهم) في محل نصب حال. ومنها أيضا: (لك الشاءُ شاةً بدرهم). ”
إذن، تفسر الدكتورة هذا النحو الذي انتصبت فيه الحال في هذه الجملة ( لك الشاءُ شاةً بدرهم) بأنه نصب بالعامل الذي هو الجار والمجرور، وهي توافق بذلك ابن عصفور الإشبيلي حيث تقصد بأن النصب قد حدث بفعل مضمر مقدَّر ناب عنه الجار والمجرور الذي في بداية الجملة (لك) لوجود القرائن الدالة على ذلك.
ثم تضيف الدكتورة قائلة: “ ولعل هذه الأمثلة التي رأينا فيها تعدد الشكل واتحاد المضمون، تندرج ضمن ما ذكره الدكتور إسماعيل عمايرة بشأن ظاهرة التفلت من الحركة الاعرابية بفعل عوامل التطور اللغوي، الأمر الذي دفع النحاة إلى محاولة التأويل والتعليل في تعدد الشكل هذا، وذلك حتى تطّرد قواعدهم وتكون مسوغة خاضعة لنظرية العامل.”
فهي تقر بأن مثل هذه التعابير تخرج عن إطار القواعد النحوية المعروفة، والتي تحتم وجود الفعل العامل في النصب، وتندرج تحت ظاهرة التفلت من الحركة الإعرابية، مما ألجأ النحاة إلى التأويل من أجل إخضاع هذه التعابير لنظرية العامل التي تشكل عامودا أساسيا في صناعة النحو.
ولعل هذا ما يؤكد صحة قول المسيح الموعود عليه السلام:
“إن علماء الصرف والنحو يقولون أيضا بأن جزءا كبيرا من الألفاظ التي تخالف القياس وتخالف الترتيب أيضا موجود على الرغم من تدوين القواعد. ولا يزال عدد مثل هذه الألفاظ التي لا تخضع إلى الآن لأية قاعدة غير معلوم.” {مناظرة دلهي (الخزائن الروحانية مجلد 4) }
فليس من الغريب وليس من البعيد أن تكون مثل هذه التعابير (لك من الورق ألفين/ له وجهين/ لك الشاء شاةً بدرهم) من هذا الصنف من التعابير التي لا تخضع لأي قاعدة نحوية، فلجأ النحاة إلى التأويل فيها وتقدير محذوفات من أجل إخضاعها للقواعد النحوية المعروفة. بدلا من إدراجها تحت قاعدة عامة جديدة ك: نيابة الجار والمجرور مناب الفعل كما ينوب الجار والمجرور مناب الفاعل.
الخلاصة والنتيجة:
على أي حال فإن النتيجة الحتمية التي نخلص إليها كما يلي:
- ورود مثيل عبارات المسيح الموعود عليه السلام: (فله وجهين) و (لك من الورق ألفين)،في اللغة العربية وفق مثال سيبويه : “لك الشاءُ شاةً بدرهم” في باب نصب الحال بفعل غير مذكور.
- من الممكن للتعبير (لك ألفين) و ( له وجهين) أن يرد على غير معنى المملوكية بورود القرائن اللفظية أو الحالية أو العقلية الدالة على ذلك.
- في مثل هذه العبارات والتراكيب وقع النصب بفعل محذوف/ مضمر مقدّر، ناب منابه شبه الجملة من الجارّ والمجرور.
- هذه هي الأمور التي تهمنا في كل هذا البحث، وذلك بغض النظر عن كون المنصوب مفعولا به أو حالا ، إذ ليس ما يهمنا هو التحديد والتدقيق في إعراب الكلمات بقدر ما يهمنا أن النصب قد يرد بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ ينوب عنه الجار والمجرور، أو بكلمات أخرى بأن الفعل قد يُحذف أو يُضمر وينوب منابه الجار والمجرور؛ خاصة عند ورورد القرائن اللفظية والسياقية والعقلية والحالية التي تدل عليه.
- كل هذا يعضد ويؤيد توجيهنا الأول لهذه العبارات، بأنها منصوبة بفعل مضمر/ محذوف مقدّر؛ وقد فهمنا الآن بأن هذا الفعل قد ناب عنه الجار والمجرور المذكوران في بداية الجملة (لك) و (له)، والتي خرجت عن معنى المملوكية بدلالة القرائن المختلفة، بحيث يكون التقدير في عبارات المسيحة الموعود عليه السلام : “نهبُ/ نعطي لك من الورق ألفين“ و “نذكر له وجهين“.
- وكل هذا يؤكد من جديد أن لا خطأ بل لا سهوَ واقع قطّ في عبارات المسيح الموعود عليه السلام قيد البحث!!. وللمتعجب من كل هذا، والمشكك في هذه العبارات ويعدها أخطاء أو سهوا نُصب فيها المبتدأ خطأ، لا بدّ أن يسأل نفسه السؤال التالي: لماذا لم يقع نصب المبتدأ خطأ إلا في مثل هذه التراكيب والتعابير المحتوية على جار ومجرور (لك) و (له) ؟ ولماذا لم يقع الخطأ إلا في مثل هذه التعابير التي لها مثيل في النصب في لغة العرب؟
- أجيب وأقول: إن كل هذا يؤكد أن لا سهو في كل هذه العبارات، بل هو نصب مقصود حملا له على ما ماثله في اللغة العربية من حذف الفعل وإنابة الجار والمجرور منابه. كما أجيب وأقول: إذا كان الخطأ في هذه التعابير مستحيلا فالسهو فيها من عاشر المستحيلات .
- وأما أن مثل هذه التعابير ليست دارجة كثيرا في اللغة العربية، فهذا يجعلها من بين العذراوات اللغوية التي لم يطرقها الأدباء بعد، والتي يقول عنها المسيح الموعود عليه السلام: فكمْ مِن مُلح أُعطيتُها، وكم من عذراءَ عُلِّمتُها! (مكتوب أحمد ).