المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..29
نيابة أحرف الجرّ مناب بعضها، فنّ يسمو مستوى العلماء..
لقد فصّلنا في المقال السابق، أنّ ما ظنّه المعارضون خلطأ أو خطأ في أحرف الجرّ عند المسيح الموعود عليه السلام، ما هو إلا مذهب كوفي يجيز نيابة أحرف الجر مناب بعضها بعضا، أو أنه يندرج تحت أسلوب التضمين الذي سبق وشرحناه مفصّلا أيضا. وقد أثبتنا أن أسلوب التضمين هو أسلوب البلغاء العارفين بدقائق اللغة العربية.
وأما أسلوب إنابة أحرف الجر مناب بعضها، فقد وجدناه في لغة الإمام الشافعي في عدة مواضع من رسالته، ولسنا بحاجة أن نذكّر من جديد، أن الإمام الشافعي حُجة تؤخذ اللغة منه. وقد ذَكر محقق الرسالة العلامة أحمد شاكر ورود هذا الأسلوب من ” إنابة بعض الحروف مناب بعض” في الفقرات التالية من رسالة الشافعي ما بين الأقواس المزدوجة:
1- قال: فأبِنِ الدِّلالة ((في أنه ))إذا قام بعضُ العامَّةِ بالكِفاية أخْرَجَ المُتَخَلِّفينَ مِنَ المَأْثَمِ؟ {الرسالة للشافعي (1/ 364)}. وقيل وجوب كونها : بأنه.
2- ويكونُ في يده السنة ((من رسول الله)) من خمس وجوه فَيُحَدِّثُ بسادس فيكتبُهُ. {الرسالة للشافعي (1/ 433)}
وقيل بوجوب كونها: عن رسول الله.
3- ويمتنع أن يُسمَّى” القياس ” إلا ما كان يحتمل أن يُشَبَّه بما احتمل أن يكون فيه شَبَهاً من معنيين مختلفين، فَصَرَفَه ((على أن يقيسه)) على أحدهما دون الآخر. {الرسالة للشافعي (1/ 516)}. قيل بوجوب كونها: إلى أن يقيسه.
4- وقضى رسول الله ((على أن ))على أهل الأموال حِفظَهَا بالنهار، وما أفسَدَت المواشي بالليل، فهو ضامن على أهلها”. {الرسالة للشافعي (1/ 551)}. قد يشكل على البعض ورود الحرف (على) في هذا الموضع.
5- قال: فَمَثِّل لي بعض ما ((افترق عليه)) من رُوي قوله من السلف. {الرسالة للشافعي (1/ 561)}. قيل بوجوب كونها “افترق فيه”.
وقد حاول بعض المحققين والعلماء تغيير حروف الجر في هذه المواضع في بعض النسخ المنشورة للرسالة، على اعتبار أنها غير صحيحة وغير مناسبة؛ إلا أن المحقق أحمد شاكر قد أثبت كل هذه الحروف وقال إنها هكذا هي في النسخة الأصلية وهي صحيحة. فتعالوا لنرى ماذا قال المحقق العلامة أحمد شاكر عن هذه المواضع وهذا الأسلوب في هامش الرسالة:
قال:
– الشافعي يكثر التنويع في استعمال حروف الجر، ويعلو في عبارته عن مستوى العلماء.
– الشافعي يتفنّن في استعمال الحروف وإنابة بعضها مناب بعض.
– الذي في الأصل صحيح لتفنّن الشافعي في استعمال الحروف.
إذن، خلاصة كلام المحقق أحمد شاكر هي: أسلوب نيابة حروف الجر مناب بعضها هو ” فنّ يسمو مستوى العلماء”.
ودعوني أقل لكم، إنه ليس فقط أسلوب نيابة أحرف الجر، بل كل ما أثبتناه حتى الآن من مظاهر إعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام، كلها فنون لغويّة تسموعقول ومستوى العلماء.
فماذا لنا أن نتعلم من كل هذا؟
لطالما طُلب منا أن نلجأ إلى علماء اللغة ليحكموا على لغة المسيح الموعود عليه السلام، وما أثار الضحك أكثر، أننا طولبنا أن نلجأ إلى معلمي المدارس لأن يحكموا على لغة المسيح الموعود عليه السلام. وهنا أقول: أفنلجأ إلى كل هؤلاء ليحكموا على نكات أدبية وفنون لغوية تسمو وتعلو عقولهم ومستوى علمهم كما يقول أحمد شاكر!!؟؟؟
فسِمة اللغة العربية، أنه ليس كل من حمل شهادة بها، وليس كل من تعلمها وليس كل ما حمل الماجستير والدكتوراة فيها، وليس كل من ظن نفسه أديبا او شاعرا مفوها مخوّلٌ لأن يحكم على ما يرِد فيها من أساليب دقيقة ونكات بليغة.
فانظروا كيف أن علماء ومحققين حاولوا تخطيء الإمام الشافعي وتغيير عباراته في مواضع عديدة من رسالته، وليست هي مقتصرة على هذا الموضوع فقط، بل في نواح لغوية ونحوية أخرى؛ إلا أن الله تعالى قيّض له المحقق والعلامة أحمد شاكر ليقول لكل هؤلاء العلماء: إنكم رغم علمكم، فإن لغة الإمام الشافعي وفنونه في اللغة تفوق علمكم وأدبكم وحكمكم وفهمكم وعقولكم، وما تقولونه وتظنونه أنه خطأ في لغته ليس هو بخطأ، بل لغة عربية صحيحة تندرج تحت أساليب ولغات ووجوه لغوية قد خفيت عنكم وسمت عقولكم، فأقصروا.
وهذا ما نقوله لكل من تسول له نفسه أن يتطاول على لغة المسيح الموعود عليه السلام، ممن ظنوا أنفسهم أنهم علماء وأدباء وشعراء وعارفين ومتعلمين.
وهنا نقول:إن ورود أسلوب نيابة أحرف الجر مناب بعضها في لغة الشافعي الحُجة، وتأكيد المحقق أحمد شاكر أنه فنّ يسمو مستوى العلماء، لهو دليل آخر على صحة كل العبارات التي ورد فيها هذا الأسلوب في كلام المسيح الموعود عليه السلام، وإثبات على سمو ورفعة لغة المسيح الموعود عليه السلام، وأنه ما كان له ليحظى بها لولا تعليم الوحي الإلهي له كل هذه اللغات في معجزة تفوق تصور وفهم المعارضين الذين غطّت غشاوة الحقد قلوبهم وعقولهم.