المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..153
حُجّية القراءات القرآنية ..2
منهجنا الاحتجاج بالقراءات كلها حتى الشاذّ منها على نهج ابن مالك وأبي حيان وابن هشام
هل القراءات القرآنية حجة في اللغة؟
جاء في هذا الصدد في كتاب “نظرية النحو العربي” ما يلي:
“إن النصوص القرآنية تعد في طليعة النصوص اللغوية التي أقرّها النحاة على وفق المعيار السليم، لأنها تمثل قمّة الفصاحة، فالقرآن الكريم أفصح ما نطقت به العرب، ويجوز الاستشهاد بمتواتره وشاذه لأن القرآن وصل إلينا بقراءات مختلفة، منها المتواتر ومنها الآحاد ومنها الشاذ، فالمتواتر هو القراءات السبع المشهورة، والآحاد هو القراءات الثلاث التي تلحق بالسبع وما بمرتبتها من قراءات الأئمة، والشاذ هو ما دون هذه القراءات. ”
[نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث / أطروحة دكتوراة جامعة البصرة / عبد علي صبيح، ص 28]
فنختصر الحديث بناء على هذا النص بالقول الفصل: إن القراءات كلها حجة حتى الشاذ منها.
**************
موقف النحاة من القراءات
فالحقيقة إن موقف النحاة من القراءات القرآنية والاحتجاج بها متباين، فالمدرسة البصرية لم تأخذ بكل القراءات ولم تحتجّ بها كلها، بل أخضعوا القراءات لمنهجهم القياسي ولقواعدهم؛ فأخذوا ما وافق قواعدهم ورمَوا ما لم يوافقها بالشذوذ. أما الكوفيون فكان منهجهم الأخذ بالقراءات والاحتجاج بها وعدم ردّها، مقدّمين بذلك الرواية على القاعدة والقياس.
وفي هذا الصدد جاء :
” والقراءات مصدر مهم من مصادر النحو الكوفي، ولكن البصريين حاولوا أن يُخضعوا هذه القراءات إلى قواعدهم، فما وافق هذه القواعد التي أقروها قبلوه واحتجوا به، وما خالفها رفضوه ووصفوه بالشذوذ.ومن المتعارف أن البصريين كانوا أكثر اعتدادا بالقاعدة والأخذ بالقياس، مما دفعهم ذلك إلى تقديم القاعدة على النص القرآني الموثوق المنقول بالسند الصحيح، على خلاف ما يفترض بالدرس اللغوي الذي يجب أن تسير قواعده خلف النصوص الفصيحة وعلى هدى استعمالاتها المختلفة.
ويبدو أن البصريين خالفوا الكوفيين والقراء بهذا المنهج، ذلك أن أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية، وإذا ثبت عنهم لم يردّها قياس عربية ولا فشُوّ لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها.
أما الكوفيون فكان موقفهم من القراءات يعتمد على احترامها والأخذ بها والتحرّج من مخالفتها، منطلقين إلى ذلك من أسسهم المنهجية في دراسة اللغة وقد مر أنهم يرجّحون السماع والرواية حين يصطدمان بالقاعدة المقيسة، لذا كان اتباع القراءة مبنيا على أساس منهجي، يقول الفراء: ((اتباع المصحف- إذا وجدت له وجها من كلام العرب- وقراءة القراء أحب إليّ من خلافه، قال: وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ: (إنّ هذين لساحران) ولست اجترئ على ذلك. وقرأ (فأصّدقَ وأكون) فزاد واو في الكتاب ولست أستحب ذلك.”
وموقف الفراء هذا ينسجم مع موقف القراء أنفسهم، يقول ابن الجزري: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعية التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة أو عن العشرة أو عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أُطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء أكانت عن السبعة أو عمّن هو أكبر منهم”
[نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث / أطروحة دكتوراة جامعة البصرة / عبد علي صبيح، ص 29-28]
ويورد نفس المصدر أن البصريين قد غلّطوا أيضا قراءة الجمهور ووصفوا المشهور منها بالضعف والشذوذ (ينظر ص 29)
ويتابع نفس المصدر :
” ويستخلص من ذلك أن اللغويين حين فتحوا – منذ أواسط القرن الثاني – باب الطعن على القراءات، قد ضيقوا على أنفسهم وعلى الدرس اللغوي، والذين فتحوا هذا الباب البصريون، فحرموا الدرس اللغوي مصدرا مهمّا من مصادره حين أبعدوا قراءات القرآن واستعمالاتها المختلفة عن مجاله فراحوا يخطئونها، فوقعوا في تناقض واضح، لأن القراءات صحيحة السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأوائل، فالقراءات سجل دقيق لما جرى على ألسنة العرب، ورافد من روافد نظرية النحو العربي، فينبغي للنحاة أن يحتجوا بها إذا ما توافرت لها شروط تواترها أو نسبتها إلى عربي يوثَق بفصاحته وسلامة لغته”
[نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث / أطروحة دكتوراة جامعة البصرة / عبد علي صبيح، ص 31]
فمن الأمور المهمة التي نستخلصها من هذا النصّ بالإضافة إلى ما ذكرناه أعلاه ما يلي:
- القراءة الثابتة الأثر لا يردها قياس ولا فشو لغة
- اللغة يجب ان تسير خلف النصوص الفصيحة، فهنا القراءات تعتبر كلها فصيحة حتى الشاذ منها.
- البصريون هم من فتحوا باب الطعن في القراءات وضيقوا على النحو في منهجهم
- نرى أن المصدر يعتبر القراءات فصيحة لمجرد سماعها عن عربي فصيح
*************************************
القول الفصل في القراءات:
وقد فصَل النحاة المتأخرون في هذا الخلاف بين المدرستين الكوفية والبصرية، حيث اتجه أعلام المدرستين الأندلسية والمصرية إلى الأخذ بالقراءات كلها، لا سيّما الشاذ منها واعتبار كلها حجة في اللغة. ومن أمثال هؤلاء كان أبو حيان الأندلسي وابن مالك وابن هشام. وجاء في هذا الصدد ما يلي:
“إلا أن النحاة لم يكونوا على منهج واحد في أمر القراءات القرآنية التي تخرج عن قراءة الجمهور، فمنهم من ردّ بعضها وقبل بعضا آخر، ومنهم من جعل قراءات القرآن كلها حجة” [أصول النحو العربي، ص 35]
ويتابع نفس المصدر:
“وفي العصور المتأخرة نزع النحاة إلى قبول القراءات جميعا، حتى الشاذة منها، وهذا واضح في تراث ابن مالك، صاحب الألفية، وأبي حيان الأندلسي ..وابن هشام، وابن عقيل، والسيوطي وغيرهم” [أصول النحو العربي ص36]
ويتابع نفس المصدر عن أبي حيان أنه كان شديد الحماسة في الدفاع عن القراءات فيقول عن أبي حيان: فيقول” وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراءة، ولا يجوز لهم ذلك” ويتمسك بالأثر المروي، فهو لا يرى داعيا للمفاضلة بين القراءات، لأنها في رأيه كلها صحيحة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن ترجيح قراءة على قراءة. ”
ومن هنا كان الرجل يقبل لغة القرآن وقراءاته جميعا، وهي عنده حجة، ولو نسب أليها الشذوذ، … وهو لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى مهاجمة بعض النحويين الذين أنكروا قراءات منقولة، من ذلك أن الزمخشري أنكر على ابن عامر، وهو مقرئ أهل الشام، قراءة من قراءاته، فقال أبو حيان:”وأعجب لأعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض، قراءة متواترة موجودا نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت” ويرد على البصريين موقفهم من القراءات، يقول فيهم:” والقراءات لا تجيئ على ما علمه البصريون ونقلوه” ويقول أيضا:”ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة“.
وهكذا تختلف طبيعة الاستقراء للغة القرآنية بين النحاة القدماء والنحاة المتأخرين، فقد كان الأوائل يحذرون من القراءات التي تخالف قراءة الجمهور، أما خلفاؤهم فقد جعلوا قراءات القرآن كلها مجالا للاستقراء، واستنباط القاعدة، أو البناء على الظاهرة، إلا أن الجميع متفقون على شيئ واحد قد يكون أساسا لعملية الاستقراء، هو أن ثمة لغة شائعة كثيرة، وأخرى قليلة نادرة، فإذا صحت لغة القراءة الشاذة أو لغة القراءة التي عليها أحد القراء السبعة،فإن صحتها لا تعني قوتها وفصاحتها، بل تعني أنها لغة مسموعة، ولكنها قليلة، والقليل كما سنرى لا تبنى عليه القواعد.” [أصول النحو العربي 36-37-38]
وبناء عليه فإننا نلحظ بأن النحاة الأوائل لا سيما البصريين منهم لم يقبلوا الاحتجاج بكل القراءات، إلا أن نحاة الكوفة كان منهجهم يميل إلى الأخذ بكل هذه القراءات، وقد أكد واتبع هذا المنهج بشكل واضح النحاة المتأخرون من المدرسة الأندلسية والمصرية كابن مالك وابن هشام وأبي حيان.
*************
منهج ابن مالك في توجيه لغات صحيح البخاري اعتمادا على القراءات:
وخير مثال على نهج النحاة المتأخرين في احتجاجهم بالقراءات القرآنية، لهو نهج ابن مالك في كتابه شواهد التوضيح الذي ذبّ فيه عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم موجها لغاتها على لغات العرب، وقد اعتمد فيه على القراءات القرآنية بشكل كبير . وفي هذا الصدد يقول محقق الكتاب الدكتور طه محسن ما يلي:
“استند ابن مالك إلى الذكر الحكيم في الاحتجاج للمسائل التي عرض لها، وتوجيه مشكل النصوص التي اختارها. وكان يهرع إليه ما وجد إلى ذلك سبيلًا، حتى بلغت شواهده وأمثلته مئة واثنتين وعشرين آية، منها خمس عشرة آية مكررة. وهو يأخذ بظاهرها, ولا يؤثر التأويل والتقدير…
واهتمامه بالقراءات جعله يعتمد عليها بكثرة، إذ بلغ احتجاجه بها في خمسة وأربعين موضعًا، صرح بأسماء أصحابها في أربعين موضعًا.
ولم يعتمد المؤلف على السبعة فحسب، بل أخذ بقراءة غيرهم، أمثال طلحة بن مُصرف وأبي العالية وابن محيصن وأبي رجاء العطاردى. وربما أورد القراءة وهي شاذة محتجا لما ذهب إليه ومدعيا القياس عليها…
إن ما ذكرته كان فى معرض التمثيل ليس غير، لبيان أنه كان يحتج بالقراءات حتى ولو خالفت المشهور من آراء العلماء من غير تأويل في الغالب.
وعلى كثرة ما أورد منها لا نجده يضعفها أو يرد شيئًا منها كما هو مذهب أهل البصرة، ,وانما أخذ بها، سواء منها ما كان صادرًا من القراء السبعة أم العشرة أم كان من الشواذ، فهي مصدر من مصادر الشواهد النحوية، يسشهد بها في تأييد مذهبه ويقيس عليها، باستثناء موضعين. ولم يتردد في اتباع ما يقضي به المنطق المعقول (من التعويل على اللفظة الواحدة تأتى في القرآن ظاهرها جواز ما يمنعه النحاة، فيعول عليها في الجواز ومخالفة الأئمة. وربما رجّح ذلك بأبيات مشهورة). “” [شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص:23 – 22)]
***************
الخلاصة:
وخلاصة الكلام أن ثلة كبيرة من النحاة الأفذاذ من أئمة المدرسة الكوفية والأندلسية والمصرية تعتبر القراءات القرآنية كلها حتى الشاذ منها حجة في اللغة، هذا ناهيك عن موافقة الكثير من الباحثين الجدد في العصر الحديث لمنهجهم هذا. وهو في الحقيقة ما يعنينا، لأنه يؤكد صحة كل الشواهد التي أوردناها في بحوثنا من القراءات القرآنية، كشواهد على صحة وفصاحة لغة المسيح الموعود عليه السلام.