إنّ من أهم مظاهر الإعجاز في لغة المسيح الموعود العربية اتّباع حضرته عليه السلام للقواعد النحوية المعروفة وما يتفرع منها أو يشذّ عنها، وما هو غير رائج وغير متّبع في لغتنا العربية المعاصرة. الأمر الذي إن دل على شيء إنما يدل على إحاطة حضرته بأدق دقائق اللغة العربية التي لا يعرفها حتى أبناؤها من المتخصصين فيها. إذ سبق وذكرنا أن الكثير من القواعد النحوية المتبعة لها قواعد فرعية أو لها ما يشذ عنها مما لا يعرفه القارئ العادي وحتى المتخصص في اللغة.
وما قد يبدو للوهلة الاولى غريب اللفظ في لغته عليه السلام، كثيرا ما نجده واردا في طياّت كتب النحو والصرف أو في أمهات المراجع اللغوية الأصلية، فيتضح فيما بعد أنه لغة عربية فصيحة تعود إلى إحدى القبائل العربية، أو لغة أخذ بها ورجّحها بعض النحاة دون غيرهم، رغم أنها ليست رائجة أو معروفة لنا، نظرا لقلة استعمالها في لغتنا العربية في هذا العصر. فجاء ورود مثل هذه اللغات في كتابات حضرته عليه السلام، مصداقا لآيته العظيمة في تعلّمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة، لان إحاطة حضرته عليه السلام بكل هذه الدقائق رغم كونه ليس عربيا ولم يمارس اللغة مع أبنائها لا يمكن ان يتاتى دون العون والتأييد من الوحي الإلهي .
ومن مظاهر هذا الإعجاز ما ورد في استعمال حضرته للحروف “إنّ” و “أنَّ“، حيث إن القاعدة النحوية المعروفة والمتبعة في لغتنا اليوم، تقول إن النواسخ الحرفية (إنّ وأخواتها) مختصة في الدخول على الجملة الاسمية لتنصب المبتدأ وترفع الخبر فيها؛ ومعروف أنها لا تدخل على الجملة الفعلية إلا إذا كُفّت عن العمل أو خُفّفت النون فيها بإزالة الشّدة عنها، فيزول اختصاصها بالدخول على الجملة الإسمية وجوبا أو جوازا.
إلا أنه قد وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام بعض الفقرات التي قد تبدو غريبة لأول وهلة، ويظنها القارئ مخالفة لهذه القاعدة المعروفة، ويَظنُ أن الحروف ” أنّ/ إنّ” دخلت فيها على الجملة الفعلية لتكون هذه الجملة الفعلية اسما لــها، ومن هذه الفقرات ما يلي:.(كتبنا بالخط العريض الجمل الفعلية التي قد يُظَن أنها اسم إنّ وأنّ)
- نجد في القرآن أن في آخر الزمان تغلب النصارى على وجه الأرض. (حمامة البشرى)
- بل إنّا نرى أن في دارِ دولةِ الملكةِ المكرّمة قد هبت رياح نفحات الإسلام. (حمامة البشرى)
- فإن لأهل الأخلاق تبقى حصون يتعذّر عليهم فتحُها. (نجم الهدى)
- فاعلم أن في هذه الآيات ليست مُخالفَة. (حمامة البشرى)
- وأنت تعلم أن في ترتيب هذه الآية كانت هذه المواعيد كلها بعد وعد التوفي. (حمامة البشرى)
- والسر الكاشف في هذا الباب أن الله قد وعد في الكتاب أن في آخر الأيام تنزل مصائب على الإسلام. (سر الخلافة)
- حاصل الكلام في هذا المقام أن الله كان يعلم بعلمه القديم أن في آخر الزمان يُعادي قوم النصارى صراط الدين القويم. (سر الخلافة)
- ومع ذلك كان يعلم أن في هذا الزمان يترك المسلمون نفائس تعليم الفرقان. (سر الخلافة)
- وَتَعْلَمُونَ أَنَّ في هذا الْيَوْمِ يضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ. (الخطبة الإلهامية)
إلا أنه وبتدقيق وإمعان النظر في مثل هذه الفقرات، نجد أنها لا تخالف هذه القاعدة المعروفة من اختصاص النواسخ الحرفية بالدخول على الجملة الاسمية، وإنما يثبت أنها تخضع لقاعدة فرعية لها، قد يجهلها الكثير من القرّاء لا سيما من لا علم لهم بدقائق اللغة العربية وأسرارها. وإليكم هذه القاعدة:
القاعدة الفرعية: إمكانية دخول ضمير الشأن على (إنّ وأنّ) المشددتين دون تخفيف النون فيهما ليكون هذا الضمير هو اسمها، أو إمكانية تقدير وجوده على أنه اسمها المحذوف، لتكون الجملة التالية له – سواء كانت جملة فعلية أو اسمية – ليست في محل نصب اسم “إنّ/ أنّ” بل في محل رفع خبر “إنّ/ أنّ”.
فمما جاء عن دخول ضمير الشأن على إنّ وأنّ في أمهات الكتب العربية ما يلي:
جاء في النحو الوافي:
“ضمير الشأن، أو: ضمير القصة، أو ضمير الأمر، أو ضمير الحديث … أو ضمير المجهول…: من الضمائر نوع آخر له اسم من الأسماء السالفة، وأحكام محدودة؛ والاسم الأول أشهر فالذى يليه.. وبيانه:
كان العرب الفصحاء -ومن يحاكيهم اليوم- إذا أرادوا أن يذكروا جملة اسمية، أو فعلية، تشتمل على معنى هام، أو غرض فخم؛ يستحق توجيه الأسماع والنفوس إليه -لم يذكروها مباشرة، خالية مما يدل على تلك الأهمية والمكانة؛ وإنما يقدمون لها بضمير يسبقها( يقصد ضمير الشأن) …ومن أمثلة ذلك:
“هو: الزمان غدار، وهي: الأيام خائنة”…”إنه -الزهر ساحر”، “إنها- الرياحين رائعة”، أو: “إنه -يسحرني الزهر” “إنها- تروعني الرياحين“. (إ.ه)
وجاء كذلك في نفس المصدر: “يعرب الضمير هنا مبتدأ، وتعرب الجملة خبرًا عنه من غير رابط؛ لاتحادهما في المعنى“. (إ.ه)
وجاء عن ضمير الشأن في كتاب أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك ما يلي:
“إنّ من يدخل الكنيسة يوما … يلق فيها جآذرا وظباء
فـ “إن” حرف مشبه بالفعل، واسمه ضمير الشأن المحذوف. و”من” اسم شرط في محل رفع مبتدأ. وجملة “الشرط والجواب” أو إحداهما: في محل رفع خبر المبتدأ. وجملة “المبتدأ والخبر”: في محل رفع خبر “إن”، ومعلوم أنه لا يجوز إعراب “من” في محل نصب اسم “إن” لكون “من” اسم شرط يجب له التصدير.
وجاء عن حذف ضمير الشأن مع إن وأخواتها ما يلي:
“ضمير الشأن.. فإن حذفه كثير وعليه خرج المصنف حديث: “إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون”.” (حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك)
وجاء أيضا:
” … فيقدم ضميرًا كضمير غائب يسمى ضمير الشأن، ويعمل فيه الابتداء، أو أحد نواسخه،..ويجوز حذفه مع “إن” وأخواتها، ولا يخص ذلك بالضرورة وعليه يحمل قوله، عليه السلام: “إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون”
التقدير: إنه من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون. ” (شرح الكافية الشافية)
ووفق كل هذا من القواعد الفرعية،لا بدّ لنا أن نذكر الفقرات الآنفة الذكر من كلام المسيح الموعود مرة أخرى لنرى كيفية انطباق هذه القواعد الفرعية عليها، ولكي نرى انها فقرات صحيحة فصيحة لا خطأ فيها، نذكرها مقدّرة وفق القاعدة الفرعية التي ذكرناها.
- نجد في القرآن ((أنّه)) في آخر الزمان تغلب النصارى على وجه الأرض. (حمامة البشرى)
- بل إنّا نرى ((أنّه)) في دارِ دولةِ الملكةِ المكرّمة قد هبت رياح نفحات الإسلام. (حمامة البشرى)
- ((فإنّه)) لأهل الأخلاق تبقى حصون يتعذّر عليهم فتحُها. (نجم الهدى)
- فاعلم ((أنّه)) في هذه الآيات ليست مُخالفَة. (حمامة البشرى)
- وأنت تعلم ((أنّه)) في ترتيب هذه الآية كانت هذه المواعيد كلها بعد وعد التوفي. (حمامة البشرى)
- والسر الكاشف في هذا الباب أن الله قد وعد في الكتاب ((أنّه)) في آخر الأيام تنزل مصائب على الإسلام. (سر الخلافة)
- حاصل الكلام في هذا المقام أن الله كان يعلم بعلمه القديم ((أنّه)) في آخر الزمان يُعادي قوم النصارى صراط الدين القويم. (سر الخلافة)
- ومع ذلك كان يعلم ((أنّه)) في هذا الزمان يترك المسلمون نفائس تعليم الفرقان. (سر الخلافة)
- وَتَعْلَمُونَ ((أَنَّه)) في هذا الْيَوْمِ يُضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ. (الخطبة الإلهامية)
وبالإضافة إلى هذا التقدير، من الممكن أن تكون إنّ/ أنّ في هذه الجمل أو بعضها من قبيل إن/ أن المخففة والتي يزول اختصاصها بالدخول على الجمل الاسمية؛ غير أن الأرجح في كل هذه الفقرات تقدير “أنّه” أو “إنّه” بتشديد النون وليس تخفيفها.
وفي كل هذه الفقرات والحالات يكون ضمير الشأن هو اسم إنّ/ أنّ/ أنْ المحذوف، على أن تكون الجملة التالية له في محل رفع الخبر، حيث لا يمكن أن تُعد هذه الجمل اسما منصوبا خلافا للقاعدة المعروفة.
فثبت من كل هذا أنّ” في كل هذه الفقرات أمكَنَ تقدير ضمير الشأن بعد أنّ أو إنّ، لتكون كل هذه العبارات خاضعة للقاعدة الفرعية المذكورة أعلاه، ويثبت بذلك صحة وفصاحة هذه العبارات، وأن هذه التراكيب التي أضمر فيها المسيح الموعود ضمير الشأن وحذفَه، ما كانت إلا للفتَة بلاغية ولِلَفتِ نظر القارئ إلى أهمية الشأن والحديث والموضوع الذي يريد ذكره، كما يظهر من سياق هذه الفقرات التي تتحدث عن أمور عظام وحوادث جسام.
وثبت وفق كل هذا، أن هذه التراكيب التي حذف فيها المسيح الموعود عليه السلام ضمير الشأن، لهي تراكيب ولغات عربية قمة في الفصاحة والبلاغة، جاءت كمظهر آخر للإعجاز في لغة حضرته عليه السلام، وتأكيدا على تحقق معجزة تعلم حضرته أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة .
وبعد هذا أذكّر مرة أخرى بما قلت وأقول، إنني على يقين أن أي غريب في ألفاظ المسيح الموعود عليه السلام، إذا لم يندرج تحت السهو في النقل والكتابة والغفلة، فلا بدّ أن نجد له تخريجا لغويا.
فيا أيها الأحمديون! آتوني غريب اللفظ من أقوال حضرته عليه السلام أخرجْه لكم، وإن طال الزمن، بعون الله فلا ناصر لنا إلا هو!!!!!!