ليست الحكمة فيما يتعلق بالنصوص سوى أن يعي القارئ حقيقة الأمر في سياقه ويربطه بغيره، ويستبعد أي معنى شاذٍ أو قاسٍ، ويرى الانسجام والتوافق بين الأمور المتنوعة المختلفة؛ لأن أي نصٍّ لا بد أن يكون كاتبه يريد إيصال فكرة متكاملة، مهما كان مستوى هذا الكاتب ومهما كانت الفكرة، فكيف بالنصوص الإلهية ونصوص الأنبياء والحكماء؟
أما المفتقر للحكمة فسيرى كل شيء متناقضا، وسيراه مليئا بالأخطاء المتنوعة والتناقضات، ويكون كثير الاعتراض والسؤال. فكيف إذا كان ذلك الشخص مغرِّضا سيئ الظن؟ فهذا سيجد كل شيء ليس سوى كومة تناقضات بائسة مليئة بما لا يخطر على البال من المساوئ.
وهذه النظرة الحمقاء لا يسلم منها كلام الله تعالى الذي هو الحُجّة البالغة ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو جوامع الكلم، وكلَّما كان النصُّ راقيا وبليغا زاد احتمال وقوع الحمقى في سوء الفهم والتأويل. يقول المسيح الموعود والإمام المهدي عليه الصلاة والسلام:
“الحق أن البلاغة كلها مبنية على الاستعارات الدقيقة، ولذلك فقد استخدم كلام الله الذي هو أبلغ الكلِم، هذا الأسلوب البليغ من الاستعارات بكثرة بحيث لا يوجد نظير هذا الأسلوب الدقيق في أي كلام آخر. إن حمل الاستعارات البليغة المستخدمة في القرآن الكريم على الحقيقة دائما، ليس إلا تشويها لهذا الكلام المبني على نظام معجز؛ فهذا الأسلوب لا يؤدي فقط إلى قلبِ الهدف الحقيقي من كلام الله البليغ رأسا على عقب، بل يقضي أيضا على البلاغة العظيمة الكامنة فيه. إن الأساليب المليحة والممتعة للتفسير هي تلك التي تراعي عظمةَ بلاغة المتكلم وأفكارَه الروحانية السامية أيضا، وليس أن يختلق المفسر من عنده معانيَ رديئة ومُقرفة للغاية وغير مناسبة تدخل في حُكم الهجو المليح، أو أن يَحصر كلام الله تعالى المقدس الذي يشمل الدقائق الطاهرة والدقيقة على بعض الكلمات البسيطة. لا أفهم لماذا تُفضَّل المعاني الغليظة والمقرفة والكريهة على الأسرار الدقيقة واللطيفة التي لا بد من وجودها في كلام الله تعالى؟ ولماذا لا تُعطَى الأهمية اللائقة للمعاني اللطيفة التي تطابق حكمة الله وعظمة كلامه؟ ولا أدري لماذا مُلئت رءوس علمائنا بتمرد غير مبرَّر وكأنهم لا يريدون أن يقربوا الحكمة الإلهية؟” (إزالة الأوهام)
فالكلام الحكيم يكون مليئا بالاستعارات والمجازات التي تُسنبط منها المعاني بعد التفكُّر والتدبر، فيستفيد منها المتلقي ويتلذذ بعد الإبحار في معانيها التي تتشعب ولا تتناقض، ويرى جوانب الحكمة وحُسن الصناعة والصياغة. أما لو خلا الكلام من ذلك لكان كلاما بسيطا مباشرا لا علاقة له بالحكمة ولا يمكن أن يوصل إلا فوائد محدودة لا تتعدى الأمر أو النهي أو الطلب أو غير ذلك من المتطلبات البسيطة.
والواقع أن البحث في الحكمة وعن الحكمة غايته تنشيط الذهن وتنقية النفس وتنميتهما؛ فلو كان الكلام بسيطا مباشرا دوما، ولا يحتاج إلى تفكر وتدبر، فهذا سيؤدي إلى جمود العقل أولا ثم لن يؤدي إلى تنقية النفس وتنميتها التي يُعبَّر عنها بالتزكية. فلو اقتصر الكلام على البسيط الواضح ما أصبح الكلام سببا لتقوية الطاقة الذهنية أو للتزكية والترقية النفسية. أما دوره في التزكية فهو ينتج من أن الإنسان بنفسه إذا وجد نفسه يستخرج معاني شاذة قاسية عجيبة فيجب أن يلتفت إلى سريرته وسوء ظنه ويعالجها ويسعى لتقويمها. أما إذا استطاب الشخص الشذوذ والقسوة أو استعجل في القول بالتناقض والخطأ فهذا يعني أنه إنسان أحمق جاهل سيئ الظن فاسد الطوية يجمع الكبر على الجهل.
فلا بد من الحكمة للنظر في النصوص عموما، ولا بد من السعي لاكتسابها، ولا بد من الدعاء لكي يهبها الله تعالى للإنسان، لأن من آتاه اللهُ الحكمةَ فقد أوتي خيرا كثيرا كما يقول تعالى:
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (البقرة 270)
ونعم ما وجَّهنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم إذ قال:
{الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا } (سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله)
جعلنا الله تعالى من أولي الألباب الحكماء، وعلَّمنا ما ينفعنا، ونفعنا بما علَّمنا. آمين.