بسم الله الرحمن الرحيم

{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (الأنبياء 19)

الوحي الثابت في تسمية المسيح الموعود عليه السلام بأنه نبي ورسول

الحلقة الثانية في ردّ الاعتراضات حول مسألة نبوّة سيدنا أحمد عليه السلام المسيح الموعود والمهديّ المعهود


الاعتراض

– لم يدّع سيدنا أحمد عليه السلام النبوة الحقيقية قطّ، بل كان قد نفاها في العديد من النصوص، وادّعى النبوة الناقصة المجازية غير الحقيقة، ويقصد بها المحدَّثية فقط، ولم يغيّر موقفه هذا طوال حياته. أو أنه عليه السلام لم يكن ثابتا في إعلان نبوته، فكان يعلن نبوته تارة وينفيها تارة أخرى خوفا من الناس، وكنوع من الخداع والتزييف والعياذ بالله، وهدف المعترضين من كل هذا إثبات أن حضرته لم يعلن النبوة الحقّة ولم يكن نبيّا.

الرد

1- المنهج القرآني والعلمي للحكم على النصوص:

قبل الخوض في الرد على هذا الاعتراض، وشرح مسألة نبوة حضرة سيدنا أحمد عليه السلام، لا بدّ لنا أن ننوّه إلى أمر في غاية الأهمية، ألا وهو المنهج العلمي القرآني في الحكم على النصوص الدينية ولا سيّما الإسلامية منها كالروايات والأحاديث والقرآن الكريم.

إن هذا المنهج لا بدّ أن يكون مبنيا على عملية استقرائية للتوفيق بين النصوص المختلفة، وأخذها وفق سياقها الخاص الذي وردت وقيلت فيه، وأيضا أخذها وفق السياق العام أي القوانين العامة الأصلية، ثم إخضاع المتشابهات إلى المحكمات، لأنها الأصل في الحكم على الأمور الفرعية التفصيلية. وهذا ما تبينه الآية القرآنية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران 8) . إن هذه الآية تبيّن بكل وضوح أن الإيمان لا بدّ أن يكون مبنيا على المحكمات، فمنها الانطلاق لفهم وتفسير الفرعيات والمتشابهات، التي لا بدّ أن تكون خاضعة لها. وأما أن يسلك المرء سبيلا مغايرا وعكسيا في اقتطاع النصوص وسلخها عن سياقها، والأخذ بها منفصلة عن المحكمات، فهذا بحدّ ذاته اتباع لما تشابه من النصوص، وهو ما من شأنه أن يُظهر النصوص وكأنها متناقضة مع بعضها البعض.

إن اتباع المتشابهات وسلخها عن سياقها العام والخاص وعدم إخضاعها للمحكمات، بهدف إظهار النصوص وكأنها متناقضة مع بعضها البعض، لهو أمر يسير جدا، وبإمكان أي شخص أن يقوم به لنقد أي نصّ دينيّ لا سيما الأحاديث الشريفة والقرآن الكريم نفسه؛ وإذا أصبح هذا المنهج العكسي هو الأساس في الحكم على الإيمان والعقائد الدينية والأحاديث الشريفة والمرويات والقرآن الكريم، فهذا من شأنه أن يضع الفأس على رأس التوحيد كله، فلا قرآن بعده ولا إسلام ولا أحاديث ولا مرويات؛ بل لسلّمنا بتناقض القرآن مع بعضه البعض وتناقض أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) والرويات التي جاءت عنه.

ونضرب هنا على سبيل المثال لا الحصر الآية القرآنية التي تقول: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضحى 8) أو الآية : { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس 95)، او الآية: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (الفتح 3) فهذه الآيات التي قيلت في حق سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) إذا أُخذت منفردة ومستقلة عن كل السياق القرآني، قد يفهمها المرء خاطئا، بأن سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم) كان ضالا ومذنبا ومشككا في القرآن الكريم،ولكن الخطأ في هذا التفسير يتضح جليا عند وضع هذه الآيات في السياق القرآنيّ العام، والتوفيق بينها وبين الآيات الأخرى وجعل المتشابه تابعا للمحكم باستنباط نتيجة إجمالية بقراءتها معًا،كالآيات التالية:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف 109) ، والآية: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب 22)، والآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران 32)، ولاآية : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 191) أي لا يحب المذنبين، فهذه الآيات تثبت أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ضالا ولا مذنبا ولا مشككا في القرآن الكريم.

لذا، نعود ونكرر، أن النهج القويم الذي يُبنى عليه الأيمان المتين، لهو التوفيق بين النصوص والمرويات، وإخضاع المتشابهات للمحكمات.

وأما المعترضون الذين عهدنا عليهم نهج المنهج العكسي في القرآن والحديث، فليس من البعيد أن ينهجوا نفس هذا النهج، بالنسبة للنصوص والمرويات الأحمدية، من أجل إظهارها وكأنها متناقضة مع بعضها البعض.

2- بعد هذا التقديم نبيّن مسألة نبوة سيدنا أحمد عليه السلام، ونردّ على الاعتراض المذكور أعلاه، ولذا نبدأ في تبيين الأصل والمحكمات في هذه القضية ليتّضح الأمر بشكل واضح، وتُفهم باقي الاعتراضات التي يقدمها المعترضون في هذا الصدد.

إن الأصل والثابت دون وقوع أي تغيّر وتبدل فيه بشأن نبوة سيدنا أحمد (عليه السلام)، هو أن الوحي الإلهيّ الذي تلقّاه حضرته عليه السلام، قد سمّاه نبيا ورسولا، وألبسه رداء النبوة منذ زمن تأليف حضرته عليه السلام كتاب البراهين الأحمدية سنة م1882 م؛ وقد ظلّ هذا الوحي ثابتا دون تغيّر وتبدّل إلى آخر لحظة من حياة حضرته عليه السلام، كما وأن هذا الوحي لم ينتقص من قدر نبوة حضرته عليه السلام، ولم يقيّدها أو يحدّدها بأنها ناقصة وليست كاملة، أو أنها نبوة التحديث، أو أن حضرته محدَّثا أو وليّا أو مجدِّدا فقط، وليس نبيّا حقيقيا، بل ظل هذا الوحي يناديه بأنه نبي دون قيد أو شرط، وهذا الوحي هو كالتالي:

(1) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (2) إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (3) كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (4) جَرِيُّ اللهِ فِي حُلَلِ الأنْبِيَاءِ (5) مَاأَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (6) جاء نذير في الدنيا، فأنكروه أهلها وما قبلوه، ولكن الله يقبله، ويُظهر صدقه بصولٍ قويٍّ شديدٍ صول بعد صولٍ. (7) جاء نبي في الدنيا، فأنكروه أهلها وما قبلوه، ولكن الله يقبله، ويُظهر صدقه بصولٍ قويٍّ شديدٍ صول بعد صولٍ. (8) إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ وَألُوْمُ مَنْ يَلُوْمُ وَأُعْطِيْكَ مَا يَدُوْمُ (9) صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولا (10) لَا تَخَفْ إِنِّي لَايَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (11) وَقَالُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (12) يَا نَبِيَّ اللهِ كُنْتُ لا أعْرِفُكَ (13) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (14) إنِّيْ مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ وَأفْطَرُ وَأصُوْمُ (15) يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم ِإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) تَالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ (17) المبشِّرون لا يواجهون الزوال. لقد حان تحقُّق نبوءات الحاكم العام. (18) سَيَقُوْلُ العَدُوُّ لَسْتَ مُرْسَلا سَنَأخُذُه مِنْ مَارِنٍ أو خُرْطُوْمٍ وَإنَّا مِنَ الظَّالِمِيْنَ مُنْتَقِمُونَ (19) يَوْمَ يَعضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (20) قُلْ إِنِّي نذِيرٌ مُبِينٌ (21) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَتَهْذِيْبِ الأخْلَاقِ لِتُنْذِرَ قوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ وَلَتَدْعُو قَوْمًا آخَرِيْنَ (22) ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ، إنِّيْ مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ، إنَّ يَوْمِي لَفَصْلٌ عَظِيْمٌ (23) إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ وَمَن يَلُومُه ألُوم أُفْطِرُ وأصُومُ (24) إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ أُجِيْبُ أُخْطِئُ وَأُصِيْبُ (25) إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ وَلَن أبْرَحَ الأرْضَ إلَى الوَقْتِ المعلُومِ (26) إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ وَأقْصُدُكَ وَأرُوْمُ (27) إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ فَقَط (28) إنِّيْ أنَا الرَّحْمَنُ لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (29) إنِّيْ ألُوْمُ مَنْ يَلُوْمُ وَأُعْطِيْكَ مَا يَدُوْمُ إنّي مَعَ الرَّسُوْلِ أقُوْمُ وَأرُوْمُ مَا يَرُوْمُ (30) لا تنظرْ إلى مكانته باحتقار، فإن الرسل قد افتخروا بعهده (31) لا خير في محاربة نبي عظيم. (32) مَا أُرْسِلَ نَبِيٌّ إلَّا أَخْزَى بِهِ اللهُ قَوْمًا لَا يُؤْمِنُوْنَ (33) إنَّ خَبَرَ رَسُوْلِ الله وَاقِعٌ (34) وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (35) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ أَطْعِمُوا الجَائِعَ وَالْمُعْتَرَّ (36) يُبْدِيْ لَكَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا، أَتَى أَمْرُ الله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. بَشَارةٌ تَلَقَّاهَا النَّبِيُّوْنَ (37) إنَّا أرْسَلْنَا أحْمَدَ إلَى قَوْمِهِ فَأعْرَضُوا وَقَالُوا كَذَّابٌ أَشِرٌ (38) يَا أحْمَدُ جُعِلْتَ مُرْسَلا (39) قُلْ يَا أيُّهَا الناس إني رسول الله إليكم جميعًا.“.

فهذا هو بعض الوحي الذي نزل على حضرته عليه السلام منذ زمن تأليف البراهين الأحمدية إلى آخر حياته، وهو وحي ثابت لا تغيّر ولا تبدّل ولا شبهة فيه، وهو أصل الأصل، الذي لا بدّ أن تردّ إليه كل المرويات والنصوص الأخرى من أجل الحكم عليها في فهم هذه القضية.

وقد نودِي المسيح الموعود في الوحي النازل عليه باسم المحدَّث مرة واحدة، بينما ناداه الله تعالى دائمًا باسم نبي ورسول ،فإذا لم يكن حضرته نبيا حقا بل محدّثا فقط، فكان من الواجب أن ترد كلمة المحدَّث في إلهاماته بكثرة وألا ترد كلمة “نبي” أو “رسول”، ولكننا نجد أنه عليه السلام، دُعي نبيًّا ورسولًا مئات المرات، ولم تُستخدَم بحقه كلمة “محدَّث” إلا مرة واحدة. أفلا يُثبت ذلك أنه كان نبيًّا عند الله تعالى ولهذا السبب شُبِّه بالأنبياء دائمًا !؟

فهذه هي المحكمات التي لا بد أن تردّ إليها كل النصوص الأخرى في الحكم على نبوة سيدنا أحمد عليه السلام.