هنالك قاعدة قانونية تقول: “لا جريمة ولا عقوبة بغير نصّ“
أي أن مسألة اعتبار أمر ما جريمة ليس مسألة ذوقية خاضعة لاعتبارات الناس وتعريفاتهم، بل لا بد أن يكون هنالك نصٌّ قانوني يجرِّم فعلا ما ويحدد حدود هذا الفعل، وبناء عليه يُجرَّم المتهم وتنزل به العقوبة.
ومسألة الملكية الفكرية وبالذات ما يتعلق بحقوق المؤلفين مسألة شائكة متفرِّعة جدا، وإطارها العام وتركيزها هو على النتاج الفكري أو الفكرة الإبداعية التي لم يسبق المؤلف إليها أحد، ويُعدُّ من أخذ فكرة غيره التي لم يسبقه إليها أحدٌ دون أن يشير إليه سارقا، حتى لو غيَّر شيئا في الأسلوب والكلمات والتعابير، والمسألة ليست بهذه البساطة، بل لا بد أن يكون هذا النتاج بالفعل نتاجا حصريا أو مما يمكن أن يكون حصريا للكاتب وليس مجرد الأفكار العامة. أما التعابير والأساليب فهي لا تؤخذ بعين الاعتبار إلا في أنواع معينة من الأدب كالشعر مثلا؛ لأن الشعر لا تنفصل فيه الفكرة عن الأسلوب. فلا يعد الشاعر منتحلا لقصيدة غيره وسارقا لها إلا إذا نقل القصيدة كاملة وأبياتا كاملة بنصِّها وفصها وكانت القصيدة في الحالتين تتحدث عن فكرة واحدة إبداعية حصرية أتى بها الشاعر الأول كررها الثاني انتحالا وسرقة. أما الاقتباس ولو لأبيات كاملة في سياق آخر ولخدمة فكرة أخرى – خاصة لو كانت هذه الفكرة فكرة إبداعية لم يسبق للكاتب لها أحد- فهو لا يُعدُّ سرقة، بل اقتباسا وتناصًّا، وهو ليس جريمة، بل هو محمود في الأدب والنثر ودليل قوة ومقدرة أدبية.
أما التعابير والكلمات والمفردات فهي ليست ملكا لأحد، لأنها ليست نتاجا فكريا حصريا لمن استخدمها، بل هي من مواد اللغة المشَاع لكل مستخدم. وتوظيف بعض المفردات بترتيب ورد سابقا في نتاج فكري مختلف وسياق مختلف لا يعدُّ من السرقة مطلقا، بل لا يجوز إعطاء حق الملكية للكاتب الأول لهذه التعابير، لأنها ببساطة ليست نتاج فكره ولا من اختراعه. فهي تعابير لغوية استخدمها الكاتب الأول موجودة في اللغة أصلا. لذلك لا يجوز له أن يدعي ملكيتها، ولا يجوز لأحد أن يدعي أن أحدا سرقها منه لو استخدمها كاتب من بعده.
ومما يعدُّ من مظاهر مقدرة الكاتب أو الشاعر وعلوِّ كعبه أن يستخدم تعابير وردت في نصوص أو أشعار سابقة ويوظفها في نصوصه، إما معارضة أو مناقضة لسابقه، وإما في سياق مختلف. وهذا باب من الأدب النثري والشعري معروف وشهير. وهذا ما يسمى وفقا لمصطلحات النقد بالتناصّ في الشعر والنثر.
وفيما يتعلق بالتوارد، فهو أيضا باب من التناص غير المتعمد، وهذا لا يعني أن الكاتب لم يكن قد سمع كلمة أو تعبيرا من قبل، بل المقصود أنه وظفه دون وعي منه أن هذا التعبير موجودٌ حصرا في هذا المكان أو ذاك، وبشرط أن يستخدمه في تقديم فكرة أو نتاج إبداعي مختلف عما ورد سابقا. فلو لم يكن قد سمع الكاتب التعبير أو الكلمة مسبقا فمن المستحيل أن تكون قد خُزِّنت في عقله الباطن. ومعلوم أن حصيلتنا اللغوية عموما إنما تشكلت نتيجة لتعرضنا لكمٍّ كبير جدا من المقروء والمسموع والمكتوب، وأصبحت هذه الحصيلة مختزنة فينا دون أن نتذكر المصدر الذي تعلمنا منه هذه الكلمة أو هذا التعبير. فمن هذا الباب يمكن أن يستخدم الكاتب تعابير سمعها سابقا أو قرأها، ولكنها لا يكون قد نقلها من النص عن وعي وإدراك. فإذا كان يتذكر المصدر يمكن اعتبار هذا تناصًّا، وإذا لم يكن يتذكّره فهو توارد، وفي الحالتين لم يرتكب الكاتب جريمة بحال، لأنه لو اعترف بالتناص المتعمد أو بالتوارد غير المتعمد فهذا من المسموح به والمباح.
وفيما يتعلق بالشعر خاصة، فإنه من الوارد جدا أن تتشابه أبيات بل قصائد لشعراء في عصور مختلفة، لأنهم سمعوا هذه التعابير واختزنت في عقلهم الباطن، ثم بسبب ضوابط الشعر وأوزانه وقافيته وإعرابه سيجد الشاعر أنه ملزم بتركيب معين من الوارد جدا أن يكون قد استخدمه أحد قبله. ومن يكتب الشعر يعرف هذه الحقيقة. حتى إن عنترة كان قد قال هذا مسبقا في العصر الجاهلي مؤكدا أن كل الأغراض والأساليب والتعابير قد طرقها الشعراء من قبل حين قال:
هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ…. أم هل عرَفتَ الدارَ بعد توهُّمِ
وهو بذلك وكأنه يدافع عن نفسه فيما لو تضمَّن شعره شعرا يشابه إلى حد كبير شعر غيره، سواء سمع به أم لم يسمع.
وبناء على ما تقدَّم، فلا يمكن اتهام المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مطلقا أو الاعتداء على الملكية الفكرية، وكل ما يقدِّمه بعض السفهاء إنما مرجعه جهلهم وتعصبهم، وإلا لو طبقوا هذه المعايير التي في ذهنهم لأصبح الغالبية العظمى من كبار الكتاب والأدباء سارقين، ولعُثِر في شعر جميع الشعراء على تعابير كانت قد تكررت بكثرة عند سابقيهم، وكذا أيضا فيما يتعلق النثر، وخاصة النثر الأدبي.
والواقع أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام هو صاحب نتاج فكري تغطيه قوانين الملكية الفكرية العالمية، إذ جاء بنتاج فكري لم يسبقه إليه أحد في قالب وأسلوب رائع مذهل في كتبه العربية والأوردية وأشعاره العربية والفارسية والأوردية. لذلك كان يتحدى غيره بأن يأتوا بما يوازي كتاباته ويقابلها، وإن ثبت أن أحدًا تفوَّق عليه في طَرْق مسألةٍ وتبيانها بصورة أفضل منه فإنه سيعلن خسارته لهذا النزال. ومن الطبيعي أن الذي سينافسه سيستخدم كثيرا من المفردات التي استخدمها؛ لأنه سيتحدث في نفس المضمون ولكن بتقديم نتاج فكري مختلف. ولكن حضرته لم يشترط ألا يستخدم الكاتب شيئا من هذه المفردات. كما لا يجوز لأحد أن يشترط هذا.
لذلك، فإن هذه الدعوى السخيفة التي يروج لها معارضو الجماعة لا قيمة لها ولا وزن. ولو كانوا جادين فليحاولوا رفع قضية على حضرته وعلى الجماعة من بعده بصفتها وارثته ليثبتوا دعواهم الباطلة، وسيجدون أن قضيتهم ستُرفض وسيبوءون بالخيبة والخسران بعد أن يثبُت جهلهم.
وفيما يتعلق بمقامات الحريري خاصة، فالحقيقة أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إذ استخدم أحيانا بعض التعابير منها فقد ضمَّنها في نصٍّ علمي أدبي يتضمن معارف عظيمة بعكس مضمون مقامات الحريري الفارغ الذي ليس سوى استعراض للمقدرة اللغوية المزعومة التي ليس من الصعب على من تعمَّد أن يجعل المعاني تتبع الكلمات أن يقوم بها، ولكن الأمر المعقَّد هو أن يجعل الكاتب الكلمات والتعابير الجميلة تتبع المعاني، وهذا إبداع لا يقدر عليه إلا متمكن، وهذا ما ثبت بجدارة لحضرته عليه الصلاة والسلام.
بقي أن نقول أنه في شأن التوارد، الذي لا يُشترط فيه عدم السماع مطلقا لهذه التعابير كما بينَّا سابقا، فإن ما امتاز به المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أيضا هو أن الله تعالى قد أودع في عقله الباطن ما لم يكن قد سمعه من قبل من شعر العرب وأدبهم، وكذلك كان يمدُّه بالتعابير والمفردات التي يحتاجها، وهذا أمر يتميز فيه حضرته عن الكاتب العادي. فتوارده يمتاز عن توارد غيره بأنه أيضا معزز بالوحي، أي أن مصدر معلوماته ليس ما تخزن في عقله الباطن مما قرأ وسمع، بل هنالك ما أودعه الله فيه دون قراءة أو سماع.
وأختم أخيرا بكلمات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ردا على هذه التهمة السخيفة التي أثارها معارضوه في حينه، والتي يكررها المعارضون حاليا، إذ يقول حضرته:
” على أية حال، قرأت مؤلَّفه بالأردية بإمعان (أي مهر علي)، وعلمت أنه لا يحتوي على ما هو جديرٌ بالانتباه سوى اعتراضات غاية في السخف والدناءة والجهل، التي إن افترضنا صحتها لم يسلم منها القرآن الكريم ولا الأحاديث النبوية ولا كتاب من كتب الأدباء.
والآن اصغوا إلى اعتراضه؛ يقول: وردت في هذا الكتاب “إعجاز المسيح” – الذي يقع في مئتي صفحة – جُمَلٌ سُرقت من مقامات الحريري- وهي بضع فقرات فقط لو جُمِعت قد لا تربو على أربعة أسطر – وبعضها مسروقة من القرآن الكريم أو كتب أخرى، وبعضها كُتبت بشيء من التغيير والتبديل وبعضها من أمثال العرب المعروفة.
هذه هي “سرقتي” التي اطلع عليها مهر علي، إنها عشر فقرات أو اثنتا عشرة فقرة – من بين عشرين ألف فقرة – منها آيات القرآن الكريم وبعضها من أمثال العرب وبعضها، على حد قوله، توارد مع فقرة للحريري أو الهمذاني (أو الهمداني). ولكن من المؤسف أنه لم يشعر بأدنى حياء عند إثارته هذا الاعتراض، ولم يُعمِل فكره قط أنه حتى إذا لم تُعتبر هذه الجمل القليلة أو بضعة منها تواردا – مع أنه وارد في كلام الأدباء – بل ظُنَّ أن هذه الجُمل القليلة قد تم اقتباسها، فما الاعتراض على ذلك؟” (نزول المسيح)
أما عن الاقتباس عموما والاقتباس من مقامات الحريري خاصة فقد قال حضرته:
”لقد اقتُبست في كتاب الحريري أيضا آيات قرآنية وفيه بضع فقرات وأبيات لغيره بشيء من التصرف فيها. كذلك توجد فيه بعض الفقرات لأبي الفضل بديع الزمان بعينها. فهل يجوز القول بأن مقامات الحريري كلها مسروقة؟ بل قد أساء البعض الظنَّ بأبي القاسم الحريري باعتبارهم كتابه كله من تأليف غيره. ويقول البعض بأنه عُرض ذات مرة على سبيل الاختبار على حاكم، على أنه كاملٌ في فن التأليف، وأُمِر بأن يكتب بيانا فصيحا بليغاً بالعربية ولكنه لم يستطع ذلك فتعرض لخجل وندامة كبيرة. ولكنه مع ذلك يعُدَّ من الأدباء العظام ويُنظر إلى كتابه “مقامات الحريري” بنظرة التعظيم والإجلال مع أنه لا ينفع من الناحية الدينية أو العلمية شيئا؛ ذلك لأن الحريري لم يقدر على أن يكتب قصة صادقة أو أسرار الحقائق والمعارف بعبارة فصيحة وبليغة ليثبت أنه قادر على أن يجعل الكلمات تابعة للمعاني والمعارف. بل جعل المعاني تابعة للكلمات من البداية إلى النهاية، الأمر الذي أثبت أنه ما كان قادرا قط على أن يسرد حادثا حقيقيا بالعربية الفصيحة. فالذي يهتم بالمعاني ويهدف إلى بيان المعارف والحقائق لا يستطيع الحصول على النخاع من عظام جمعها الحريري.” (نزول المسيح)