ما مدى صحة قصة الغرانيق العلا؟
يقول تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ سورة الحج
هذه الآية لا تذكر أبداً أنَّ الشيطان أجرى بعض الكلمات على لسان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنما تعني فقط أنَّ كُلّ نبي حين يتمنى شيئًا -وليستْ أمنية أي نبي إلا إصلاح الناس ونجاتهم- يلقي الشيطان في طريقه العراقيل لإفشال أمنياته النبيلة. فمِن معاني الإلقاء أيضاً وضْعُ الشيء في مكان وطرحُه فيه؛ وهو معنى قوله تعالى {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، أي أنَّ الشيطان يضعُ العراقيل في طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بل النبيين جميعاً عليهم السَلام، وهذا ما يقوم به الشيطان على كُلّ حال.
إذن، المعنى البسيط والبديهي للآية هو: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى وحدة المسلمين والإنسانية بتوحيد الله تعالى وانتشار هذه الدعوة وإيمان الجميع ونجاتهم أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ العراقيل، فيلغي اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ من عراقيل وينصر نبيه على الشيطان وعراقيله.).
لقد خلط بعض المفسرين بين سورة الحج وسورة النجم لتنتج هذه القصة المشوهة التي لا دليل عليها في الكتاب والسنة، والحقيقة أنه لا توجد أي علاقة بينهما على الإطلاق. إذْ وردت قصة الغرانيق المزعومة في تفسير سورة النجم، بينما سورة الحج ورد فيها قوله تعالى {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}. رواية الغرانيق هذه لا صحّة لها سواء كان في نصها أو حتى ظروفها. وقد رفض جملة من أهل العلم هذه القصة وضَعًّف الحُفّاظ سندها ومتنها وقالوا: إنها لا تصح شرعاً ولا عقلاً بهذه الكيفية، بل قال ابن خزيمة: “إنها من وضع الزنادقة”. وقال ابن العربي: “إنها باطلة لا أصل لها”. وممن أنكر هذه الرواية الإمام النووي الذي قال:
«وأما ما يرويه الإخباريون والمفسرون أنَّ سبب سجود المشركين مع رسول الله ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منهم شيء، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن مدح إله غير الله كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله، ولا أنَّ يقوله الشيطان على لسان رسول الله، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك: أي وألا يلزم عدم الوثوق بالوحي.» (السيرة الحلبية/باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب)
وقال الإمام الشوكاني:
“وَلَمْ يصح شيء من هذا ولا يثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه.” (فتح القدير، للإمام الشوكاني ج 3، 462)
ثم ذكر بعض الآيات الدالة على البطلان ثم قال:
“وقال إمام الأئمة ابن خزيمة إنَّ هذه القصة من وضع الزنادقة.” (فتح القدير، للإمام الشوكاني ج 3، 462)
وقال القاضي عياض:
“هذا الحديث لَمْ يخرجه أحدٌ من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.” (الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض 2/ 125)
وقد فسر ابن كثير ؒ هذه الأية حيث قال:
“أنه إذا تلى النبي تلاوته ألقى الشيطان في مسامع المشركين فيرفع الله ويبطل ما ألقاه الشيطان ويحكم آياته.” (تفسير ابن كثير، سورة الحج 3/ 318)
وقال ابن كثير كذلك:
“إنها مِن طرق كلّها مُرسلة، وَلَمْ أرها مُسندة من وجه صحيح.” (تفسير ابن كثير، سورة الحج 3/ 229)
واعتبرها ابن حزم أيضاً مكذوبة فقال القرطبي نقلاً عنه:
«والحديث الذي فيه: وانهن الغرانيق العلا، وإنّ شفاعتهن لترتجى. فكذبٌ بحتٌ لَمْ يصلح من طريق النقل ولا معنى للأشتغال به، إِذْ وضْع الكذب لا يُعجَز عنه أحد.» (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 12/ 84)
وقال الإمام الرازي:
“وأما أهل التحقيق فقََدْ قالوا: هذه الرواية باطلة وموضوعة، واحتجّوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.” (التفسير الكبير، الرازي (23/ 50)
وقال الإمام الباقلاني:
“وهذا الخبر من أخبار الآحاد، مضطرب الرواية، مختلف الألفاظ.” (نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص 308)
وللوقوف على تفاصيل الموضوع ننقل قول حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد خليفة المسيح الثاني المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما يلي:
“هذه الآية أسهلُ آيةٍ في القرآن الكريم، وَلَكِنَّ المفسرين قد جعلوها خطيرة جدًّا. وبيان ذلك أنهم يربطونها بآيات من سورة النجم، ثم بناء على إشكالات خيالية يجعلون من هذه الآية سلاحًا خطيرًا جدًّا ضد الإسلام، مع أنه لا يوجد بين سورة الحج وسورة النجم أي علاقة على الإطلاق.
يقول المفسرون أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جاء مرة إلى فناء الكعبة، فاجتمع حوله الكافرون، فأخذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقرأ عليهم قول الله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ~وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}. ثم قرأ ﷺ -والعياذ بالله- “تلك الغَرانيقُ العُلى وإنّ شفاعتَهنّ لَتُرتَجى” .. أي أنها الآلهة طويلة الأعناق ونأمل في شفاعتهن. ثم لما بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قول الله تعالى في نهاية السورة {فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا} سجدَ، فسجدَ معه الصحابة والكافرون أيضًا، حتى إنَّ الوليد بن المغيرة أيضاً -وكان عدوًّا لدودًا للإسلام- أخذَ بضع حصوات ومسح بها جبينه متظاهرًا بأنه هو الآخر قد اشترك في السجود. وهذا الخبر أثار ضجة كبيرة في مكّة، وأخذ الناس يقولون إنَّ مكّة كلّها قد دخلت في الإسلام لأن الكافرين كلّهم سجدوا مع المسلمين.
ومما يقول المفسرون: لأن جملة “تلك الغرانيق العلا وإنّ شفاعتَهن لتُرتجى” التي قرأها النبي ﷺ -والعياذ بالله- لَمْ تكن من وحي القرآن، فنسخها الله تعالى فيما بعد، ولذلك لا نجدها في المصحف. (القرطبي وفتح البيان)
وتدليلاً على صحة زعمهم يقدّم المفسرون قول الله تعالى في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} .. أي لَمْ نرسل قبلك يا مُحَمَّد من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ وحيه دسّ الشَّيْطَانُ في وحيه شيئًا من عنده، ويمحو الله تعالى فيما بعد ما يلقي الشيطان في وحيه تعالى. وهذا ما حصل مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلما قرأ سورة النجم في بيت الله الحرام دسّ الشيطان فيها من عنده: “تلك الغرانيق العُلا وإنّ شفاعتهم لَتُرتجى.” وبسماع هذه الكلمات من لسان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ظن كُفار مكّة أنه قد بدل من دينه شيئًا، فاشتركوا معه في السجود. فلمّا شاع بين أهل مكّة أنَّ الكافرين قد دخلوا في الإسلام، قال الكافرون إنما سجدنا مع مُحَمَّدٍ لأنه قال في وحيه “تلك الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهن لتُرتجى”، وهكذا صدّق آلهتنا صراحة. ويقول المفسرون أنه ما دام من الثابت في الحديث أنه قد سُمع عندها صوت يقول “تلك الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهن لتُرتجى”، لذا فإن هذه الآية إنما تعني أنه ما من نبي إلا ويُجري الشيطان على لسانه في بعض الأحيان كلماتٍ خلاف مشيئة الله تعالى. (القرطبي، وفتح البيان)
وَلَكِنَّ هذه الآية لا تذكر أبدًا أنَّ الشيطانَ أجرى بعض الكلمات على لسان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنما تعني فقط أنَّ كُلّ نبي حين يتمنى شيئًا -وطبعًا ليست أمنية أي نبي إلا إصلاح الناس- يلقي الشيطان في طريقه العراقيل لأنه لا يريد نجاحه. فمن معاني الإلقاء أيضاً وضعُ الشيء في مكان وطرحُه فيه؛ وعليه فقوله تعالى {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إنما يعني أنَّ الشيطان يضع شيئًا في طريق النبي. ومن الواضح أن الشيطان إنما يلقي العوائق في طريق النبي، ولا ينصره أبدًا.
إذًا، فمن الظلم العظيم أن يفسروا هذه الآية بأن الشيطان يلقي كلمات الشرك على لسان الأنبياء.
ولكن المشكلة التي نواجهها هي أنَّ الرواية المذكورة أعلاه قد قَبِلَ كبار المحدثين بصحتها. فمثلاً يقول المحدث الكبير ابن حجر: “إنَّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح” (فتح البيان) .. أي أنَّ هذه الرواية مروية من قبل عدة رواة ثقات، وأنَّ ثلاثة من هذه الأسانيد تبلغ مستوى صحيح البخاري ثقة. كما أنَّ البزار والطبراني قد اعتبرا هذه الرواية صحيحة (هميان الزاد، تفسير سورة الحج). إذن، فكيف نستطيع أن نرفض هذه الرواية كلية؟
بيد أنَّ الله تعالى قد فهّمني بفضل منه حَلَّ هذه المعضلة، وهو كالآتي:
لمّا هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة شقّ ذلك على أهل مكّة، فبعثوا وفدًا إلى النجاشي ملِكِ الحبشة لاسترجاع المسلمين المهاجرين (السيرة الحلبية، الجزء الأول: باب الهجرة الثانية إلى الحبشة).
وورَدَ في التاريخ أنَّ بعضاً من هؤلاء المهاجرين رجعوا من الحبشة إلى مكّة عند حادث سجود الكفار. فسألهم من قابلهم من سكان مكّة: لماذا رجعتم؟ قالوا لقد بلغَنا أنَّ أهل مكّة قد أسلموا (ابن خلدون الجزء الثاني ص 10). فقيل لهم إنهم لَمْ يسلموا أبدًا، بل كُلّ ما في الأمر أنَّ رسولكم قد قرأ عليهم آيات من القرآن تدعم الشرك فسجدوا معه، وَلَكِنَّ رسولكم لمّا نسخ تلك الآيات فيما بعد عاد المكّيون إلى دينهم ثانية. فرجع هؤلاء إلى الحبشة ثانية.
وَلَكِنَّ الفترة الزمنية بين حادث تلاوة سورة النجم وعودة هؤلاء المهاجرين من الحبشة قريبة لدرجة أنَّ الواقع الجغرافي يرفضهما. فكان أقرب ميناء من مكّة في ذلك الزمن، واسمه شعيبة، يقع على مسافة يقطعها الراكب في خمسة أيام أو أربعة على الأقل، حيث ورد: “مسافتها طويلة جدًّا” (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية الجزء الأول ص270). أما المسافة بين شعيبة وميناء الحبشة فتستغرق أربعة أيام أو خمسة أيضاً؛ إذ لَمْ تكن وسيلة سفر الناس في البحر حينئذ إلا السفن الشراعية، التي كانت لا تجري في كُلّ وقت، إذ لَمْ تكن هناك شركات بحرية في ذلك الزمن، بل كلّما وجد أحدُ الملاحين الفرصة أبحر، وكانت رحلته هذه تستغرق شهورًا في بعض الأحيان. ثم إنَّ المسافة من ميناء الحبشة إلى عاصمتها كانت تستغرق حوالي شهرين. وهذا يعني أنَّ المدة الإجمالية التي يمكن أن يصل فيها خبرُ سجودِ الكفار من مكّة إلى عاصمة الحبشة، وسماحِ الملِكِ للمسلمين بالعودة، ثم وصولهم إلى مكٌة، تصبح ما بين شهرين ونصف وثلاثة أشهر. في حين نجد الروايات تقول إنَّ المسلمين المهاجرين رجعوا بعد حادث سجود الكافرين خلال 15 أو 20 يومًا، حيث خرجوا إلى الحبشة في شهر رجب، ومكثوا هنالك حتى شعبان ورمضان، ورجعوا في شوال (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية الجزء الأول ص 270، و282). وهكذا تصبح المدة الإجمالية لمكوثهم في الحبشة ووصولهم إلى مكّة أقل من ثلاثة أشهر أيضًا (السيرة الحلبية الجزء الأول ص 364)
لقد تبين من ذلك كله -وبكل وضوح- أنَّ حادث سجود الكفار لدى تلاوة سورة النجم كان مكيدة مخططة من قبل الكافرين .. أعني أنَّ بعض زعماء الكافرين كانوا قد قاموا بنسج خطة سلفًا، وبعثوا بعضهم إلى الحبشة ليشيع بين المسلمين المهاجرين هناك أنَّ أهل مكّة قد أصبحوا مسلمين، وأنهم قد سجدوا مع محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. فلما اقترب موعد وصول المسلمين القادمين من الحبشة إلى مكّة قالوا فيما بينهم ماذا سنجيبهم إذا ما رأوا أنَّ أهل مكة لا يزالون كافرين. فأشاعوا بين القوم أنهم إنما سجدوا مع مُحَمَّدٍ ﷺ لأنه قرأ -معاذ الله- خلال تلاوته للقرآن آيات تدعو إلى الشِرك، ولكنه لما قام بنسخ هذه الآيات من القرآن رجعوا إلى كفرهم ثانية -والحق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم ينسخ أية آية كهذه، وإنما أعلن أنه لَمْ يقرأ على الكفار آيات الشرك مطلقًا- وما كانت هذه الخطة لتنجح إلا إذا قُرئت بالفعل آيات كهذه في المجلس. ويبدو أن كافرًا خبيثًا -وليس محمدًا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قرأ هذه الجمل بحسب ما أمره رؤساء الكافرين خلال تلاوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في المجلس. ولما كان الجمع كبيرًا يبلغ المئات ويضم جميع رؤساء الكافرين، فَلَمْ يعرف القوم من جراء الضجيج والصخب صاحب الصوت الذي قرأ هذه الجمل، بينما أشاع الكافرون أنَّ محمدًا هو الذي ردد هذه الجمل، ولذلك سجدنا معه. فبما أنَّ الذين كانوا على أطراف المجلس سمعوا هذه الجمل من هذا الكافر الماكر الذي رددها بصوت عال خلال تلاوة النبي ﷺ، فظنوا أيضًا أنَّ محمدًا هو الذي قرأ هذه الجمل.
إذًا، فإن الحل الوحيد لهذا اللغز هو أنَّ أحدَ الكافرين الخبثاء ردد هذه الجمل بصوت عال خلال تلاوة النبي ﷺ بحسب مخطط مدروس سلفًا، والدليل على وجود هذه الخطة المنسوجة سلفًا هو وصول المهاجرين من الحبشة إلى مكّة قبل المدة التي كان وصولهم فيها ممكنًا بعد سماع حادث سورة النجم، بل إنهم قد وصلوا إلى مكة قبل المدة التي يمكن أن تستغرقها رحلة جوية لو كانت في ذلك الوقت أية طائرات. فوصولهم قبل الموعد يدل على أنهم كانوا قد أُبلغوا قبل الموعد أنَّ أهل مكة قد أسلموا، وأنه في الأيام التي كان مجيئهم فيها متوقعًا بحسب المخطط قد تكلم أحد من الخبثاء بهذه الكلمات في المجلس.
ثم إننا لو تركنا جانبًا تلك الأحاديث التي تعارض القرآن الكريم صراحة، لوجدنا أنَّ سورة النجم نفسها تبطل هذه القصة تمامًا. ذلك لأن الله تعالى يقول، قبل تلك الآيات التي يقال أنَّ الشيطان دسّ فيها كلمات تدعو إلى الشرك: {وَلَقَدْ رَآهُ نـزلَةً أُخْرَي} الآية:14 .. أي أنَّ محمدًا رسول الله ﷺ قد رأى ربه، بل رآه مرة ثانية. كما يقول الله تعالى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} الآية:19. وبعد ذلك يقول الله تعالى للكفار {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ~ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} الآيتان:20و21 .. أي هل رأيتم من أصنامكم آية مثل التي رآها مُّحَمَّدٌ من ربه؟ أي أنكم لَمْ تروا منها أي آية، ولكن محمدًا ﷺ قد رأى من ربه ﷻ آيات كبرى.
هذا ما ورد في سورة النجم قبل “الجملة المزعومة الشيطانية الوثنية”. أما بعدها فيقول الله تعالى {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْـزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} .. أي أنكم بأنفسكم قد سميتم هذه التماثيل بهذه الأسماء، وَلَمْ يُنـزل الله تعالى على ذلك أي برهان.
فبالله عليك، هل من المعقول أن تكون “هذه الجملة الشيطانية الوثنية المزعومة” مسبوقة بآية تبطل الشرك، وتليها أيضًا آيةٌ تردّ على الوثنية، ومع ذلك يُزعَم أنَّ الشيطان قد أجرى ما بينهما كلمات وثنية على لسان محمد رسول الله ﷺ؟ إنَّ المفسرين قد وصفوا الشيطان عادة بالذكاء الشديد حتى اعتبروه أستاذًا للملائكة، وذلك خلال تفسيرهم لآيات من سورة البقرة، وعرضوه على العالم وكأنه قد هزم الله ﷻ في حواره معه (القرطبي). ومع ذلك، فما بال الشيطان في هذه القصة، فهو يبدو فيها كالحمار، إذ لَمْ يجد لإلقاء هذه الجملة الوثنية مكانًا إلا بين هذه الآيات التي تدعو إلى التوحيد بكل قوة وشدة. إن هذا الشيطان يجب أن يُزَجّ في دار المجانين، إذ لا يستطيع هذا الغبي البليد إغواء خلق الله تعالى؟
ثم إنه لمن العجب العجاب أن سورة النجم تنتهي بقول الله تعالى {فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا}. وأي أحمق كان يمكنه، بعد سماع قول الله هذا، أن يزعم أنَّ محمدًا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نطق بكلمة وثنية؟ قصارى القول إنَّ كُلّ آية من آيات سورة النجم تفنّد هذه القصة كلية.
هذه شهادة داخلية، أما الشهادة الخارجية فهي أنه من المستحيل أن يرجع المهاجرون من الحبشة إلى مكّة بعد سماع هذا الخبر في المدة التي رجعوا فيها، كما أثبتُّ من قبل.
وأتناول الآن تفسير هذه الآية من سورة الحج التي يحتجون بها على صحة هذه القصة، لأبين أنها لا تعني أبدًا ما ذهب إليه المفسرون. لقد فسروها بأن جميع الأنبياء والرسل الذين خلوا من قبلك، يا مُحَمَّد، قد دسّ الشيطان شيئًا من عنده في وحيهم كلما قاموا بتلاوته، وَلَكِنَّ الله تعالى ينسخ ما يخلطه الشيطان في وحيهم، وهكذا يحكم الله آياته. (القرطبي)
والحق أنَّ هذا المعنى لا يصح على الإطلاق. فأولاً، إنَّ لفظ التمنّي لا يعني القراءة فحسب، بل يعني الإرادة أيضًا، وليس المراد من الأُمنية التلاوة فقط، بل تعني المراد والغاية أيضًا (انظر أقرب الموارد). وعليه فإن هذه الآية تعني أنه: “لم يُبعَث قبلك من نبي ولا رسول إلا إذا أراد شيئًا ألقى الشيطان في إرادته؛ فيزيل الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته”. هذا المفهوم يكشف أنَّ التفسير الذي يقدمه المفسرون لا ينطبق هنا، إنما تعني هذه الآية أنه لَمْ يأت نبيٌّ ولا رسول إلا حاول الشيطان عرقلة طريقة ليفشله في هدفه وغايته، ولكن مهما سعى الشيطان لإعاقة طريق الأنبياء إلا أنَّ الله تعالى يزيل كل عائق من طريقهم، ويهيئ الأسباب لتحقيق آياته التي أنبأ بها لنجاحهم؛ وهكذا ينتصر النبي وينهزم الشيطان.
وبالنظر إلى وقائع التاريخ أيضًا يمكن للقارئ أن يعرف ما إذا كانت الأحداث والوقائع تؤيد ما يذكره المفسرون أم تؤيد المفهوم الذي نقدمه نحن. فبناء على ما يذكره المفسرون كان على مُحَمَّدٍ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. أن ينهزم ويتغلب الشرك، ولكن ما حدث على صعيد الواقع هو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كسر بيده الأصنام الموضوعة في الكعبة فانمحى الشرك للأبد.
فثبت أنه لم يأتِ نبيٌّ ولا رسولٍ حتى اليوم إلا عرقل الشيطان كل هدف وغاية ورغبة وأمنية لـه. إنه يدرك أنه لو نجح النبي فلا مكان لـه، لذا فيبذل هو وذريته كل ما أوتيَ من قوة ضد الأنبياء وجماعاتهم شأن الشخص الذي قد أحاط به الموت من كُلّ مكان فيسعى للنجاة من براثن الموت بكل ما أوتي من قوة. ويعلم الذين تصادف أن رأوا شخصاً في سكرات الموت أنه برغم كونه مغشيًّا عليه وغافلاً عن الدنيا وما فيها وفاقدًا كل قواه، إلا أنه يبذل قصارى جهده وكأنه يريد أن يعود إلى الدنيا، فيصاب كيانه بهزة، ويرتفع عنقه ويستجمع كُلّ طاقته. هذه حالة شخص مغشيّ عليه قد فَقَدَ كُلّ قواه وقد جفّ اللحم على جسده، فما بالك بشخص لا يكون مغشيًا عليه ولم يفقد كل طاقته؟ أو إذا دفعتَ -مثلاً- ولدًا صغيرًا إلى حافة البئر لتخوِّفه فإنه سيلتصق بك وتتولد فيه طاقة تزيد على طاقته العادية عشرات المرات. أو هناك شخص يلقيه مصارع على الأرض في لمح البصر، وَلَكِنَّ المصارع لو حاول إلقاءه في البئر لرأيت أنه لن يقدر على إلقائه فيها في ساعة دَعْك أن يصرعه في دقيقة؛ ذلك لأنه يرى أنَّ المصارعة مباراة فحسب، ولا بأس لو صُرع بيد الخصم، ولكنه إذا أدرك أنَّ الموت وشيك استنـزف كل طاقته وبذل كُلّ جهده حتى أصبح ندًّا لخصمه أو قريبًا من ذلك.
عندما تقام جماعة من عند الله في الدنيا تثور الأرواح الشريرة ذوات الصلة بالشيطان أو التي قد استولى عليها الشيطان جراء ذنوبها، فتبذل كُلّ ما في وسعها للحيلولة دون انتشار الخير في العالم. وهؤلاء الذين يقفون ضد الجماعات الإلهية يكون بعضهم ضمن نظام الجماعات ومنتمين إليها انتماء شكليًّا مثل عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وبعضهم ينتمون إليها بالاسم ولكن لا يكونون ضمن نظامها مثل الخوارج في عهد سيدنا علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وبعضهم لا ينتمون إليها من حيث الاسم ولا النظام مثل كفّار مكّة واليهود والنصارى. فهؤلاء كلّهم يسعون معًا ليكونوا سدًّا عائقًا في طريق الأهداف التي يُبعث أنبياء الله تعالى لتحقيقها في العالم، فيضعون في سبيلهم كل نوع من العوائق والعراقيل، وَلَكِنَّ الله تعالى يؤيد رسله بآياته، ويُفشل الشيطانَ في كُلّ مكائده. الواقع أنَّ كلب الشرطة إذا ما شمّ رائحة ثياب اللص وتُرك وراءه فإنه يبطش به لو طارده عشرة أو عشرين بل مئة ميل، كذلك فإن الشيطان يكون عدوًّا لرائحة القداسة والطهر، فإذا وجدها في شخص صال عليه بشراسة ليفترسه افتراسًا. فلما مُسح آدم ؑ بيد الله تعالى بعطر الطهر والقداسة طارده الشيطان. ولما أُعطي نوح ؑ هذا الشذى تتبَّعه أيضا. ثم لمّا جاء إبراهيم ؑ وانتشرت هذه الرائحة بواسطته، صالَ عليه الشَّيْطَانُ. ثم جرى وراء رام تشندر وكرشنا وزرادشت وعيسى ؑ وسيدنا مُحَمَّد المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. فلولا أنَّ هؤلاء جميعًا أُعطوا عطرًا مماثلاً لما صال عليهم الشيطان بصولات مماثلة. لقد هجم عليهم الشيطان في عصورهم هجمات مماثلة لأنهم كانوا قد مُسحوا بعطر واحد هو عطر التوحيد. ولكن ما يحصل هو {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .. أي أنَّ الله تعالى يزيل كُلّ العوائق التي يضعها الشَّيْطَانُ ويثبّت التعليم الذي يأتي من عنده تعالى، وهو ﷻ ذو علمٍ وحكمةٍ عظيمين. … فعندما يضع الشَّيْطَانُ العراقيل يستجيب لـه الذين في قلوبهم شرٌّ وقسوة، فيضطهدون المؤمنين، فينكشف للناس ضعف الضعفاء في الإيمان وعداوة الأعداء، ويعرف الناس مدى عناد أعداء الإسلام ومعارضتهم؛ كما يعلمون أنَّ المؤمنين الصادقين في إسلامهم لا يخافون شرّ أهل الشر، بل يزدادون إيمانًا مع إيمانهم، وهكذا يزيد الله المؤمنين هدى.
لقد بيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآية قاعدة بأنه كلما جاء نبيٌّ وقدم مشروعًا لإصلاح الناس، أخذ الشيطان في عرقلة طريقه؛ فينفصل أهل النفاق وضعفاء الإيمان عن جماعة المؤمنين، وهكذا يزيد الله جماعته قوة وعظمة.
إنَّ التدبّر في هذا المعنى يكشف لنا أنَّ الله تعالى يؤكد حماية كُلّ الأنبياء عمومًا، وحماية مُحَمَّدٍ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم خاصة، من أي تصرف للشيطان، بل إنه تعالى يبين أنَّ الشيطان يلقى الخزي والمذلة على أيدي الأنبياء، بدلاً من أن يكون لـه أي سلطان عليهم.
كما أننا لو أخذنا في الحسبان قول الله تعالى للشيطان {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الإسراء:66 .. أي لن يكون لك غلبة على عبادي، ثبت جليًّا أنَّ المعنى الذي أذكره هو الصحيح وأنَّ ما يذكره المفسرون هو خطأ. ذلك أنَّ تصرّف الشيطان في لسان نَبِيٍّ، وخاصة عند تلاوته الوحيَ، لسلطانٌ ما بعده من سلطان. فإننا نرى في الدنيا أنَّ بعض الناس لا يزالون يرفعون الهتافات ضد الحكومة مهما تعرضوا للاضطهاد على يدها، فكيف يصح إذًا القول أنَّ المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو سيد الأنبياء والرسل، لم يَقْوَ -والعياذ بالله- على الصمود أمام الشيطان فتصرّف في لسانه وجعله يتكلم بكلمات وثنية. إنَّ هذا الزعم لنقضٌ صارخ للآية المذكورة أعلاه من سورة بني إسرائيل، ومن المحال أن تُعارض آيةٌ من القرآن الكريم آيةً أخرى. يقول الله تعالى {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرً} النساء:83. ويظن البعض خطأً أنَّ كلمة {كَثِيرًا} هنا تعني أنه يوجد في كلام الناس اختلاف كثير، أما كلام الله فيوجد فيه الاختلاف ولكنه ليس كثيرًا. ولكن الواقع أنَّ كلمة الكثير تعني الفضل والعظمة أيضاً حيث ورد في “المفردات”: “وليست الكثرة إشارةً إلى العدد فقط بل إلى الفضل” .. أي أنَّ لفظ الكثير الذي ورد في القرآن لا يعني كثرة العدد فقط، بل يأتي أحيانًا لبيان الفضل والعظمة. فالقول بأن الله تعالى يعلن في القرآن، من جهة، إنه ليس للشيطان سلطان على عبادي، ويقول من جهة أخرى أنَّ الشيطان قد أُعطي سلطانا على كُلّ نَبِيٍّ ورسول حتى إنه يدسّ في وحيهم شيئًا من عنده، إنَّ هذا لاختلافٌ ما بعده اختلاف. إذًا، فهذه الآية من سورة النساء أيضًا تؤكد أنَّ ما قاله المفسرون خطأ وباطل ومخالف تمامًا لصريح القرآن.” (التفسير الكبير، خليفة المسيح الثاني)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ألا يكفيكم قوله تعالى في بداية سورة النجم:وما ينطق عن الهوى ءان هو ءلا وحي يوحى….لتتأكدوا أن قصة الغرانيق كذب.