حق وصدق

المعترض: ما الذي يميز مسيحيي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؟

هراء أم كذب

يقول الميرزا: “إن الله تعالى يقول إن المسيح الموعود – الذي هو ذو القرنين- سيأتي حين يكون المسيحيون في ظلام دامس، ولن يكون في نصيبهم إلا حمأ مسنون”. (محاضرة لاهور)

والسؤال: ما الذي يميّز مسيحيي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عن المسيحيين الذين سبقوهم بقرن أو قرنين أو خمسة أو عشرة؟ أليسوا يؤمنون جميعا بهذه العقائد المسيحية المعروفة؟

فهل هذا النصّ يُدرج في باب الهراء أم في باب الكذب؟ لقد حيّرني.

الرد: الفكر المسيحي في القرنين التاسع عشر والعشرين

لعل المعترض لأول مرة يطرح سؤالاً مُهِمّاً ويعترف بالحيرة حيال الإجابة عليه، ولن نتركه يحتار طويلاً إنْ شاءَ الله وإنما سنترك أحد أكابر العلماء وأساتذة اللاهوت المسيحيين يجيب، فقد كتبَ أستاذ علم اللاهوت والأديان في جامعة أوكسفورد السيد “تيموثي برادشو Timothy Bradshaw” مقالةً في موقع اللاهوت المسيحي الأكاديمي بعنوان: Christology in the 19th and 20th Centuries أي “الفكر المسيحي في القرنين التاسع عشر والعشرين” حيث استعرض الكاتب كيف بدأت المسيحية منعطفاً جديداً في هذين القرنين خاصة حين برزت حركات فكرية تنويرية للكنيسة مروراً بهيغل وكيركغارد وكارل بارث وغيرهم عندما أسسوا المدارس الفكرية التي تنشر المسيحية وكأن مارد الفكر التنصيري خرج من قمقمه لأول مرة منذ مجمع نيقية وحكم قسطنطين وذلك تعبيراً عن قيد الكنيسة الثالوثية Trinitarian، فانطلقت المدارس الفكرية تنشر الخلاص على أساس أن الله تعالى والعياذ بالله مات ليفدي الناس من اللعنة. وقد بدأ هيغل رحلته الفلسفية لأول مرة في اللاهوت المسيحي، فكانت انطلاقة الفكر المسيحي منذ ذلك الحين. فما هو هذا “الفكر المسيحي” الذي انطلق وانتعش في القرن التاسع عشر؟

يجيبنا الكاتب فيقول::

Christology is a symbolic way of saying that the infinite coheres with the finite, the universal with the particular, in Jesus.

أي: “هي الوسيلة الرمزية التي تقول بأن اللامحدود (الله) اندمج مع المحدود (الإنسان) في شخص يسوع.” (من هنا: Christology in the 19th and 20th Centuries)

ويعترف الكاتب قائلاً:

The liberal protestant school climaxed at the end of the 19th Century.

أي : “وصلت المسيحية البروتستانتينية إلى أوج مجدها مع نهاية القرن التاسع عشر.” (نفس المصدر)

وكذلك:

The 19th Century saw other academic approaches to Christology.

أي: “كذلك شهد القرن التاسع عشر حركات مسيحية فكرية أخرى.” (نفس المصدر)

وبالإضافة للمدرسة البروتستاتنية والفكر الهيغلي تأسست حركات فكرية أخرى جديدة مثل حركة كيركغارد وكارل بارث وغيرهم كلها في تلك الفترة مما شكَّل قوة للفكر التنصيري. ولذلك يرى الكاتب بأن “الفكر المسيحي” الذي وُلِدَ في القرن التاسع عشر يُعتَبَر ضرورة للعبادة والتبشير (التنصير) عبر الإنجيل وهو أن يسوع الذي كان كلمة الله الذي صُلِبَ وقام من الموت هو المُخَلِّص الوحيد الفادي للعالم لا مجال لغيره. وَعَلَى ذلك قاس الكاتب هذا الفكر بالمقارنة مع الإسلام مُبيِّناً أن فكر التنصير القائم على الفداء والكفارة هو فكر نبيل ينتصر على الموت، فبينما اتّجه مُحَمَّد -على حد قول الكاتب- إلى المدينة ليؤسس جيشاً كي يحتل به الجزيرة العربية وينتصر على البشرية كان يسوع يتِّجه نحو الجلجثة “موضع الجمجمة” لكي يُصَلَب ويموت فداءً للبشرية. والنصوص التي تكلمنا عنها كما يلي:

Christology then is unavoidable for worship, for evangelism, and even more widely for our input into society and politics. The Gospel itself is a Christology: the truth that Jesus of Nazareth is God’s very Word to us, the crucified and risen saviour of the world.

Muhammad took the road to Medina to raise an army and conquer Arabia; Jesus took the way to Calvary and a very different form of victory.

تحذير المسيح الموعود من الفكر التنصيري الذي اجتاح الهند

وهذا ما حَذَّرَ منه الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام في كتبه مُبيّناً أن الفكر التنصيري الذي جاء إلى الهند وتحول بسببه مئات الآلاف من المسلمين إلى النصرانية وصاروا بدل الصَلاة على النبي ﷺ يشتمون حضرته ﷺ ليل نهار إنما هو فِكْر لا يجب أن يواجه إلا بالفكر، فقال عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام مثلاً:

فعقيدة معارضينا المسلمين بأن مهديا سفاكا سيظهر في الزمن الأخير وسوف يهلك جميع النصارى ويخضب الأرض كلها بالدماء، ولن ينتهي الجهاد ما لم يظهر ذلك المهدي، وما لم يهلك بسيفه العالم، فكلها أكاذيب تناقض وتنافي النص الصريح للقرآن الكريم ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، ويجب على المسلم أن لا يؤمن بأي من هذه الأمور قطعا، بل الجهاد الآن حرام قطعا، وإنما الجهاد كان مسموحا به عندما كان يرفع السيف ضد المسلمين بسبب الدين. أما الآن فقد هبَّت رياح كره كُلّ الأقوام القتل باسم الدين، ولم يكن الجهاد في الأزمنة السابقة عند المسلمين فقط، بل كان عند النصارى أيضا، فهم أيضا قد قضوا على آلاف من عباد الله من أجل الدين. أما الآن فهم أيضا قد تخلَّوا عن هذه الأعمال الباطلة، ويلاحظ أن الناس قد تحلَّوا بصفة عامة بالفهم والتحضر والرفق. لهذا من المناسب أن يكسر المسلمون أيضا سيف الجهاد ويصنعوا أدوات الحرث. لأن المسيح الموعود قد ظهر وانتهت جميع أنواع الحروب في الأرض، أما الحروب السماوية فباقية وستكون بالمعجزات والآيات لا بالسيوف والبنادق. وهذه هي الحروب الحقيقية التي يقوى بها الإيمان ويزداد نور اليقين. أما الجهاد بالسيف فمحل اعتراض لدرجةٍ لو لم يكن عند أهل الإسلام في صدر الإسلام وأوائل الزمن عذر أنهم رفعوا السيف حين مزقوا هجمات الأعداء الباطلة وكادوا يقضى عليهم، لكان الجهاد وصمة عار على جبين الإسلام.” (تحفة غولروية، ص183)

ويبّين عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام للمسلمين عموماً طبيعة المواجهة الحقيقية والصحيحة لهذا الفكر التنصيري الذي وصفه حضرته بالليل المظلم فيقول عَلَيهِ السَلام:

يا أيها المسلمون، قولوا للنصارى إن الله تعالى واحد، وهو صمد وغني، لم يولد أحد منه ولا هو وُلد من أحد، وليس من أحد يساويه أبدا. وإذا رأيتم فتنة النصارى وتعرضتم لإيذاء على يد أعداء المسيح الموعود فادعوا الله تعالى قائلين: اللهم يا فالق الإصباح، إني أعوذ بك من شر المخلوق؛ أي من شـر الأعـداء الداخليين والخارجيين. بمعنى أن إظهار النور بيد ذلك الإله. وإنني أعوذ بالله من شر هذا الليل الحالك، الذي هو ليل فتنة المسيحية ورفض الإيمان بالمسيح الموعود. فيجب القيام بهذا الدعاء عند بلوغ الظلام منتهاه، وأعوذ بالله من فتن أناس أنثويي الطبع، الذين ينفثون في العقد، أي أن العقد التي تقتضي الحلَّ في الشريعة المحمدية والمعضلات والمشكلات التي يعترض عليها المعارضون الجهلة، ويعدّونها سبب تكذيب الدين، وينفثون فيها أكثر بسبب العناد، أي أن الأشرار يجعلون المسائل الإسلامية الدقيقة -التي هي في صورة العُقدة- في صورة اعتراض معقد خداعا لكي يضلوا الناس، ويضيفون من عندهم الحواشي على الأمور النظرية، وهؤلاء الناس على نوعين؛ أحدهما الأعداء الصريحون وأعـداء الـدين مثـل القساوسة الذين ينحتون مثل هذه الاعتراضات، والثـاني المشـايخ الـذين لا يريدون التخلي عن أخطائهم، ويعقدون بأنفاخهم النفسانية دين الله الذي هو دين الفطرة، ويملكون طبع الإناث حيث لا يقدرون على أن يبرزوا إلى الميدان لمواجهة أي من رجال الله، وإنما يريدون أن يجعلوا اعتراضاتهم عُقدا لا تنحـل من خلال التحريف والتبديل فيها، وهكذا يضعون العراقيل في سبيل المصـلح المبعوث من الله. إنهم يكذبون القرآن الكريم حيث يصرون على مواقف مخالفة لمشيئته، ويدعمون الأعداء بأفعالهم المعادية للقرآن والمتفِّقة مع عقائد الأعـداء، وبذلك يريدون أن يجعلوا تلك العقد لا تنحلّ بالنفخ فيها، فنحن نعوذ بالله من شرورهم وفتنهم كما نعوذ بالله من شرور الحاسدين الذين يفكرون في طـرق الحسد، ونعوذ من الزمن الذي يحسدون فيه. وقل لهم أن ادعوا الله قائلين: نعوذ بالله من شر الشيطان الوسواس الذي يثير الوساوس في قلوب الناس، ويريد أن يصرفهم عن الدين أحيانا بنفسه وأحيانـا أخرى عن طريق أحد الناس، نعوذ بالله الذي هو رب الناس والذي هو ملـك الناس وهو إله الناس. وفيه إشارة إلى أنه سيأتي زمان لن تبقى فيـه مواسـاة إنسانية التي هي أصل الربوبية، ولن يبقى عدل حقيقي الـذي هـو الشـرط للملوكية، ولن يبقى عندئذ ملجأ يلجأ إليه المتعرضون للمصائب غير الله وحده. كل هذه الكلمات تشير إلى الزمن الأخير يوم يرتفع من العالم الأمن والأمانة.” (تحفة غولروية، ص 181-182)

فهذا هو معنى الظلام والفتن التي تكلم عنها المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وفَصَّلَها في كتبه الكثيرة حرصاً على المسلمين والبشر أجمعين من فتن الدجال الذي تكلمنا عنه بالتفصيل في منشور سابق (من هنا: يأجوج ومأجوج عند مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية)

فلا يرى كل ذلك هراء وكذب في الواقع إلا قسيس معادي للإسلام.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد