المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..299

الرفع والنصب في التحذير والإغراء من دقائق اللغة  

الاعتراض:

يقول المسيح الموعود عليه السلام في الملفوظات ما يلي:

“لقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” اللهُ اللهُ في أصحابي”، أي ليس في قلوب أصحابي إلا الله فقط.

حديث الترمذي: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي (الترمذي)” [ملفوظات جلد 1]

وقد اعتبر المعارضون هذا التفسير من قبيل البلاهة والعياذ بالله، إذ وفق زعمهم فإن معنى الحديث مقتصرا على التحذير فقالوا: “معنى الحديث طاللهَ اللهَ في أصحابي” هو: اتقوا الله في أصحابي، فلا تتخذوهم غرضا بعدي، ولا توجهوا لهم سهام نقدكم كمن يوجه سهامه إلى هدف… فظن الميرزا أن كلمة “الله” مرفوعة على أنها مبتدأ، مع أنها منصوبة على أنها مفعول به لفعل محذوف.” (إ،هـ قول المعترض) المقال الكامل للمعترض في التعليق الأول.

الرد:

يتضح من قول المعارضين، اقتصارهم فهم الحديث على الفهم الرائج وهو على التحذير، وهو باب من أبواب النحو، يصح فيه التحذير من شيئ معين ونصبه بفعل محذوف – أي فعل يصلح للسياق- فنقول : اللهَ اللهَ ، النارَ النارَ ، السيارةَ السيارةَ. فكل هذه الألفاظ منصوبة بفعل محذوف تقديره على الأغلب (احذر وواتقِ…). ولا يجوز وفق زعمهم ان يحتمل الحديث أي معنى إضافي كما ذهب إليه المسيح الموعود عليه السلام.

والرد على المعترض من أوجه لا من وجه واحد كما يلي:

الوجه الأول:  حمل المعنى على الإغراء  

فعلى اعتبار أن الرواية هي رواية نصب لا محال، نقول ما يلي:

إن السياق لا يقف عند معنى التحذير، بل يتجاوزه إلى معنى الإغراء أيضا، كما يتضح من كلمات الحديث، نعرضها كاملة:

{قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ } (سنن الترمذي, كتاب المناقب عن رسول الله)

والدليل على الإغراء هو حض النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على حبّ الصحابة وعدم معاداتهم. فيكون تقدير الفعل في هذا الإغراء: أطلبوا الله في أصحابي، أو:  الزموا الله في أصحابي. فما يحتمل معنى التحذير قد يحتمل معنى الإغراء أيضا في بعض الأحيان إذا سمح السياق بذلك، فالتحذير من المعاداة هو بحد ذاته حض على الحب، فماذا لو أن كلمات الحض على الحبّ نراها واضحة ماثلة في كلمات الحديث!؟ فهي دليل على إمكانية فهم الحديث على الإغراء وليس التحذير فقط.

والدليل على ما نقول ما ذهب إليه المفسرون في الآية الكريمة : {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (14)} (الشمس 14) فذهبوا إلى أن النصب فيها لكلمتي “ناقة” و”سقياها” على التحذير ، وكذا قالوا بأنه على الإغراء. فها هي الآية القرآنية تُحمل في نفس الوقت على التحذير وعلى الإغراء في آن واحد؛ والأمر متعلق بكيفية الأخذ بالآية وفهمها وتفسيرها، وكلا الوجهين جائز. ويؤكد هذا النقول التالية:

أ: تفسير اللباب لابن عادل (6/ 266، بترقيم الشاملة آليا)

ومنه قراءةُ بعضهم { نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا } [ الشمس : 13 ] ، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء .

ب: مشكل إعراب القرآن لمكي (2/ 821)

قَوْله نَاقَة الله نصب على الاغراء أَي احْذَرُوا نَاقَة الله وسقياها فِي مَوضِع نصب عطف على نَاقَة

ج: النحو الوافي (4/ 136)

“وأما كلمة: “ناقة” في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} فتصلح إغراء وتحذيرا كما سبق

وبناء على هذا يكون المسيح الموعود عليه السلام، قد أخذ رواية النصب على الإغراء لجواز ذلك من السياق، فالتحذير والإغراء قد يصلحان لنفس السياق أحيانا. وعليه، فيكون فهم المسيح الموعود عليه السلام للحديث على التقدير التالي: إلزموا الله في أصحابي، أو: اطلبوا الله في أصحابي.

فهو إغراء وحض على طلب الله في أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، ومما يتبادر تلقائيا من هذا الفهم أن الله في قلوب الصحابة، وأنه وحدَه في قلوبهم، لإفادة التكرار “اللهَ اللهَ” هذا المعنى.

فانظروا عظمة المسيح الموعود عليه السلام، وفهمه لدقائق اللغة والقرآن الكريم، بفعل الوحي الإلهي الذي يهديه إلى هذه التفاسير والمفاهيم.

غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد! بل يتعداه إلى أن الفهم على الإغراء هو تمهيد لإجازة أن يكون أحد المفاهيم الأخرى، هو على رفع كلمة الله في الحديث. فالقول في الإغراء: اطلبوا الله في أصحابي، هو بمعنى أن الله في أصحابي وفي قلوب أصحابي فاطلبوه فيهم، وهو ذات المعنى الذي قد يكون المسيح الموعود عليه السلام ذهب إليه بالرفع: “اللهُ اللهُ في أصحابي”. وما هذا بقول هزل، بل تؤيده اللغة والنحو، فيما جاء في بابي التحذير والإغراء ، بأن أساليب الإغراء والتحذير التي جاءت بتكرار الكلمة أو بالعطف كما يلي: اللهَ اللهَ أو يدَك وملابسَك، يجوز فيها الرفع كما ورد عن العرب، وكما سنبينه لاحقا.

 

الوجه الثاني: جواز الرفع هذه الأساليب من التحذير والإغراء

على اعتبار ان الرواية رواية نصب لا محال!

سواء حمل الحديث على التحذير أو على الإغراء، فإنه يجوز في هذه الأساليب من التحذير والإغراء الرفع والنصب على حد سواء، مع بقاء معنى التحذير والإغراء ماثلا في الجملة لغويا لا إصطلاحيا. فقد أورد الفراء أن العرب ترفع هذه الأساليب مع قصدها التحذير أو الاغراء حيث جاء:

 

أ: النحو الوافي (4/134-135)

” قد يُرفع المكرر والمعطوف في أسلوب التحذير -وفي أسلوب الإغراء، وسيأتي قريبا- وفي هذه الحالة لا يكون الأسلوب تحذيرا اصطلاحيا. قال الفراء في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} … ، نصبت كلمة: “ناقة” على التحذير. ولو رفعت على إضمار مبتدأ مثل كلمة: “هذه” لجاز. وكان التقدير: هذه ناقة الله؛ لأن العرب قد ترفع ما فيه معنى التحذير

 

ب: إعراب القرآن للأصبهاني (ص: 525)

طنصب (نَاقَةَ اللَّهِ) بإضمار فعل، أي: اتركوا ناقة الله وسقياها، أي: احذروا ناقة الله وسقياها، وربما قال بعض النحويين: نصب على التحذير، وأجاز الفراء: الرفع، على أنّ معنى التحذير باقٍ.”

ج: معاني القرآن للفراء (3/269- 268)

وقوله عزَّ وجلَّ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ نصبت الناقة عَلَى التحذير حذرهم إياها، وكل تحذير فهو نصب [140/ ا] ولو رفع عَلَى ضمير: هَذِهِ ناقة اللَّه، فإِن العرب قَدْ ترفعه، وفيه معنى التحذير، ألا ترى أن العرب تقول: هذا العدوُّ هَذَا العدوُّ فاهربوا، وفيه تحذير، وهذا الليلُ فارتحلوا، فلو قَرَأَ قارئ بالرفع كَانَ مصيبًا أنشدني بعضهم:

إن قومًا منهم عميرٌ وأشباهُ … عُمَيْرٍ ومنْهُم السَّفَّاحُ

لجديرون بالوفاءِ إِذَا قا … ل أَخو النجدة: السلاحُ السلاحُ

وعليه، فإن المسيح الموعود عليه السلام يذهب في تفسيره العميق ونظره اللغوي والمعنوي الثاقب، يذهب برواية النصب ويجوّز فيها الرفع؛ لأنه جائز، ولأنه في الحقيقة لا فرق بين الروايتين، فترتفع كلمة “الله” ويبقى التحذير قائما أو يبقى الإغراء قائما كما صرح بذلك الفراء والنحو الوافي. فالتحذير والإغراء بمعناها اللغوي يبقى قائما، ولكن يزول عنه معنى التحذير والأغراء الأصطلاحي النحوي، فيخرج اللفظ من باب التحذير والأغراء النحويين، مع بقاء معنى التحذير والإغراء قائما معنويا ولغويا. وعليه، فقد أعطى المسيح الموعود لرواية النصب في هذا الحديث تفسيرا عميقا على تقدير : “هذا الله هذا الله في أصحابي”، مع بقاء معنى التحذير. وهذا التقدير يفضي للقول والفهم الذي ذهب إليه المسيح الموعود عليه السلام، أن الله في قلوب الصحابة وليس في قلوبهم إلا الله، كما يدل على ذلك التكرار.

3: الوجه الثالث: إمكانية رواية الرفع

بناء على كل ما تقدم من عدم وجود فرق في المعنى بين رفع كلمة الله ونصبها، فليس من البعيد أن تكون هناك روايات للحديث بالرفع، أو أن تكون الرواية الأصلية أو اللفظ الصحيح الوارد من النبي صلى الله عليه وسلم هي في الحقيقة بالرفع. ولكن بما أن الحديث روي بالمعنى- كما يعلم المعارضون ذلك جيدا- فجاءت رواية الحديث بالنصب، لأن النصب في التحذير هو الرائج، غير أن هذا لا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بها بالرفع، أو حتى بالإسكان: اللهْ اللهْ في أصحابي، أما الرواة فقد رووها بالنصب لجواز ذلك معنويا.

 

 

الخلاصة:

من بين هذه التوجيهات، نرى بأن التوجيه الثاني هو الأرجح والأسلم، حيث يبقى المعنى على التحذير، ويسوّي بين النصب والرفع في هذا المفهوم، ويذهب إلى عمق التفسير والفهم الذي بينه المسيح الموعود عليه السلام.

فحاصل الكلام وفق قول الفراء، أنه لافرق بين الرفع والنصب في هذا الحديث. والأخذ بالرفع يترتب عليه معنى عميقا كما ذهب إليه المسيح الموعود عليه السلام، وهو أن الله في صدور وقلوب الصحابة.  وليس الأمر ببلاهة ، بل إثبات على بلاهة المعترض وقلة عقله وجهله في أمور اللغة والدين ، وسطحيته التي تثير الاشمئزاز منه ومن أقواله.