سرعة الوحي ونسيان بعضه
الاعتراض: هل نسى مؤسس جماعتكم مرزا غلام أحمد الوحي النازل عليه؟
كيف يقول مؤسس جماعتكم في بعض المرات مهما كانت قليلة آنه نسي بعض الوحي الذي تلقاه بسبب سرعة الوحي ؟ كيف يمكن نسيان الوحي ؟ وهل الوحي ينزل بسرعة ؟ هذا يطعن به مباشرة ! لن تفيدكم محاولة تبرئة مؤسس جماعتكم من خلال الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نسي حسب بعض الأحاديث.
الرد:
ما هي طبيعة الوحي؟
يحتاج المعترضون إلى فَهْم تعريف الوحي عند أهل العلم لكي يصل إليهم المعنى الصحيح، فالوحي كما ذَكَرَ كبار أهل اللغة أنه يرجع إلى ثلاثة أصول هي: الإعلام والسرعة والخفاء. وقد جاء في قواميس اللغة في تعريف الوحي ما يلي:
“هو إعلام سريع خفيّ، سواء أكان بإيماءة أم بهمسة أم بكتابة في سرّ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك في سرعة خاطفة حتى فَهِمه فهو وحيٌ. وأصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمرٌ وحِيٌّ (أي سريع)، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة.” (الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “وحى”، ص858 و 515)
فالوحي بطبيعته سريع !
الوحي في القرآن والحديث
وقد كان صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي يحرِّك لسانه بسرعة وشدة ليحفظ عن جبريل ؑكي لا ينسى الوحي لسرعته حتى نهاه الله عن ذلك وطمأنه أنه سيجمع القرآن له في صدره، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ:
“كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَه فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ.” (رواه البخاري 5. ومسلم 448، ورواه مسلم 447 بلفظ: “يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْهُ”)
قال ابن الجوزي رحمه الله:
“تفسير هذا أنه كان يحرك شفتيه بما قد سمعه من جبريل قبل إتمام جبريل الوحي مخافة أن يذهب عنه جبريل وما حفظ فقيل له {لَا تُحَرِّكْ} أي القرآن {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي بأخذه {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي علينا جمعه وضمه في صدرك {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي إذا فرغ جبريل من قراءته {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال ابن عباس فاستمع وأنصت.” (كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي 1/528)
وعرّفه من العلماء كالتالي:
“هو إعلام الله تعالى لمن اصطفاه من عباده بطريق خفية سريعة.” (من كتاب “علوم القرآن الكريم” للدكتور نور الدين عتر، ص 15)
وقد كان الوحي ينزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سريعاً مثل صلصلة الجرس، فعَنْ السيدة عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا:
“أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِينِي أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ ـ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ ـ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ الْمَلَكُ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُعَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ». قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيُفْصَمُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.” (رواه البخاري، 2، ومسلم 2333)
قال البغوي رحمه الله مفسرا:
“قوله (يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ) فالصلصلة: صوت الحديد إذا حُرِّك، قال أبو سليمان الخطابي: يريد -والله أعلم- أنه صوت متدارِك يسمعه ولا يثبته عند أول ما يقرع سمعه حتى يتفهم، ويستثبت، فيتلقفه حينئذٍ ويعيه، ولذلك قال: وهو أشده عليَّ.” (شرح السنَّة، للبغوي 13/322)
وقال القرطبي رحمه الله:
“وقوله (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ) إنما كان أشد عليه لسماعه صوت الملك الذي هو غير معتاد، … وكان يشتد عليه أيضاً؛ لأنه كان يريد أن يحفظه ويفهمه مع كونه صوتا متتابعا مزعجاً، ولذلك كان يتغير لونه، ويتفصد عرقه، ويعتريه مثل حال المحموم، ولولا أن الله تعالى قواه على ذلك، ومكَّنه منه بقدرته: لما استطاع شيئا من ذلك، ولهلك عند مشافهة الملك؛ إذ ليس في قوى البشر المعتادة تحمل ذلك بوجه.” (المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، للقرطبي 6/172)
وقال المباركفوري رحمه الله:
“(وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيّ) أي: هذا القسم من الوحي أشد أقسامه على فهم المقصود؛ لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة، أشكلُ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، وفائدة هذه الشدة: ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات.” (تحفة الأحوذي، للمباركفوري 10/79)
إذن الوحي يتميز بالسرعة، وليس الأمر جديداً كما ظنَّ صاحب الاعتراض، بل إنَّ الوحي بذاته يعني السرعة والخفاء ! وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من عادته الإسراع في ترديد الوحي كي لا ينساه فنهاه الله تعالى لأن وحي القرآن الكريم لا يتأثر بالسرعة كما يتأثر باقي الوحي والإلهام.
ماذا عن نسيان بعض الوحي
أما النسيان لبعض الوحي فهذا لا دخل له في الإعلان الإلهي أو الوحي الحرفي الذي فيه أمر بالتبليغ والحفظ بل هو مما يُعلمه الله تعالى نبيَّه ويُقدَّر لبعضه أن يُنسى، وقد ثبت في القرآن المجيد أن النبي يمكن له أن ينسى من الوحي ما يشأء الله تعالى، يقول الله ﷻ:
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} -سورة الأعلى 7-8.
وورد في الحديث الشريف عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها أنها قَالَتْ:
“سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: «يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا».” (رواه البخاري 5038. ومسلم 788)
وهذا ضمن الآية:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا} أي أن الله تعالى هو الذي يشاء أن ينسى النبيُّ هذا الوحي أو ذاك لحكمة وغاية علمها عند الله تعالى ﷻ.
وقد وَرَدَ عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؓأنه قَالَ:
“رُبَّمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَنَسِيَهُ بِالنَّهَارِ.” (فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب قوله ما ننسخ من آية أو ننسها، ص: 17)
كان على صاحب الاعتراض أن يفهم أساسيات الإسلام على الأقل فيما يتعلق بالموضوع قبل أن يُظهر للعالم جهله بالدِّين إلى هذا الحد الذي أفقده صوابه فصار يوجّه سهامه إلى الإسلام قبل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام. والطامة الأخرى عند بعض المعترضين قولهم: “كيف تسيؤون يا أحمدية إلى النبي ﷺ بإيراد أحاديث النسيان فقط لتدافعوا عن مؤسس جماعتكم؟”، أو “لن ينفعكم ذلك”، فإن قول المعترضين هذا أسوأ من الذي قبله، لأنه يعتبر ما يُنسب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث بل في الكتاب إساءة ومطعناً فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! أما الْحَقُّ فهو أن النسيان كما ذكرنا أعلاه ثابتٌ للبشر، ومن طبيعة الإنسان النسيان، بل هو مدعى لعظمة النبي وجلالة قدره مع كونه بشر ينسى وتجري عَلَيْهِ ما تجري على باقي الناس من سنن النسيان والمرض ونحو ذلك، فيشكر النبيُّ الذي هو أهل العلم كله اللهَ تعالى ويكفر الجهلاء ربهم، والأهم أن ذلك يتم بأمر الله تعالى لبعض الوحي الذي يتلقاه النبي منه ﷻ لحكمة يعلمها وحده تبارك وتعالى. أما ما يخص المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فهو أن كل ما شاء الله تعالى لوحيه أن يبقى فقد بقي ولم يُنس شيئا إلا ما شاء الله كما قال سبحانه وتعالى، وهذا من القليل النادر.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
مُسْلِم لله