بسم الله الرحمن الرحيم

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء 19)

 

لماذا التطوّر في فهم المسيح الموعود عليه السّلام لمعنى النبوّة الحقيقية وحقيقة نبوّته؟

الحلقة الرابعة في ردّ الاعتراضات على نبوّة المسيح الموعود عليه السّلام

ملخص الحلقة:

ندحض في هذه الحلقة الاعتراض على التطوّر الحاصل في فهم المسيح الموعود عليه السّلام لمفهوم النبوّة الحقيقية، من نبوّة التشريع والاستقلال إلى نبوّة الإظهار على الغيب التي تندرج تحتها نبوته هو عليه السّلام. وبهذا ندحض الاعتراض على التغيّرالحاصل في تأويل حضرته عليه السلام لنبوّته هو من نبوة ناقصة مجازية إلى نبوّة كاملة حقيقية. فما هذا التطوّر في الفهم إلا اتّباعا للوحي النازل على حضرته عليه السلام، وتمشيًا مع سنة الأنبياء السابقين في اتباع الفكر السائد إلى أن يكشف الوحي مفهوما غيره؛ كما أن هذا التطور والتدرّج مماثل للتطوّر في إعلان سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) لحقيقة نبوّته، ومماثل للتدرّج في نزول تعاليم القرآن الكريم. وما كلّ هذا إلا لحِكَمٍ إلهية في تيسير الأمور وفهمها على عباده.

الاعتراض:

لماذا هذا التغيّر في فهم معنى ومكانة نبوة المسيح الموعود من ناقصة إلى كاملة، ولماذا لم يعلن سيدنا أحمد عليه السلام نبوته الكاملة منذ البدء، أوَليس في ذلك تناقض، أليس هذا قول غير ثابت في موضوع النبوة؟

الردّ:

هنا لا بدّ أن نوضّح ما قد ذكرناه في الحلقة الماضية مع المزيد من الشرح:

– إن من سيرة الأنبياء اتباع الحيطة والحذر في تأويل وحي الله تعالى والأخذ بالمفهوم السائد بين العامة إلى أن يكشف الله تعالى لهم غيره بالوحي، فلم يحرِّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، الخمر والمتعة والربا على الرغم من كراهيته لها ما لم يحكم وحي الله فيها. وهذا ما حدث مع حضرته عليه السلام في مسألة النبوة، حيث كان يعتبر النبوة الحقيقية الكاملة أنها لا بدّ أن تندرج تحت المفهوم الإسلاميّ الرائج بين الناس والذي يستلزم التشريع والاستقلالية في النبوة، ولكن لما ظهر لحضرته عليه السلام بالوحي المتواتر عليه غير ذلك غيّر مفهومه لكمال نبوته وأعلنها بصراحة تامة.

– ومن الجدير ذكره أن هذا التغيّر لم يقتصر على فهم موضوع نبوته عليه السلام، بل حدث الشيء نفسه في مسألة وفاة سيدنا عيسى عليه السلام، وكذلك في تفضيل نفسه على سيدنا عيسى عليه السلام، فقد وضّح حضرته أن ليس في كل هذا من التغير أي تناقض أو إشكال حيث قال:

أما القول: كيف كُتب هذا، ولماذا حصل التناقض في الكلام، فاسمعوا جيدا وعُوا: إن مَثَل هذا التناقض كمثل الذي ورد في “البراهين الأحمدية”، حيث كتبتُ أن المسيح ابن مريم سوف ينـزل من السماء، ثم كتبت فيما بعد أنني أنا المسيح الموعودُ ظهورُه. والسبب وراء هذا التناقض هو أنه مع أن الله تعالى قد سماني عيسى في “البراهين الأحمدية” وقال لي أيضًا: إن الله ورسوله قد أخبرا بمجيئك، إلا أن طائفة من المسلمين -وكنتُ من بينهم- كانوا يعتقدون بكل شدة أن عيسى سوف ينـزل من السماء، لذلك ما أردت حمل وحي الله ﷻ على الظاهر بل أوَّلته، وظللتُ متمسكًا بعقيدة جمهور المسلمين ونشرتُها في “البراهين الأحمدية”. ولكن بعد ذلك نـزل علي وحي من الله بهذا الشأن كالمطر قائلا: إنك أنت المسيح الموعودُ نزولُه. كما ظهرت معه مئات الآيات، وقامت السماء والأرض كلتاهما شاهدةً على صدقي. وإن آيات الله المشرقة أقنعتني على أنني أنا ذلك المسيح الموعود مجيئه في الزمن الأخير. وإلا فلم تكن عقيدتي الشخصية إلا ما سجّلته في “البراهين الأحمدية”. ثم لم أكتف بذلك بل عرضت هذا الوحي على القرآن الكريم؛ فثبت بالآيات القطعية الدلالة أن المسيح ابن مريم قد مات في الحقيقة، وأن الخليفة الأخير باسم المسيح الموعود سيأتي من هذه الأمة. وكما لا يبقى أيّ ظلام بعد شروق النهار كذلك أكرهتني مئات الآيات والشهادات السماوية والآيات القرآنية القطعية الدلالة ونصوص الحديث الصريحة الواضحة على أن أقبل أني أنا المسيح الموعود. كان يكفيني أن يرضى الله عني. إني لم أتمنَّ هذا الأمر. لقد كنت في زاوية الخمول، ولم يكن أحد يعرفني، ولم أُرِدْ أن يعرفني أحد. ولكن الله ﷻ أخرجني من زاوية الخمول رغمًا عني. لقد وددتُ أن أعيش خاملا مستورا وأموت خاملا مستورا، ولكنه تعالى قال: سأذيع صيتك في كل العالم بالعزّة والشرف. فاسألوا الله تعالى لماذا فعل ذلك؟ وما ذنبي أنا في ذلك؟

كذلك تمامًا كنت أعتقد في أول الأمر وأقول: أين أنا من المسيح ابن مريم؟ إذ إنه نبي ومن كبار المقربين عند الله تعالى، وكلما ظهر أمر يدل على فضلي كنت أعتبره فضلا جزئيًّا، ولكن وحي الله ﷻ الذي نزل عليَّ بعد ذلك كالمطر لم يدعني ثابتًا على العقيدة السابقة، وأُعطيتُ لقب “نبي” بصراحة تامة، بحيث إنني نبيٌ من ناحية، ومِن أُمة النبي ﷺ من ناحية أخرى. وقد كتبت بعض الفقرات في هذا الكتاب نموذجا من إلهامِ الله يتبين منها أيضا ما قال الله فيَّ مقابل المسيح بن مريم. فأنّى لي أن أرد الوحي المتواتر الذي نزل عليَّ إلى 23 عاما. أؤمن بوحيه المقدس هذا كما أؤمن بالوحي الذي نزل من قبلي. وأرى أيضا أن المسيح ابن مريم هو الخليفة الأخير لموسى ؏، وأنا الخليفة الأخير لذلك النبي الذي هو خير الرسل، لذا فقد أراد الله تعالى ألا يجعلني أقل منه مرتبة. أعلمُ يقينا أن الذين أُشرِبت قلوبُهم حب المسيح إلى حد العبادة لن يستسيغوا كلامي هذا ولكني لا أبالي بهم. ماذا أفعل، وأنّى لي أن أُعرض عن أمر الله، وكيف أستطيع أن أخرج إلى الظلام من النور الذي أُعطِيتُه.” ( حقيقة الوحي)

– وقد أوضح حضرته عليه السلام هذا الأمر قائلا :”فملخص القول؛ ليس هناك من تناقض في كلامي، إنما أتّبع وحي الله تعالى. فما لم يأتني منه علم ظللتُ أقول ما قلتُ في أول الأمر، ثم قلت خلافَه بعد أن جاءني العلم منه ﷻ. إنما أنا بشر، ولا أدّعي أني عالم الغيب. هذه هي حقيقة الأمر، فمن شاء فليقبل ومن شاء فليرفض.( حقيقة الوحي)

– إذن، فالقضية ما هي إلا توخٍّ للحذر في تأويل وحي الله تعالى، واتباع للوحي النازل عليه وليس في ذلك ما يناقض سيرة الأنبياء وسنة الله عز وجل.

– ومثال هذا التغيّر في الفهم أو التطور في الإعلان والتصريح، هو ما حدث مع رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان مضطرًا إلى أن يجعل قومًا معارضين وخطيرين يؤمنون ويسلكون صراطًا مستقيمًا، فأنزل الله تعالى القرآن الكريم تدريجًا تيسيرًا على عباده. كذلك ظهر ادّعاء المسيح الموعود أيضًا تدريجيًا في هذا العصر. ومع أن الله تعالى قد أصدر قراره منذ زمن تأليف البراهين الأحمدية ولكنه ظهر للعيان تدريجًا، أي أولا في عام 1891م، ثم في 1901م، وبذلك أنقذ الله طبائع ضعيفة كثيرة من العثار رحمة بهم. فبقدر تطوُّر المواهب فيهم ظل الادّعاء أيضًا يتطوَّر. علمًا أن ادّعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أيضًا كان على المنوال نفسه، فقد نزل عليه أولا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: 2) و لم يُدعَ فيها باسم نبي. ثم نزلت آيات ابتدائية من سورة المزمل، وكلِّف فيها بالقيام بالمهمة ولكن لم ترد فيها أيضًا كلمة نبي أو رسول، غير أنه دُعي باسم الرسول في غضون بضعة أشهر كما يتبيَّن من الآيات الأخيرة في سورة المزمل. كذلك ادّعى ﷺ بعثته إلى العالم كله بعد فترة طويلة، وإن آيات القرآن الكريم التي دُعي فيها العالم كله إلى اتّباع هذا النور والهداية نزلت بعد مدة طويلة. وقد أعلن النبي كونه خاتم النبيين في المدينة.

– وقال المسيح الموعود موضحا هذا الأمر: “كما أن القرآن الكريم لم ينـزل دُفعة واحدة، كذلك إن معارفه أيضًا لا تنـزل على القلوب دفعة واحدة. لذا فقد ذهب الباحثون إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، أيضًا لم يُعطَ المعارف دفعة واحدة، بل أكمل ﷺ دائرة التقدُّم العلمي تدريجًا. والحال نفسه بالنسبة إليّ كَوني مظهرًا له صلى الله عليه وسلم بصورة ظلية. والسرُّ في تقدُّم النبي ﷺ التدريجي هو أن مدار تقدُّمه كان القرآن وحده. فلما كان نزول القرآن الكريم تدريجيًا كذلك كان إكمال معارف النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا تدريجيًا. والحال نفسه بالنسبة إلى المسيح الموعود الذي ظهر فيكم الآن.” (نزول المسيح، الخزائن الروحانية، المجلد 18، الصفحة 421)