السؤال:
يقول المسيح الموعود عليه السلام: “إنه من غير المعقول أبدا، ومن السفاهة حقا أن يتلقى الإنسان وحيا هو ليس بلغته أو لا يفهمه” (الخزائن الروحانية ج23 ص218)
ثم يقول: “من الوحي الذي أتلقاه ما يكون بلغات لا أعرفها إطلاقا مثل الإنجليزية والسنسكريتية والعبرية وغيرها” (الخزائن الروحانية ج18 ص 435)
فكيف ممكن التوفيق بين القولين؟
الجواب
نجد الرد من كلام حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام نفسه، حيث يقول:
“ان اختلاف الألسنة واردٌ منذ القِدم وتشهد عليه الظروف الحالية. فلا بد من الاعتراف أن الذي خَلَقَ الإنسانَ خَلَقَ لغاتهم أيضاً وهو الذي يُحدِثُ فيها بعضَ التغيرات فينة بعد فينة. ومن السخفِ القول ومن غير المعقول تماماً أن تكون للإنسان لغة ويتلقى الإلهام في لغةٍ أخرى لا يفهمها لأنه تكليف بما لا يطاق. ثم ما الفائدة من الإلهام الذي يفوق فهم الإنسان. فلمّا لَمْ تكن لغة الرجال الذين تلقوا الفيدات (كتب الآريا المقدسة) سنسكريتية وما كانوا قادرين على الكلام بها أو فهمها بحسب مبدأ الآريين؛ ففي هذه الحالة إن إلهام الله إليهم بلغة أجنبية عليهم كان حرماناً من تعليمه قصداً. وإن قلتم بأن الله كان يفهِّمهم معنى تلك العبارات بلغتهم لما بقي عهد الله القائل بأن كلامه في لغة الإنسان حرامٌ عليه قائما. إنني لأستغرب بشدة ماذا ينفع الآريين كلام سطحي وغير ناضج مثله؟ أليس كل ما للإنسان لله؟ فما الذي يحط من شأن الإله إنْ فَهَّمَ الإنسانَ بلغته؟ ألا يسمع إلٰـهُنا أدعيتَنا في لغتنا؟ فإذا كان سماعه أدعيتنا في لغتنا لا يحط من شأنه شيئاً فلماذا يقلل من شأنه إن أفهمنا صراطاً مستقيماً في لغتنا؟ فالجدير بالذكر أن عادة الله بحسب سنته القديمة هي أنه يهدي كل أمة بلغتها. ولكن إذا كان هناك لغة يعلمها الملهَم جيداً وكأنها في حكم لغته فكثيراً ما يتلقى الملهَم إلهاماً في تلك اللغة كما تشهد على ذلك بعض كلمات القرآن الكريم إِذْ نزل أولاً بلهجة قريش لأنهم كانوا أول المخاطَبين. ثم وردت فيه كلمات لهجات العرب الأخرى أيضا. أما أنا الذي أتّبع القرآن الكريم وكتاب شريعتنا من الله تعالى هو القرآن الكريم فإني كثيراً ما أتلقى الإلهام من الله تعالى باللغة العربية لكي يكون علامة على أن كل ما أناله إنما أناله بواسطة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأستفيض في كل أمر بواسطته. ولما كانت مشيئة الله أن يجعل الناس جميعاً أمة واحدة ففي بعض الأحيان أتلقى الإلهام بلغات أخرى أيضا. ولكن معظم مخاطبة الله تكون بالعربية بل إن جزءاً كبيراً من مخاطبة الله يكون بآيات قرآنية. ويكون الهدف من وراء ذلك التأكيد على أن القرآن الكريم كلام الله. وبهذا الأسلوب الجديد يؤكَّد للملهَم أن الرسول الذي يؤمن به هو رسول صادق، والكتاب الذي يؤمن به أي القرآن الكريم هو كتاب الله. فلِمَ ينـزل الإلهام بلغات مختلفة الآن أيضاً وتتحقق بواسطته مئات الأنباء أفَلَمْ يثبت إلى الآن أن الله تعالى يُلهِم بكل لغة؟” (الخزائن الروحانية ج 23، ينبوع المعرفة)
إذن الموضوع هو سياق وسباق معاً، وهو هنا في سياق الرد على الأريا المعادين للقُرآن الكَرِيم الذين يهاجمون الإسلام ويدَّعون أن لله تعالى لغة واحدة خاصة به وهي السنسكريتية، فكان رد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام عليهم أن كل لغة هي خاصة بالبشر ولا يحتاج الله تعالى للغات لأنه خالقها، فالوحي يتم بأي لغة من هذه اللغات المخلوقة ولا توجد لغة لله بل هذا شأن الإنسان فقط، ومع ذلك فالعربية هي أم اللغات وبها تلقى المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بعض الوحي لأنه يفهمها وهي لغة الدين الشامل للبشرية جمعاء ومنهم العرب وهذا فقط بعض الوحي والكلمات بالعربية وغيرها وليس كالفيدات التي تحصر اللغة بالسنسكريتية ولأهلها فقط دون غيرهم وأنها لغة الله الخاصة به والعياذ بالله !
وهكذا فقوله عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام يتعلق بوحي الأحكام والعقائد، وهذا لا يتناقض مع أن يُنـزِل الله على عبده عبارةً أو بعض العبارات بلغة أخرى من باب إعجازي، ولا يتنافى مع أن يُنـزِل الله تعالى على عبده وحيا بلغته ولا يفهم تأويله، بل يُفهَم في وقته بعد زمن طويل. فالموضوع هنا عن مبشرات أو نبوءات مستقبلية، وليس عن أحكام وشرائع. فالوحي الذي تحدث عنه عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام في المثال الأول كان حول الكلام والتوجيه الذي ينزل بغير لغة النبي، أي أن الموضوع هو شرح للآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ! فيما المثال الثاني هو عن ورود بعض الكلمات والعبارات التي تحمل نبوءات وليست توجيهات كاملة ووحياً كاملاً بلغة أخرى لا يفهمها النبي. وقد ورَدَ في الحديث المرفوع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي لا ينطق عن الهوى قال لسيدنا أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالفارسية: “هل بطنك تؤلمك؟” فأجاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالإيجاب. الحديث كما يلي:
“حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ، حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ مِسْكِينٍ، حَدَّثَنَا ذَوَّادُ بْنُ عُلْبَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: هَجَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَّرْتُ، فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: « اشكمَتْ دَرْدُ ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.” (سنَن الترمذي 3457)
فكانت هذه العبارة بلا شك من عند الله تعالى لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لا ينطق عن الهوى ولا بد أن حضرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تلقى وحياً بذلك بالفارسية.
ومع أن سيدنا أبا هُريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عربي دوسي الأصل ألا أنه لا يُعلَم إذا كان له أصول فارسية أيضاً أو كان يفهم الفارسية تماماً كأهلها والدليل على ذلك سؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم له بالفارسية وفهم ابي هُريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ له، وكذلك الرواية التالية الواردة في عدد من كتب الحديث:
“حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ سَلْمَى مَوْلًى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجُلَ صِدْقٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَارِسِيَّةٌ مَعَهَا ابْنٌ لَهَا فَادَّعَيَاهُ وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! وَرَطَنَتْ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي! فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ. وَرَطَنَ لَهَا بِذَلِكَ فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَقَدْ نَفَعَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ»، فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ»، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ.” (سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب من أحق بالولد 2277)
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حسب الحديث لم يكن يتكلم الفارسية فكان سيدنا أبو هُريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يترجم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حين سأل أبا هُريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الحديث الأول فقََدْ خاطبه بالفارسية، ولا شك أن الذي لا ينطق إلا بالوحي قد تلقى ذلك من الله تبارك وتعالى، والله تعالى أعلم.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ