الاعتراض: هل درس السيد المسيح التوراة على يد معلم يهودي؟
يقول السيد ميرزا غلام أحمد:
ولما كان ثابتًا أن المسيح عليه السلام قد درسَ التوراة على يدِ معلّم يهودي درسًا درسًا، ودرَس التلمود أيضا…” (نزول المسيح)
فأين ثبت أنّ المسيح درس التوراة درسا درسا على يد معلم يهودي؟ وكذا التلمود؟ وما اسم هذا المعلّم؟ هذا يخالف القرآن وإنجيل لوقا أيضًا، أما القرآن الكريم فيؤكد مرتين على أن الله هو الذي علّم المسيح كل شيء، فقال:
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (آل عمران 48)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ… وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (المائدة 110)
أما إنجيل لوقا فجاء فيه:
“وَكَانَ الصَّبِيُّ (المسيح) يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ… وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ… وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. 47وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. 48فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا.} (إِنْجِيلُ لُوقَا 2 : 40-48)
الرد: لنأخذ نصوص من الإناجيل
لنرَ هل كان فعلاً للمسيح الناصري عَلَيهِ السَلام في صغره مدرسة ومعلّم أم لمْ يتعلّم في أي مدرسة ولا تحت أي معلّم على الإطلاق. ولنأخذ نفس النص من إنجيل لوقا الذي يذكر بحث والدة المسيح عَلَيهِ السَلام عنه وهو صغير لثلاثة أيام ثم إيجاده في معبد اليهود حاضراً إحدى دروس التوراة عند المعلّمين:
“وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ.” (لوقا 2: 46-47)
ويعترف المفسرون المسيحيون للنص أعلاه كما جاء في “قاموس الكتاب المقدس” بأن المسيح ؑ كان طفلاً عادياً نشأ وتعلّمَ ودرسَ التوراة في طفولته:
“ندرك من لوقا 2: 40 أن حياة يسوع من طفولته إلى شبابه كانت شبيهة بحياة الإنسان العادي ما خلا أنها كانت كاملة، ففيه تحقق مثال الإنسان الكامل الذي أراده الله أن يكون مثالًا للبشر في كل مراحل حياتهم ومع انه عاش في بيت وضيع مع مريم ويوسف وربما أيضًا مع أخوته وأخواته المذكورين في الكتاب إلا أن حياته كانت في كل الأوقات والظروف متفقة تمامًا مع إرادة الله (لو 2: 52). … ويبدو جليًا من لو 2: 46 و47 أنه بدأ في حداثته المبكرة وفي سن صغيرة يدرس العهد القديم دراسة عميقة واسعة. ومع أنه يبدو أن يوسف مات لهذا بدأ يسوع يعمل كنجار بجد واجتهاد كي يعين أمه وأخوته في شؤون معيشتهم (مت 13: 55 و56). إلا أنه أعطي وقتًا كافيًا للتأمل وقراءة الكتب المقدسة والصلاة. وإننا لا نجد في العهد الجديد الكثير من طفولية الرب يسوع ما عدا هذه الإشارات البسيطة والقول الوارد في لوقا 2: 52 “وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس“.” (قاموس الكتاب المقدس، السيد المسيح يسوع الناصري، آدم الثاني، طفولية يسوع وصباه ونموّه)
هل ذهب المسيح باستمرار ليدرس تعاليم التوراة؟
وقد يقول قائل: لعل المسيح ذهب تلك المرّةَ فقط، أي لم يكن يذهب باستمرار للدروس بل ذهبَ مَرّةً واحدة فقط، فلا يمكن اعتباره قد درس التوراة في حلقات الدروس والمجامع اليهودية! وللجواب على ذلك نوردُ الفقرة التالية من نفس الإنجيل التي تبيّنُ بأن المسيح ؑ كان يذهب باستمرار كل يوم سبت على الأقل إلى حلقات الدروس في مدينة الناصرة حتى بلوغه سن الرشد:
“ثُمَّ ذَهَبَ يَسُوعُ إلَى النّاصِرَةِ حَيثُ نَشَأ. وَفِي يَومِ السَّبْتِ ذَهَبَ إلَى المَجمَعِ كَعادَتِهِ، وَوَقَفَ لِيَقْرَأ. فَأعطُوهُ كِتابَ النَّبِيِّ إشَعْياء.” (ﻟﻮﻗﺎ 4: 16-17)
إذن كان (كعادته) عَلَيهِ السَلام يذهب إلى الدروس التوراتية في مدارس اليهود ويستمع إلى المعلمين ويسألهم ويجيبهم.
وتسمّى هذه الفترة التي قضاها يسوع من 12-30 سنة والتي يطلق عليها النصارى بـ”السنوات المفقودة” لكونها ليست مسجَّلة بالتفصيل في الأناجيل بخلاف العادة، تسمّى هذه الفترة أيضاً عند بعض الآباء بـ”سنوات الإعداد” أي سنوات الدراسة والتعلّم للانطلاق عند الثلاثين بخدمة التعليم. فيقول الواعظ شريف يعقوب:
“في الواقع، في حالة معلّمنا المسيح، فقد قضى ثلاثين عاماً في الإعداد، وثلاثة سنوات ونصف في الخدمة؛ ولكن كم كانت خدمته قوية، لأنه لم يهمل التدريب بصبر وهدوء ونشاط.” (يسوع في الثانية عشر في المعبد بقلم شريف يعقوب، الحلقة الثانية)
وهو الأمر الذي فصّله القس المؤرخ عزت أندراوس بقوله:
“في أيام السبت وأيام الأعياد كان المعلّمون من الكتبة والفريسيين يحاضرون في الناس في الأروقة المغطاة لساحة النساء (الساحة الأبعد إلى الخارج من المبنى). … جَلْسَ (يسوع) تحت أرجل المعلمين من الكتبة والفريسيين ليسمعهم. لقد أتى اليوم ليكون متفقهاً فى الشريعة. سمع ثم سأل. أتى يوم ليصل فيه إلى فكر تأمّلي ناضج عندما طرح أسئلة عن الأشياء التي سمعها من الفريسين والكتبة ومعلّمي الناموس فى أروقة الهيكل. النضج يسمع ويسأل.” (التفسير الحرفي والتاريخي والجغرافي لوقا 2، المؤرخ عزت أندراوس، موقع تاريخ الأقباط)
وقد حدَّدَ الأنبا غريغوريوس صفة معلمي اليهود الذين كان يسوع يتردد إلى دروسهم فيقول:
“ثمة إشارات أخرى فى الأسفار المقدسة تدل على أنَّ السيد المسيح قد نال قِسْطاً من التعليم كغيره من أبناء الفقراء فى المدارس التي كانت ملحقة بمجامع اليهود وكان يقوم بالتعليم فى كل منها رجلٌ يسمّونه “السوفريم”.” (تفسير إنجيل القديس لوقا للمتنيح العلامة القبطى الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا والبحث العلمي، لوقا 2: 46)
وهذا معروف عند جميع المسيحيين حتى أن فرقة “شهود يهوه” المسيحية تحثّ أطفالها على التعلّم والدراسة اقتداء بيسوع المسيح الذي كان يذهب إلى المدرسة ويستمع بانتباه وهدوء تام إلى الأساتذة وهم يلقون الدروس ثم يطرح ما لديه من أسئلة باحترام فيعجب الأساتذة لحسن تصرفه فيبدأون بدورهم بسؤاله لاختبار ذكائه ويتعجبون من مثابرته وصحة إجابته وفهمه لشريعة الإله يهوه:
“Finally, they went to the temple. There was Jesus, sitting in the middle of the teachers, listening carefully and asking good questions. The teachers were so impressed with Jesus that they began asking him questions. And they were amazed by his answers. They could see that he understood Jehovah’s Law.” (LESSON 72, Young Jesus.)
وفي النسخة العربية ختموا الدرس بما يلي:
“نعم، يحبّ يسوع أن يكون حيث يمكنه ان يتعلّم عن الله. ألا يجب أن نشعر نحن أيضاً هكذا؟ وهناك في الناصرة كان يسوع يذهب إلى الاجتماعات للعبادة كل أسبوع. ولأنه كان يصغي دائماً تعلَّمَ أموراً كثيرة من الكتاب المقدس. فَلْنكُنْ كيسوع ونتّبع مثاله.” (القصة 87 يسوع الصغير في الهيكل)
وهكذا ثبت أن يسوع كان شغوفاً بالتعلم والدراسة حتى أصبح مَضرب المثل في حب الذهاب إلى المدرسة والتعلّم. هذه هي عقيدة المسيحيين في عيسى عَلَيهِ السَلام، وذلك لا يمنع من أن الله تعالى كان يعلّمه ويسدّده، أي لا يمنع حب العلم والدراسة من توفيق الله تعالى وإرشاده، إِذْ كان تعالى طيلة هذه السنوات يُعَدّ المسيحَ عَلَيهِ السَلام للقيام بمهمته كنبي لبني إسرائيل، ولكنهم للأسف ورغم شهادتهم على علمه ومثابرته إلا أنهم أرادوا قتله حين أعلن بأنه نبي الله تعالى إليهم، فنجّاه الله ﷻ من مكرهم وأرسله إلى خراف بيت إسرائيل وبلّغ الرسالة وأدّى الْأَمَانَةَ كما أُريدَ منه عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام. وهكذا صَدَقَ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في قوله أن المسيح عَلَيهِ السَلام تعلّم على يد مُعلّم كما صَدَقَ عند كل شبهة تثار ضده فلا تثبت إلا صدقه عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ