كان من عادة معارضي الأنبياء، بعد أن تعييهم الحيلة ويحبَطون نتيجة تقدُّم النبي وجماعته وعجزهم عن القضاء عليها، أن يطلبوا من الأنبياء أن ينزِّل الله عليهم العذاب إن كانوا صادقين، وبهذا سيُحسم الأمر بينهم وبين النبي وجماعته!
وقد بيَّن الله تعالى أن هذا الطلب قد طلبه المعارضون من الأنبياء مرارا، ثم طُلب من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول تعالى:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } (العنْكبوت 54-55)
أما الجواب الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدمه على هذا الطلب:
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } (الأَنعام 58-59)
فنزول العذاب أمر يختصُّ به الله تعالى وحده ويقدِّره بعلمه، والأمر ليس خاضعا لمشيئة هؤلاء ولا لمشيئة النبي نفسه. ولو كان الأمر هكذا لقضي الأمر سريعا دوما بين الأنبياء ومعارضيهم، إذ دعوهم للمباهلة فقضي عليهم! فهذا ينافي حكمة الله تعالى وينافي الواقع. أما إذا أمر الله النبي بأن يعلن عن عذاب قدَّره، ويعلن بناء على ذلك وعيدا بنزول العذاب في وقت معلوم بشرط ألا يتوب هؤلاء ويرتدعوا، فهذا أمر آخر، وهذا ما نجده في سيرة الأنبياء، وما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، كما حدث مع خادمه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. وتحت هذا الوعيد المأذون به أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بعرض المباهلة على نصارى نجران، كما أُمر المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بعرض المباهلة أحيانا على المعارضين. لكن هذا لا يعني أن المباهلة متاحة لكل شخص أو فريق لكي يعلنها دون إذن من الله تعالى، ثم يرغم الفريقان الله، والعياذ بالله، على أن يستجيب لهم ويحقق مشيئتهم بهلاك أحد الفريقين لا محالة! فهذا لم يجرؤ عليه الأنبياء، وما قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله عندما طلب منه ذلك وهو: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}.
ونرى في سيرة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام العديد من القصص بنزول العذاب وفقا لتحديات وشروط إلهية منها ما كان نتيجة مباهلة أعلن أن الله تعالى قد أذن له بها ومنها ما كان إنذارا غير مشروط بالمباهلة أيضا ولكنه كان بأمر الله تعالى. فقد هلك بالإنذارات والتحديات الهندوسي ليكرام، والقسيس المرتد عبد الله آتهم، وهلك أحمد بيك والد “محمدي بيغم”، وهلك القسيس ألكسندر دوئي في أمريكا، وغير ذلك العديد أيضا من المعارضين، وخاصة إبان آية الطاعون الذي أخذ يصيب كل من أنكر هذه الآية وتجرأ على أن يعلن أن الله سيقيه منه، وهذا وفقا للوعيد الذي أنبأ الله المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أن يعلنه.
وهكذا يتضح أن المباهلة التي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانها في قوله تعالى:
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } (آل عمران 62)
لم تكن أمرا عاما يمكن أن يقدِّمه النبي صلى الله عليه وسلم في أي وقت دون إذن من الله تعالى، بل كانت حالة خاصة تُطلب بعد مجيء العلم من الله تعالى، وهذا يعني أن الذي يطلب المباهلة ينبغي أن يكون على صلة بالله تعالى بالوحي الذي يعلمه بالعذاب أو يأمره بتقديم هذا التحدي بنزول العذاب، وأن يكون مكلَّفا بمهمَّةٍ من الله تعالى ومخولا بها منه، ثم يأذن له الله تعالى بإشهار هذه المباهلة في ظروف خاصة. فمن يطلب المباهلة يجب أن يدعي الوحي أولا والتكليف، ثم أن يأذن الله تعالى له بأن يباهل فريقا معينا ويعده بنزول العذاب على هذا الفريق وفق شرط يعلمه الله تعالى به.
وكما ذكرنا سابقا، فقد بعث الله تعالى الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وكلَّفه بتجديد الدين وتشكيل جماعة الآخرين الملحقة بالأولين، وأذن له بالمباهلة أحيانا وأذن له بطرح تحديات بعذاب رؤوس المعارضين في أحيان، وتحققت مباهلاته وتحدياته بصورة مذهلة وفقا للشروط. ولتأكيد استمرار رسالته وكون الخلافة من بعده إنما هي القدرة الثانية الموعودة التي تتجلى فيها الانتصارات وتواكبها التأييدات الإلهية كما كانت مع حضرته، وكونها متصلة بالوحي مع الله تعالى من بعده، فقد حدث أن أذن الله تعالى للخليفة الرابع رحمه الله بأن يعلن المباهلة على ضياء الحق، ثم حقق الله نتيجة هذه المباهلة بصورة مذهلة، بل وأعلم الخليفة عن مصيره المؤكد قبل هلاكه، وكان في ذلك آية للعالمين.
فبعد أن أعلن حضرته رحمه الله تعالى المباهلة على ضياء الحق كونه رأس تكفير الجماعة في باكستان وصبِّ المظالم على الجماعة هناك، قال في خطبته للجمعة 1 / 7 / 1988: “إننا ما زلنا ننتظر ما سيُظهره الله تعالى من قضائه بشأن الرئيس الباكستاني. ولكن كونوا على يقين أن الله – سبحانه وتعالى – سيبطش به حتمًا، سواء قبِلَ الآن دعوتي للمباهلة أم لم يقبلها، لأنه رأس المكفرين لنا، وأول المسؤولين عن كل ما يُصَبّ على الأحمديين الأبرياء من ظلم واضطهاد. إنه كان ولا يزال يأمر بالاعتداء عليهم، ثم يراقب هل وُضعت أوامره موضعَ التنفيذ أم لا، ويستمتع بتعذيبهم أيما متعة. ولا يُنتظر مِن مثل هذا الشخص قبولُ دعوة المباهلة باللسان، بل إن استمراره في الاضطهاد يُعتبر دليلا على قبوله دعوة المباهلة“.
فهكذا فقد أعلن حضرته أن المباهلة قائمة مع هذا الشخص، وأن وعيد الله سيأخذه ما دام باديا أنه مستمر في مظالمه.
ثم في خطبته للجمعة يوم 12/ 8 / 1988 أعلن حضرتُه رحمه الله: “إن الله تعالى قد كشف لي البارحةَ في الرؤيا أن رحى القدر قد أخذت تدور، وأنه تعالى سوف يمزق هذا الطاغية إربًا، ويجعله هباء منثورًا. فكونوا على يقين أن عقابه قريب، ولن تستطيع قوة في الدنيا إنقاذَه منه أبدًا.“
وبعد خمسة أيام فقط من هذا الإعلان نزل قدر الله من السماء يوم 17/ 8 / 1988، وتحقق بصورة مذهلة ما قاله الخليفة وفقا لوحي الله تعالى؛ إذ مُزِق إربا وأصبح هباءً منثورا تناثر في الهواء. ولم يُعثر على شيء من جثته سوى سنٌّ ذهبية ليست من جسده أصلا، ووضعت في التابوت ودُفنت.
وقد ذكرت صحيفة الفايننشال تايمز هذه الحقيقة إذ قالت:
“لم يكن في التابوت الذي دفنوه في “إسلام آباد” إلا بعض أسنانه “المحرقة“. ( Financial Times العدد الصادر يوم 22/ 8 / 1988)
أليست هذه آية عظيمة معاصرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟
وهكذا يتضح أن المباهلات ليست عبثا يمكن أن يعبث به العابثون والسفهاء ويطلبوه، خاصة إذا كانوا لا يمثلون إلا أنفسهم ولا قيمة لهم ولا وزن. ولكن لو تجاهل هؤلاء شروط المباهلة وحقيقة أن الذي يطلبها ينبغي أن يكون متصلا بالله بالوحي ومأذونا، وأقدموا وتجرأوا على هذا الحمق، فليدعوا من جانبهم أن يُنزل الله عذابه على الجماعة ويهلكها في مدة هم يحددونها، وليعدُّوا دعاءهم هذا مباهلة ويعدُّوا إهمال الجماعة لهم كونهم ليسوا بشيء قبولا عند الله تعالى – كما اعتبرنا أن تجاهل ضياء الحق كان قبولا – وليقدَّموا للناس آية تثبت صدقهم وعلاقتهم بالله تعالى! فليس شرطا أن يعلن الطرف الثاني قبول المباهلة لينزل العذاب، وآية ضياء الحق الأخيرة خير مثال.
الواقع أن كبار معارضي الجماعة من مؤسسات وهيئات ومنظمات ودول قد سعت لتكفير الجماعة ولتدميرها قد هلكت وما زالت تهلك بالخزي والعار والذلِّ بينما نصر الله تعالى الجماعة نصرا مؤزرا. فأين المكفرون اليوم وكيف هي حالهم؟
إن إقدام صغار السفهاء من المعارضين على طلب المباهلة إنما يكشف جهلهم وتسرعهم وحمقهم بل وإلحادهم، لا ثقتهم بأنهم على الحق، ويثبت أيضا أنهم على خطى معارضي الأنبياء عبر التاريخ. ولكن هؤلاء يحاولون خداع بعض السذج بألاعيب كهذه. فهل يمكن أن نعبأ بالعبث والعابثين؟