المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..108

فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..8

سرّ التذكير في كلمة “حياة”

الاعتراض: تذكير كلمة حياة في كلام المسيح الموعود

من بين ال250 مثالا التي عرضها المعارضون فيما ظنّوه أخطاء للمسيح الموعود عليه السلام، في التذكير والتأنيث، كانت ما يقارب العشرين مثالا في تذكير كلمة “حياة”، والتي عادة ما نستعملها في لغتنا الدارجة بصيغة المؤنث.

أنقل لكم هنا كلام المعترض ليبقى شاهدا عليه وعلى جهله بأسرار وأساليب اللغة العربية، والذي أورده معترضا على كلمة حياة في لغة المسيح الموعود عليه السلام. يقول المعترض المتهور:

“الميرزا تعامَلَ مع كلمة “الحياة” على أنها مُذكَّر في كتبه كلها، وعبر سِنيّ حياته الـ 67 جميعها، إلا في مثالين أو ثلاثة. فما السرّ في ذلك؟

لقد ناقشتُ عددا من متقني اللغة الأردية فلم يُجمعوا على سبب، وإنْ قال بعضهم: لقد ترجم الميرزا العبارات حرفيا من الأردو، حيث يقال فيها: حيات روحاني، وحيات جسماني، لكنّ هذا التفسير لا يغطّي الأمثلة كلها. فآمل ممن لديه معرفة بالأردو أن يحاول تفسير استمرار وقوع الميرزا في هذا الخطأ بلا انقطاع. ولماذا لم يصحّحه أحد، كما جرت العادة في عدد من الأخطاء؟”

الردّ:

أولا، أقول بأن تخبط المعترض ومعاونيه من متكلمي اللغة الأردية في بحثهم عن السبب وراء تذكير المسيح الموعود عليه السلام لكلمة (حياة)، وعدم عثورهم على سبب مقنع يفسر جميع الأمثلة من لغة المسيح الموعود عليه السلام، لتذكير هذه الكلمة؛ لهو دليل كاف وقاطع على سقوط “نظرية العجمة” التي ظنّها المعترض أنها هي السبب في أخطاء المسيح الموعود عليه السلام. فالمنطق الرياضي السليم في علم الرياضيات يقول بأن لإثبات نظرية ما يكفي مثال واحد لنقضها، وفي كلمة “حياة” حياة لكل متدبر في هذا الأمر ففيها العديد من الأمثلة التي تبطل نظرية العجمة.

ثانيا: إن البحث عن السبب في تذكير كلمة “حياة” لا بدّ أن نجده في اللغة العربية وليس في اللغة الأردية، والنظريات الوهمية التي لا تستند على دليل بل على مجرد سوء الظن والتهور في البحث والجهل بأسرار وأساليب اللغة العربية الواسعة؛ فاللغة العربية بجمالها واتساعها واتساع أساليبها كفيلة لأن توفر لنا السبب بل والأسباب المختلفة التي تفسر لنا تذكير هذه الكلمة.

ثالثا: أما السّرّ الذي يقف وراء تذكير هذه الكلمة فهو ما فصّلناه في المقال السابق من أساليب الحمل على المعنى في اللغة العربية ( يُنظر: مظاهر الإعجاز 107 على الرابط التالي: أساليب الحمل على المعنى في التذكير والتأنيث)؛ وقلنا فيه إن التذكير والتأنيث حملا على المعنى في الأسماء المجازية أسلوب فاش في اللغة وتذكير المؤنث بالذات فاش أكثر، لأنه ردّ فرع إلى أصل، وهو فاش في الكلام الفصيح من القرآن الكريم والحديث الشريف والنثر والشعر على السواء وليس الأمر مقيدا بالضرورة الشعرية ولا بلفتة بلاغية قَصَدَها الكاتب.

أقول هذا رغم أنني لا أرى أن استعمال المسيح الموعود عليه السلام لهذا الأسلوب يخلو من اللفتات البلاغية، التي أراد حضرته الإيماء إليها. فأسلوب الحمل على المعنى شبيه نوعا ما بأسلوب التضمين الذي ذهب البعض فيه إلى أنه يشمل الأسماء أيضا وليس مقتصرا على الأفعال، فيكون بذلك إشراب اسم معنى اسم آخر ومعاملته كمثله ليكون اللفظ شاملا لمعنيين قصدهما الكاتب في نفس الوقت، وما ذلك إلا البلاغة بقمة وأجلى صورها.

ومن أهم ما خلصنا إليه في المقال السابق كانت النقاط التالية:

– والمصادر المؤنثة يجوز أن تُحمل على معنى المذكر، لأنه قد تكون بمعنى مصدر آخر مرادف لها أو بمعنى كلمة أخرى؛ فالحياة قد تُحمل على معنى (البقاء)؛ والوفاة على معنى (الهلاك) و(الموت)، و(الكلمة) على معنى (الكلام)، إلخ.

– يكثر هذا الأسلوب في مسألة عَوْد الضمير على مذكور من قبل، فقد يعود الضمير مذكرا على مؤنث حملا على المعنى وقد يعود مؤنثا على مذكر حملا على المعنى؛ سواء كان ذلك الضمير مما اتصل بالفعل أو غير الفعل.

– كما ويجوز الحمل على المعنى في الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى مؤنث مجازي، كالقول: الشمس طلع، وصيحتك أزعجني. وكنّا في مقال سابق أثبتنا تجويز المدرسة البغدادية لهذا الأسلوب، وعلى رأسهم ابن كيسان، فعندهم يجوز تذكير الفعل للمؤنث المجازي سواء تقدم الفعل عن الفاعل أو تأخر.

– وفي الحمل على المعنى كذلك يجوز تأنيث الفعل إذا كان الفاعل مذكّرا مجازيا، سواء تقدم أو تأخر الفعل عن الفاعل. أي يجوز أيضا أن يعود الضمير الذي يسند إليه الفعل مؤنثا على مذكر مجازي مذكور من قبل ؛ كل هذا كالقول: جاءته كتابي وضاءت الأفق ، والآية:{ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ } (الفرقان 12-13)

– كما ورد الحمل على المعنى في أسماء الإشارة (هذه الصوت) (وذلك الرزية)؛ وفي تأنيث وتذكير الفعل السابق للفاعل (درت عليهم صوبُ) و (ضاءت الأفق)؛ وفي التوابع مثل النعت والوصف كالآية (بلدة ميتا) والشعر (البانة المنفطر)، وفي الحال وصاحبه (تركتني في الدار ذا غربة) بدلا من ذات غربة. وفي خبر المبتدأ كما في الشعر: (العشية باردُ).

النتيجة:

وبناء على كل هذا تتخرج وتُوجه كل عبارات المسيح الموعود عليه السلام والتي ذكر فيها كلمة “حياة”، فهي مصدر واسم مؤنث تأنيثا مجازيا حمَله المسيح الموعود عليه السلام في كل موضع ذكّره فيه على معنى “البقاء” أو “الحيوان” وهي مصادر أخرى تفيد نفس المعنى أي معنى “الحياة”.

فهي تفيد معنى البقاء على غرار ما ذكرناه في المقال السابق نقلا عن ابن الانباري حيث قال في الآية الكريمة :” ….. قال الله عز وجل: (زُين للذين كفروا الحياة الدنيا) فذكر (زين) والحياة مؤنثة على معنى: زين للذين كفروا ” البقاء” ومثله: (قد جاءكم بصائر من ربكم).” {المذكر والمؤنث (2/ 213)}

وهي تفيد معنى “الحيوان” حيث أن “الحيوان” مصدر آخر بمعنى الحياة كما ورد في الآية الكريمة: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (65)} (العنْكبوت 65). ويقر بذلك لسان العرب حيث جاء فيه: “وَفِي التَّنْزِيلِ: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ؛ أَي دارُ الحياةِ الدَّائِمَةِ. … قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الحَياةُ والحَيَوان والحِيِّ مَصادِر،… وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ؛ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْحَيَاةُ.” {لسان العرب}.

نورد فيما يلي الفقرات التي جاءت فيها هذه الكلمة مذكّرة في كلام المسيح الموعود عليه السلام مع تفسير تذكيرها وتشابهه مع بعض الأمثلة التي أوردناها في المقال السابق، ينظر مظاهر الإعجاز 107. علما أننا كنّا قد وجهنا العديد من هذه العبارات وفق توجيهات أخرى، مثل اكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه، وتذكير الفعل المسند إلى مؤنث مجازي، أو تذكير الفعل لوجود فاصل بينه وبين الفاعل المؤنث؛ ولكننا سنتغاضى عن هذه التخريجات لنوجهها الآن كلها وفق الحمل على معنى البقاء أو الحيوان.

(سنتابع العدّ في الجمل التي لم نكن قد شملناها في العدّ في التخريجات السابقة)

الفقرات:

122- الناس لا يعيشون بحياتهم الروحاني من غير وجود هؤلاء السادات. (حمامة البشرى، عام 1893). أسباب التذكير:حمل على معنى: الناس لا يعيشون بحيوانهم/ ببقائهم الروحاني.شبيه بالآية “بلدة ميتا” والشعر” البانة المنفطر” حيث – ذكّر النعت حملا على معنى (البلد) و(الغصن) على التوالي.

123- فما معنى هذا الحديث إلا الحياة الروحاني والرفع الروحاني. (حمامة البشرى) . كسابقه، أي البقاء الروحاني

124- : فأين الحياة الحقيقي؟ (نور الحق). كسابقه، حمل على معنى البقاء الحقيقي أو الحيوان الذي يعني الحياة الحقيقية، فجاء النعت مذكرا.

125- …. رفع عيسى إلى السماوات العُلى بحياته الجسماني لا بحياته الروحاني. (إتمام الحجة) كالسابق

126- بل حياة كليم الله ثابت بنص القرآن الكريم. (حمامة البشرى). حمله على معنى البقاء والحيوان فجاء الخبر مذكرا (ثابت)، كما في المثال من الشعر : .. والعشية باردُ، حملها على معنى العشيّ فذكّر الخبر.

127- إن حياة عيسى ثابت بما قال الحسن البصري. (مواهب الرحمن) كالسابق.

128- أن حياة رسولنا – صلى الله عليه وسلم – ثابت بالنصوص الحديثية. (حمامة البشرى) كالسابق

129- إن حياة عيسى، ليس كحياة نبينا بل هو دون حياة إبراهيم وموسى. (مكتوب أحمد) حمل على معنى البقاء والحيوان فعاد الضمير في (ليس) و (هو) مذكرا ، كما في العديد من الأمثلة في القرآن الكريم والحديث الشريف كمثل: { فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم} (الزمر 50).حمل النعمة على الإنعام. والآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (181) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } (البقرة 181-182) حمل الوصية على معنى (الإيصاء) فأعاد الضمير مذكرا في بدّله، وسمعه، ويبدلونه.

130- فهل تريدون حياة لا نزع بعده ولا رَدَى؟ (حجة الله) كالسابق

أما الفقرات التالية فهي الأخرى تتخرج وتوجه على نفس الأسلوب من الحمل على المعنى في كلمة “الحياة” حيث حملت على معنى “البقاء” أو “الحيوان”؛ كما المثال التالي: تخرّق جُبتُك، فحمله على التجبب. ووافق زيدا محبتُك، حمل المحبة على معنى السرور؛ كما فصلناه في المقال السابق. إلا أننا لن نشملها في العدّ؛ لأننا كنا قد شملناها في توجيهاتنا الأخرى، في تذكير الفعل للفاعل المؤنث المجازي سواء بوجود فاصل بينهما أو عدم وجوده.

  • – فلو فُرض حياة المسيح إلى هذه الأيام للزم أن يكون نبيّنا حيًّا إلى نصف هذه المدة. (حمامة البشرى)
  • – بل يجب لإتمامه حياةُ كفّار بني إسرائيل كلهم من أول الزمان إلى يوم القيامة، ومع ذلك يجب حياة المسيح إلى يوم الدين. (حمامة البشرى)
  • – فمِن أين عُلِمَ حياة المسيح بعد موته الصريح؟ (مكتوب أحمد)
  • – ولا يختلبْكم حياةُ الدنيا وخضراؤها. (دافع الوساوس)
  • – ولا تعجَب من أخبار ذُكر فيها قصة حياة المسيح. (سر الخلافة)
  • – أما يكفي لك حياة الشهداء بنص كتاب حضرة الكبرياء. (سر الخلافة)
  • – ويكون لهم حياةٌ من إبارته. (نور الحق)
  • – ووالله، لن يجتمع حياة هذا الدين وحياة ابن مريم. (الاستفتاء، عام 1907)
  • – فأين حصل له الحياة الحقيقي؟ (حمامة البشرى)
  • – ومُوتوا ليُرَدَّ إليكم الحياةُ أيها الأحباب. (الخطبة الإلهامية)
  • – وذَهَبَ الحياةُ في هوى الذهب. (لجة النور)
  • – ومَن آثر الموت لربّه يُرَدّ إليه الحياة. (تذكرة الشهادتين)

وبذلك نكون قد وجّهنا كل العبارات التي وردت فيها كلمة (الحياة) مذكرة في كلام المسيح الموعود عليه السلام؛ ونسفنا قول المعارضين بأنها نابعة من العجمة وتأثير اللغة الأردية فيها. فهذه الكلمة دليل ساطع وواضح على جهل المعارضين حملة الشهادات العبثية – جهلهم باللغة العربية واتساع أساليبها الفصيحة والبليغة.

لتحميل كتب المسيح الموعود عليه السلام والجماعة من هنا