المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية.. 107

مظاهر التذكير والتأنيث الإعجازية ..7

أساليب الحمل على المعنى في التذكير والتأنيث

ملحوظة: هذا البحث هو مقدمة لما سوف يتبعه من مقالات متعلقة به ومعتمدة عليه في تخريج وتوجيه عبارات المسيح الموعود عليه السلام في التذكير والتأنيث. من يَشق عليه قراءة البحث كله بإمكانه الانتقال مباشرة إلى النتيجة والتلخيص.

الحمل على المعنى في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر:

إن من أساليب التفنن في الكلام وفي اللغة لهو أسلوب الحمل على المعنى؛ وقد صنّفه ابن جني في كتابه الخصائص تحت باب “باب في شجاعة العربية”  وقال عنه ما يلي:

“اعلم أن هذا الشَرْج غور من العربية بعيد، ومذهب نازح فسيح. قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورًا ومنظومًا؛ كتأنيث المذكر، وتذكير المؤنيث، وتصوير معنى الواحد في الجماعة، والجماعة في الواحد، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول، أصلًا كان ذلك اللفظ أو فرعًا، وغير ذلك مما تراه بإذن الله.” {الخصائص (2/ 413)}

ويندرج تحت هذا الأسلوب التذكير والتأنيث حملا على المعنى، فقال عنه ابن جني ما يلي:

“وتذكير المؤنث واسع جدًّا؛ لأنه ردّ فرع إلى أصل. لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والإغراب. وسنذكره.” {الخصائص (2/ 417)}

وقد أسهب الدكتور علي عبد الله العنبكي في كتابه الحمل على المعنى في العربية – أسهب في تفصيل هذا الباب ونقل عن ابن عصفور قوله:

” وتذكير المؤنث أحسن من تأنيث المذكر؛ لأن التذكير أصل، فإذا ذكّرت المؤنث ألحقته بأصله، وإذا أنّثت المذكر، أخرجته عن أصله”.

… والتذكير والتأنيث حملا على المعنى لا يكون إلا في الأسماء المجازية لأن الحقيقية ليس لها معنى ثانٍ فتحمل عليه، قال ابن رشيق القيرواني: ولا يجوز أن تؤنث مذكرا على الحقيقة من الحيوان، ولا أن تذكر مؤنثا”

… وليس مرادنا من الحمل على المعنى في تأنيث المذكر وتذكير المؤنث إلا أن للاسم معنى آخر فيُحمل على ذلك المعنى، أما إذا كان الاسم يُذكر ويُؤنث، أو كانت فيه لغتان، فلا يكون حملا على المعنى، ولذلك قال أبو البركات الأنباري: ” وزعم بعض النحويين أن النفس تذكر وتؤنث فلا يكون الكلام محمولا على المعنى”.

ومما نقله ابن جني من تأنيث المذكر قوله:”حكى الأصمعي عن أبي عمرو، قال:” سمعت رجلا من اليمن يقول:فلان لغوب، جاءته كتابي فاحتقرتها. فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟! قال نعم أليس بصحيفة؟”…

قال ابن جني:” وإذا جاز تأنيث المذكر على ضرب من ضروب التأويل، كان تذكير المؤنث لما في ذلك رد الفرع إلى الأصل أجدر”..” إ.هـ { الحمل على المعنى في العربية ص 203-204}

ومن الأمثلة التي أوردها الدكتور علي عبد الله في كتابه في تأنيث المذكر ما يلي:

  • {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } (الأَعراف 161). حَمَلَ أسباط على معنى أمم أو فرق.
  • {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون 12) حمل الفردوس وهو مذكر على معنى الجنة المونث فأنث الضمير (فيها).
  • { فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } (الأنبياء 13) حمل البأس على معنى الشدة فأعاد الضمير مؤنثا عليه في (منها) على رأي أبي حيان.
  • {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } (الزمر 18) حمل الطاغوت المذكر على معنى الألهة المؤنثة فأنث الضمير العائد عليها في (يعبدوها).
  • {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (12) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (13) } (الفرقان 12-13) حَمل السعير المذكر على معنى النار المؤنثة فأعاد الضمير مؤنثا في (رأتهم) و (لها).
  • في الحديث الشريف:” من صام يوما ابتغاء وجه الله ختم الله له بها دخل الجنة” أنثّ الصوم أو العمل الصالح المقصود من الصوم، على إرادة معنى العبادة فقال (بها).
  • فكان مجنىّى دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبانِ ومعصرُ

حمل شخوص على النسوة فجاء العدد مذكرا وحقّه أن يؤنث (ثلاثة)

  • وإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشرِ

حمل أبطن على معنى القبائل فجاء العدد مذكرا وحقّه أن يؤنث (عشرة)

  • يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوتُ

أنّث الصوت على معنى الصيحة والاستغاثة فأشار إليه بـ (هذه)

  • أجادت وبل مدجنة فدرّت عليهم صوبُ سارية درورا

أنّث (صوب) حملا على معنى الدفعة من المطر فأنث الفعل (درّت)

  • لقوم وكانوا هم المنفدين شرابَهم قبل إنفادِها

أنّث الشراب على معنى الخمر فأعاد الضمير مؤنثا في (إنفادها)

  • وأنت لما ولدتَ أشرقت الــ           أرض وضاءت بنورك الأفقُ

حمل الأفق على معنى الناحية فقال (ضاءت)

  • ألا من مبلغٌ عني خفافا رسولا بيت أهلكَ منتهاها

حمل الرسول على معنى الرسالة فقال (منتهاها) ؛ أو أنثّ لكون صيغة فعول مما يستوي فيه المذكر والمؤنث .

  • وفي الحديث الشريف: {أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ} (صحيح البخاري, كتاب الجنائز) أنّث الضمير في (تقدمونها) وهو عائد إلى الخير المذكر إذ حمله على معنى الرحمة أو الحسنى.

كما ورد تأنيث المذكر حملا على المعنى في لغة الإمام الشافعي في المواضع التالية من رسالته:

  • “ووجدنا عروة يقول: حدثتني عائشة: أن رسول الله قضى أن الخراج بالضمان  فَيُثَبِّته سنَّة، ويروي عنها عن النبي شيئاً كثيراً فيثبتها سنناً يُحِل بها ويحرم.” [الرسالة، 453] ( حمل “شيئا” على معنى الأحاديث فأنّثه وأعاد الضمير عليه مؤنثا في “فيثبتها”).
  • فما أخذت من الخراج والعبدُ في مِلْكي ففيه خصلتان: إحداهما: أنه لم يكن في ملك البائع، ولم يكن له حصة من الثمن، والأخرى: أنها في ملكي، وفي الوقت الذي خرج فيه العبد” [ الرسالة، 557-556] [ذكّر الضمير العائد إلى الخراج أو جزء الخراج الذي ذكره في (ما أخذت)، وقال: فيه/ إنه؛ ثم بعد ذلك أنّث الضمير في “أنها” على تأويل معين. ويعلق أحمد شاكر على هذا التأنيث في هامش نفس الصفحة ويقول مؤكدا له: فإن العرب كثيرا ما تعيد الضمير على المعنى دون اللفظ، والمعنى هنا يحتمل التأنيث بتأوّل].  قد يكون التأويل حمل (الجزء) من الخراج على معنى (الحصة).

ومن الأمثلة على تذكير المؤنث التي أوردها الدكتور علي عبد الله في كتابه ما يلي:

  • {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (9)} (النساء 9) حمل القسمة على معنى المال أو الميراث فأعاد الضمير مذكرا في (منه)
  • {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (12)} (ق 12) حمل بلدة على معنى البلد أو المكان فذكّر (ميتا) النعت.
  • { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ….. بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (الزمر 57-60) حمل النفس المؤنثة على معنى الشخص المذكر فذكّر الأفعال جاءتكَ، وكذبتَ، واستكبرتَ.
  • {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (181) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } (البقرة 181-182) حمل الوصية على معنى الإيصاء فأعاد الضمير مذكرا في بدّله، وسمعه، ويبدلونه.
  • { فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم} (الزمر 50) قال أبو حيان:وذُكّر الضمير في (أوتيتُه) وإن كان عائدا على النعمة، لأن معناها مذكر، وهو الإنعام، أو المال على قول من شرح النعمة بالمال، أو المعنى:شيئا من النعمة، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث فغلب المذكر.
  • {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} (الأَنعام 79) أشار إلى المؤنث بإشارة المذكر، أو حمَله على معنى هذا الشيء، أو الطالع أو الضوء أو المرئي أو الكوكب.
  • { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } (آل عمران 46) حمل الكلمة على معنى الشيء والولد والمولود فقال (اسمه).
  • في الحديث الشريف: {فَجَعَلْنَ يَنْزِعْنَ حُلِيَّهُنَّ وَقَلَائِدَهُنَّ وَقِرَطَتَهُنَّ وَخَوَاتِيمَهُنَّ يَقْذِفْنَ بِهِ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ يَتَصَدَّقْنَ بِهِ } (مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين) ذكر الضمير في (به) لأنه حمل كل ما ذكره من قبل على معنى المال أو الحلي أو الشيء المذكور .
  • قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة       وللسبع خير من ثلاث وأكثر

قال (ثلاثة) وحقها ان تكون (ثلاث) في عدد القبائل إلا أنه حمل القبائل على معنى البطون المذكر الأصل.

  • ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد جاز الزمان على عيالي

قال ثلاثة أنفس وحقها ثلاث أنفس لأن النفس مؤنثة، ولكنه حمل النفس على معنى الشخص أو الإنسان المذكرة.

  • هل تعرف الدار َ يعفيها المور …… لكل ريح فيه ذيل مسفور

ذكّر الضمير في (فيه) وهو عائد على الدار المؤنثة حملا لها على معنى المكان أو البلد.

  • هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي بناقة سعد والعشية باردُ

ذكّر (بارد) وهو خبر للمبتدأ (العشية) حيث حملها على معنى العشيّ.

  • قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامرُ

تركتَني في الدار ذا غربة        قد ذل من ليس له ناصرُ

قال ذا غربة ولم يقل ذات غربة؛ لأن المرأة في المعنى إنسان؛ فحمل على المعنى وذكّر الحال (ذا).

  • قال امرؤ القيس: برهرهةٌ رخصةٌ رودةٌ  كخرعوبة البانة المنفطر

ذكر (المنفطر) وهي نعت البانة إذ حمل البانة على معنى الغصن والقضيب.

  • فذلك يا هند الرزية فاعلمي ونيران حرب حين شب وقودها

أشارت بـ (ذلك) المذكر إلى الرزية وهي مؤنث حملا لها على معنى الرزء.

  • إن السماحة والمروءة ضُمنّا قبرا بمرو على الطريق الواضح

أعاد الضمير مذكرا في (ضُمنّا) وحقها أن تكون (ضمنتا)، إلا أنه ذكّر السماحة حملا لها على معنى السخاء، وذكّر المروءة حملا على معنى الكرم.

إلى هنا نقل الأمثلة من كتاب الحمل على المعنى مع التصرف في الشرح.

تذكير المصادر المؤنثة:

ومما يندرج تحت الحمل على المعنى في التذكير والتأنيث حمل المصدر المؤنث على معنى المذكر، وذلك لأن المصادر المؤنثة تأنيثها مجازي وليس حقيقيا، وفي هذا يقول الدكتور علي عبد الله في كتابه الحمل على المعنى ما يلي:

تأنيث المصدر تأنيث مجازي؛ لأنه يدل على معنى مجرد كما أنه قد يدل على مصدر آخر مرادف له؛ ولذلك جاز في الفعل الذي يتقدمه التانيث والتذكير، على اللفظ وعلى المعنى ((فمن انّث أخرج الكلام على اللفظ ومن ذكّر ذهب إلى تذكير المصدر)).

قال أبو بكر ابن الانباري:((وتقول: قد تخرقت جبتك، وقد تخرق جبتك . فمن أنث قال: أنث الفعل لان الجبة مؤنثة ، ومن ذكر قال: الجبة في معنى التجبب، وكذلك تقول : وافقتْ زيدا محبتُك، ووافق زيدا محبتُك. فمن أنّث قال:هو المحبة والمحبة فيها علامة التأنيث، ومن ذكر الفعل قال:المحبة مصدر والمصادر ليس تأنيثها حقيقيا فحمله على معنى وافق زيدا سرورك)). (يُنظر الحمل على المعنى ص 178-180)

وذكَر نفس المصدر الأمثلة التالية على تذكير المصدر :

  • من القرآن الكريم (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)، فالصيحة بمعنى الصياح
  • والآية  (فمنْ جاءه موعظةٌ) فالموعظة بمعنى الوعظ

فحاصل الكلام أن المصادر المؤنثة يمكن تذكيرها حملا على المعنى فيُذكر الفعل الذي يسبقها تبعا لذلك . إلا أن ابن الأنباري لا يكتفي في تذكير الفعل السابق للفاعل، بل أيضا يؤكد إمكانية تذكير الفعل التالي المسند إلى ضمير يعود إلى هذه المؤنثات المجازية.

تذكير الفعل المسند إلى ضمير يعود إلى مؤنث مجازي أي عود الضمير مذكرا إلى مؤنث مجازي:

ومما ذكره ابن الأنباري في كتابه “المذكر والمؤنث” في الحمل على المعنى ما يلي:

“وكذلك يقال: أعجبتْ زيداً كلمتُك، وأعجب زيداً كلمتُك،…ومن ذكّر الفعل أخرجه على المعنى؛ لأن معنى الكلمة الكلام،…

….: (ولا يقبل منها شفاعةٌ)، فقرأت العوامُّ بالتذكير على معنى: ولا يُقبلُ منها شفعٌ، ….. قال الله عز وجل: (زُين للذين كفروا الحياة الدنيا) فذكر (زين) والحياة مؤنثة على معنى: زين للذين كفروا البقاء ومثله: (قد جاءكم بصائر من ربكم). {المذكر والمؤنث (2/ 212) المذكر والمؤنث (2/ 213)}

ثم يقول ابن الأنباري ما يلي:

“وإذا تأخر الفعل بعد هذه الأشياء أُنّث وقَبُح تذكيره؛ كقولك: ضَرْبتُك أوجعتني، وصيحتُك أفزعتْني، ويجوز أنْ تذكِّر الفعل حملاً على المعنى، فتقول: ضرْبتُك أوجعَني، وصيحتُك أفزعَني.

وإنما صار التأنيث أجود؛ لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنى من الاسم فاستقبحوا أن يُضمروا مذكرا، وقبله مؤنثٌ. والذين استجازوا ذلك قالوا: نذهب إلى المعنى، وقالوا: هو في التقديم والتأخير سواءٌ. ... “{المذكر والمؤنث (2/ 213- 214)}

وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه في مقال سابق من جواز تذكير الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى مؤنث مجازي كما أقره ابن كيسان؛ إلا أن ابن الأنباري يؤكد ذلك من باب الحمل على المعنى فيجُوز القول: الشمس طلع؛ حملا للشمس على معنى الكوكب .

عود الضمير مذكرا أو مؤنثا حملا على المعنى في غير الفعل:

وكثيرا ما يأتي الحمل على المعنى عند عود الضمير على مذكور قبله ؛ كما رأينا في الكثير من الأمثلة الآنفة الذكر، وعن هذا أفرد ابن مالك في كتابه شواهد التوضيح بابين خاصين جاء فيهما:

“ومنها قول النبي – صلى الله عليه وسلم – “أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليها، إن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (صحيح البخاري)

قلت: موضع الإشكال في هذا الحديث  قوله “فخير تقدمونها إليها” فأنث

الضمير العائد على “الخير” وهو مذكر. فكان ينبغي أن يقول: فخير تقدمونها إليه.

لكن المذكّر يجوز تأنيثه إذا أوِّل بمؤنث، كتأويل “الخير” الذي تُقدم إليه النفس الصالحة بالرحمة أو بالحسنى أو باليسرى، كقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} (607)، وكقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (608).

ومن إعطاء المذكر حكم المؤنث باعتبار التأويل قول النبى – صلى الله عليه وسلم – في إحدى الروايتين (فإن في إحدى جناحيه دواءً والأخرى داء) (صحيح البخاري).

والجناح مذكر، ولكنه من الطائر بمنزلة اليد، فجاز تأنيثه مؤولًا بها.

ومن تأنيث المذكر لتأويله بمؤنث قوله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فأنث عدد الأمثال وهي مذكرة لتأويلها بحسنات….

ومن إعطاء المذكر حكم المؤنث بمجرد التأويل ما روى أبو عمرو  من قول رجل من اليمن (فلان لغوب جاءته كتابى فاحتقرها). قال: فقلت: أتقول: جاءته كتابي؟! قال: نعم، أليس بصحيفة.” شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص: 143- 145)

تأويل الواحد بمعنى الجمع ومعاملته كمثله :

ثم تابع ابن مالك قوله كما يلي:

“ومنها قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (ما العملُ في أيام أفضلَ منها في هذه الأيام) (صحيح البخاري)

قلت: في هذا الحديث اشكال من جهتين:

إحداهما- عود ضمير مؤنث في “منها” إلى “العمل” وهو مذكر….

فأما الأول فوجهه أن الألف واللام في “العمل”لاستغراق الجنس، فصار بهما فيه عموم مصحح لتأوله بجمع، كغيره من أسماء الأجناس المقرونة بالألف واللام الجنسية. ولذلك يستثنى منه، نحو {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ويوصف بما يوصف به الجمع، كقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}. وكقول بعض العرب (أهلك الناس الدرهمُ البيض والدينار الحمر).

فكما جاز أن يوصف بما يوصف به الجمع لما حدث فيه من العموم كذلك يجوز أن يعاد إليه ضمير كضمير الجمع، فيقال: الدينار بها هلك كثير من الناس؛ لأنه في تأويل الدنانير. و (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام)؛ لأنه في تأويل الأعمال.

ويجوز أن يكون أنث ضمير “العمل” لتأويله بـ” حسنة” كما أول “الكتاب” بصحيفة من قال: (أتتة كتابى)” {شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص: 176- 177)}

 الحروف والألفاظ والأدوات

ومما يشيع فيه الحمل على المعنى هو الحروف والالفاظ والأدوات مثل (الكاف) و كلمة (البنت) وأداة الشرط (كيفما)، فإذا قصد بها اللفظ أو الحرف حملت على معنى المذكر، أما إذا قصد بها معنى الكلمة أو اللفظة أو الأداة حملت على معنى المؤنث فنقول:

الكاف  مكتوب: على معنى  حرف الكاف أو لفظ الكاف مكتوب. و(الكاف) مكتوبة أي كلمة الكاف مكتوبة.

(البنت) مكتوب: على معنى لفظ (البنت) مكتوب. و(البنت) مكتوبة: على معنى كلمة أو لفظة (البنت) مكتوبة.

(كيفما) مكتوب: أي لفظ (كيفما) مكتوب. و(كيفما) مكتوبة: بمعنى لفظة أو اداة او كلمة (كيفما) مكتوبة.

وقد نقل الدكتور على عبد الله عن عن سيبويه قوله في هذه الأمور : (فالعرب تختلف فيها يؤنثها بعض ويذكرها بعض) كما ونقل عن ابن عصفور قوله: :(وأما لحروف فتذكر وتؤنث فإن ذهبت بها إلى الحرف ذكرت وإن ذهبت بها إلى الكلمة أنثت، والغالب عليها التأنيث)(ينظر: الحمل على المعنى في العربية ص 202-203)

نتائج وخلاصة البحث:

  • أسلوب الحمل على المعنى هو أسلوب فاش في اللغة العربية ويعد من أساليب التفنن في الكلام والشجاعة في اللغة، فقد صنفه ابن جني في شجاعة العربية.
  • يندرج تحت هذا الأسلوب أيضا الحمل على المعنى في التذكير والتأنيث.
  • هذا الأسلوب وارد في الكلام الفصيح وفي القرآن الكريم وفي النثر والشعر على السواء.
  • ومنه حمل الفرع على الأصل وردّه إليه، وهو الأجود كتذكير المؤنث. أو ردّ أصل إلى فرع وحمله عليه كتأنيث المذكر وهو أقل شيوعا واستحسانا.
  • لذا، فتذكير المؤنث واسع وشائع في اللغة واكثر من تذكير المؤنث وأحسن منه، لانه رد فرع إلى أصل بينما الثاني رد أصل إلى فرع.
  • الحمل على المعنى لا يكون إلا في الأسماء المجازية وليس فيما هو مذكر ومؤنث حقيقة؛(أي ليست ما ذكر وأنث من الحيوان).
  • يُقصد بالحمل على المعنى في التذكير والتأنيث أن يكون للكلمة معنى آخر تُحمل عليه، وليس بأن تكون الكلمة نفسها تستعمل للمذكر والمؤنث، فإذا كانت الكلمة تستعمل للمذكر والمؤنث أو فيها لغتان فلا يكون فيها حمل على المعنى. هذا رغم أن هذا الأمر ليس دقيقا، فقد وجدت اختلافا بين النحاة في هذا الصدد؛ فمنهم تراه يحمل على المعنى حتى في الكلمات التي تعتبر ذات لغتين مثل شخص ونفس.
  • من الأمثلة الواردة في التذكير والتانيث حملا على المعنى؛ تأنيث الكتاب حملا له على معنى الصحيفة. وتانيث والرسول على معنى الرسالة.
  • رأينا من الأمثلة العديدة أن هذا الأسلوب فاش في القرآن الكريم كالآيات: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } (الزمر 18) و الآية: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون 12)
  • كما رأينا ورود هذا الأسلوب في الحديث الشريف كما في الأحاديث التالية:” من صام يوما ابتغاء وجه الله ختم الله له بها دخل الجنة” (صحيح البخاري)؛ أنّث الصيام أو العمل حملا على معنى الحسنة، و ” {أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ} (صحيح البخاري, كتاب الجنائز) إذ أنّث (الخير) فقال (تقدمونها) حملا له على معنى الحسنة؛ والحديث (فإن في إحدى جناحيه دواءً والأخرى داء” (صحيح البخاري)؛ أنّث الجناح فقال (إحدى) حملا على معنى اليد؛ والحديث “ما العملُ في أيام أفضلَ منها في هذه الأيام” (صحيح البخاري)؛ أنّث العمل حملا على معنى الحسنة، أو حملا على معنى ا(لأعمال) بالجمع لأنه معرف بأل الجنسية التي تفيد استغراق الجنس، وهو بمعنى الجمع كأسماء الجنس الأخرى التي يجوز فيها التذكير والتأنيث دائما.
  • يكثر هذا الأسلوب في مسألة عود الضمير على مذكور من قبل، فقد يعود الضمير مذكرا على مؤنث حملا على المعنى وقد يعود مؤنثا على مذكر حملا على المعنى؛ سواء كان ذلك الضمير مما اتصل بالفعل أو غير الفعل.
  • كما ويجوزالحمل على المعنى في الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى مؤنث مجازي، كالقول: الشمس طلع، وصيحتك أزعجني. وكنّا في مقال سابق أثبتنا تجويز المدرسة البغدادية لهذا الأسلوب، وعلى رأسهم ابن كيسان، فعندهم يجوز تذكير الفعل للمؤنث المجازي سواء تقدم الفعل عن الفاعل أو تأخر.
  • وفي الحمل على المعنى كذلك يجوز تأنيث الفعل إذا كان الفاعل مذكّرا مجازيا، سواء تقدم أو تأخر الفعل عن الفاعل. أي يجوز أيضا أن يعود الضمير الذي يسند إليه الفعل مؤنثا على مذكر مجازي مذكور من قبل ؛ كل هذا كالقول: جاءته كتابي وضاءت الأفق ، والآية:{ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ } (الفرقان 12-13)
  • كما ورد هذا الأسلوب في باب العدد، حيث يؤنث ويذكّر العدد حملا على المعنى. كالآية : {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } (الأَعراف 161). والآية: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (الأَنعام 161)
  • كما ورد الحمل على المعنى في أسماء الإشارة (هذه الصوت) (وذلك الرزية)؛ وفي تأنيث وتذكير الفعل السابق للفاعل (درت عليهم صوبُ) و (ضاءت الأفق)؛ وفي التوابع مثل النعت والوصف كالآية (بلدة ميتا) والشعر (البانة المنفطر)، وفي الحال وصاحبه (تركتني في الدار ذا غربة) بدلا من ذات غربة. وفي خبر المبتدأ كما في الشعر: (العشية باردُ).
  • قد يحمل المعنى على معنى الشيء أو الشيء المذكور كما في: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي. أو إذا حوى الشيء مذكرا ومؤنثا غلّب أحدهما على الآخر، مثلا :(النعمة) قد تحوي مذكرا كالمال أو مؤنثا كالسعة والرفاهية فيغلّب أحدهما على الآخر في الحديث عن النعمة .
  • والمصادر المؤنثة يجوز أن تُحمل على معنى المذكر، لأنه قد تكون بمعنى مصدر آخر مرادف لها أو بمعنى كلمة أخرى؛ فالحياة قد تُحمل على معنى البقاء؛ والوفاة على معنى الهلاك والموت، والكلمة على معنى الكلام إلخ.
  • ويُحمل على المعنى في الألفاظ والحروف والأدوات فتذكّر على معنى اللفظ أو الحرف، وتؤنث على معنى الكلمة أو اللفظة أو الأداة، فنقول :

الكاف  مكتوب: على معنى:  حرف الكاف أو لفظ الكاف مكتوب. و(الكاف) مكتوبة أي كلمة الكاف مكتوبة.

(البنت) مكتوب: على معنى لفظ (البنت) مكتوب. و(البنت) مكتوبة: على معنى كلمة أو لفظة (البنت) مكتوبة.

(كيفما) مكتوب: أي لفظ (كيفما) مكتوب. و(كيفما) مكتوبة: بمعنى لفظة أو أداة أو كلمة (كيفما) مكتوبة.

  • ويجوز في كل جمع ( وفق المذهب الكوفي كما أسلفنا في مقال سابق) لا سيما جموع التكسير – أو كل ما هو بمعنى الجمع، كاسم الجنس الجمعي ( وهو ما يفرق بينه وبين مفرده بالتاء، أي إذا لحقته التاء دل على مفرد مثل شجر /شجرة، بقر /بقرة ) واسم الجمع (وهو ما لا واحد له من لفظه مثل قوم وذود) أن يُذكّر على معنى الجمع وأن يُؤنّث على معنى الجماعة .
  • كما ويجوز تأويل المفرد على معنى الجمع ومعاملته كمثله في جواز تذكيره وتأنيثه، وذلك في اسم الجنس المعرف بأل الجنسية التي تفيد استغراق الجنس (مثل العمل: أي كل عمل/ الأعمال، والمرأة: أي كل امرأة/ النسوة) فيجوز تذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة.

في المقالات التالية سنرى انطباق كل هذه النتائج على فنون التذكير والتأنيث الإعجازية عند المسيح الموعود عليه السلام