خطبة الجمعة   

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام

يوم 14/09/2018

في بلجيكا بمناسبة الجلسة السنوية هنالك

*****

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.

بفضل الله ﷻ تبدأ اليوم الجلسة السنوية للجماعة الإسلامية الأحمدية في بلجيكا. إنني أشارك في جلستكم بعد مدة طويلة، وخلال هذه الفترة الماضية قد ازداد عدد أفراد هذه الجماعة أيضا بفضل الله كفروع الجماعة الأخرى في العالم، إذ قد وصل إلى هنا مهاجرون جدد كثر من باكستان. وإضافة إلى ذلك حصل التقدم في مجالات أخرى كثيرة أيضا، إذ قد ازداد عدد مراكز الجماعة وكذلك عدد المساجد ومراكز الصلاة. فمسجدنا في بروكسل على وشك اكتمال بنائه، فهو مسجد جيد. وقبل الأمس افتتحتُ المسجد في “هالكن”، فقد وهب الله ﷻ للجماعة مبنىً كبيرا ذا مساحة واسعة. ففي الظاهر نرى أن أفضال الله الكثيرة نزلت على الجماعة. فهذه الأفضال يجب أن تولِّد في أبناء الجماعة الإحساس بأن يتقدموا أكثر في استيعاب أوامر الله ﷻ والاستجابة لها والعمل بها في الحقيقة وليس في الظاهر فقط. وليس ذلك فحسب بل يجب أن لا نتوقف في مكان واحد، بل ينبغي أن تكون كل خطوة لنا متقدمة على سابقتها وكل يوم متقدما على سابقه في الصلاح والتقوى والسعي لتحقيق الهدف من بعثة المسيح الموعود ؏ وتتراءى هذه الخطوة أسرع من ذي قبل، حيث يجب أن نتغلب على سيئاتنا ونقطع أشواط التقدم على درب الحسنات. وإذا تراءى هذا الأمر في أبناء الجماعة فيمكن أن نقول أننا حققنا الهدف من بعثة المسيح الموعود ؏ أو نسعى لذلك ونجتهد لتأدية حق بيعتنا للمسيح الموعود ؏.

فإدراكا لهذا الأمر ثمة حاجة إلى فحص نفوسنا كل حين وآن. ولا سيما في هذه البلاد المتقدمة والمتحررة من أحكام الله والالتزامات الدينية باسم الحرية، حيث لا اهتمام بالاستجابة لأحكام الدين، أو الاستجابة لأوامر الله ﷻ. ففي هذه البلاد ثمة حاجة ماسة إلى الاهتمام وبذل الجهود بشكل خاص، وإلا فإن عدمَ المبالاة بأوامر الله ﷻ والانغماسَ في السعي لنيل مكاسب مادية بعد المجيء إلى هذه البلاد باسم الدين يجعل الإنسان مورد غضب الله ﷻ. فقد جاءت غالبية المهاجرين إلى هنا باسم الدين، إذ أتيتم إلى هنا لأن في بلادكم لم يكن العمل بالدين بحرية مسموحا لكم. فيجب أن تضعوا هذا الأمر في الحسبان دوما، وإن لم تتذكَّروا أنكم إذا لم تستجيبوا لأوامر الله بعد المجيء إلى هنا باسم الله والدين فهذا الأمر يمكن أن يجلب عليكم غضب الله. لكن الإنسان ضعيف وبسبب هذا الضعف يميل إلى الدنيا، وليكن معلوما أن الاهتمام بالدنيا وكسْبها لحد ما ليس إثما، وإنما نهاكم الله ﷻ عن التكالب عليها كأهل الدنيا. وهذا الموضوع قد وضَّحه لنا سيدنا المسيح الموعود ؏ بالتفصيل،  فقد قال حضرته ؏ في موضع:

لقد أجاز الله مشاغل الدنيا، أي أن الانشغال في أعمال الدنيا جائز ولا حرج فيه، لأنه إن لم تكن هذه الأعمال لدى الإنسان يتعرض لابتلاء أيضا، مما يدفعه إلى السرقة والقمار والاحتيال وقطع الطرق، ويمارس شتى العادات السيئة. لكنْ لكل شيء حد. فانشغلوا في أعمال الدنيا لحد يخلق لكم وسائل العون والنصر في سبل الدين، ويكون الدين وحده مقصودا بالذات، فنحن لا نمنع من المشاغل المادية. فليس من الممنوع أن ينشغل المرء في أعمال الدنيا بشرط أن يكون هدفُه هو الدين فقط. فهذا هو المبدأ الأساسي لمن يصف نفسه بأنه عاملٌ بدين الله، أي اكسبوا الدنيا وهيِّئوا الوسائل لسد الحاجات اليومية ووفِّروا نفقات أهلكم وأدُّوا واجباتكم العائلية. فهي من مسؤوليتكم ومن أجل ذلك لا بد من التوظف والانشغال في أعمال مادية، لكن حذار أن يجعلكم هذا العمل والتجارة والوظيفة منهمكين في كسب المال ومنغمسين في ذلك حتى لا يبقى لكم أي اهتمام بالدين، ويكون جلُّ اهتمامكم منصبًّا على كسب الدنيا. فاكسبوا الدنيا لأن الله ﷻ قد أمر بأداء حقوق الزوجة والأولاد، وأداءِ حقوق خلْق الله وخدمةِ دين الله ﷻ. وإذا كان هذا الهدف نصب أعينكم فسوف تفوزون بالدنيا والدين أيضا. وقال ؏ أيضا: حذار أن تنهمكوا في أعمال الدنيا وتجارتها ليلَ نهار حتى تسلِّموا إلى الدنيا حقَّ الله أيضا، أي حذار أن تهملوا حقَّ الله الواجب عليكم في مشاغل الدنيا. وإذا كان أحد يقوم بذلك فهو يهيئ أسباب الحرمان لنفسه، ويبقى على لسانه ادعاءٌ محض، فإذا انغمستم في كسب الدنيا فقد حُرمتم من الدين. ومن ثم إذا حرمتم من الدين كان ادعاؤكم الدين والبيعة والإيمان بالله ادعاءً محضا لا أكثر، ولا دليل عليه. إذا تقدمنا إلى الدنيا أكثر وانغمسنا في كسبها فسندَّعي باللسان فقط أننا أحمديون بينما ستكون أعمالُنا هي نفس أعمال الآخرين.

ثم يقول في موضع آخر موضِّحا أكثرَ أن الهدف من الحصول على الدنيا ينبغي أن يكون الدين: لقد منع الإسلام الرهبانية لأن ذلك عمل الجبناء. كلما تكون علاقات المؤمن مع الدنيا واسعة تكون مدعاة لنيله مراتب عليا لأن غايتها المتوخاة هي الدين فقط. وتكون الدنيا ومالُها وجاهُها خادمة للدين. (أي أن الدنيا والصيت والمكانة والثروة التي يفوز بها المؤمن في الدنيا لا تجعل المؤمن يُظهر حبه لها، بل تبقى كل هذه الأمور تُستخدَم بصفتها خادمة الدين، وتكون مكانته ومرتبتُه لمصلحة الدين وتكون ثروته أيضا من أجل الدين) ومفهوم ما قاله حضرته أن الثروة مطية يبلغ بها المرء أسمى محطات الدين، وهي الزاد الذي يأخذه المرء لسهولة سفره، فهو يحصل على مطية جيدة ووسائل تسهيل السفر لكي يصل إلى غايته المتوخاة بسهولة. فهكذا ينبغي أن تحصلوا على الدنيا وتستخدموها بحيث تكون خادمة الدين، لا أن تكونوا أنتم خدامها تاركين الدين.

قال حضرته ؏ في موضع آخر:

لقد علّم الله تعالى دعاء: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)، ففيه أيضا قدّم الدنيا، ولكن أية دنيا؟! المراد هنا هي حسنة الدنيا التي تكون مدعاة لحسنات الآخرة، يُفهم من تعليم هذا الدعاء بصراحة تامة أن على المؤمن أن يهتم بحسنات الآخرة في حصوله على الدنيا، وإلى جانب ذلك تضمنت كلمة حسنة الدنيا كافة الوسائل المثلى التي يجب على المؤمن أن يختارها للحصول على الدنيا، أي يجب أن تختاروا لنيل الدنيا كل أسلوب فيه الخير والبركة وليس الذي يؤدي إلى إيذاء الآخرين وألا يكون حاويا العار والشنار بين جَلدته، فلا شك أن دنيا كهذه ستكون مدعاة لحسنة الآخرة.

إذن يجب أن يسعى كل واحد منا لأن يكسب الدنيا التي تُنيله حسنات الآخرة، لا أن ينغمس في مغريات هذه الدنيا وينسى غايته المتوخاة، وينال في الآخرة غضب الله بدلا من الحسنات.

ثم إن أهواء الدنيا وملذاتها تزيد الإنسانَ قلقا واضطرابا، يظن الإنسان أنه نال راحة في الدنيا ولكنها لا تكون راحة بل هي قلق واضطراب، يقول المسيح الموعود ؏ في شرح هذا الأمر:

“لا تظنوا أن الثروة الظاهرية أو الحكومة أو المال أو العزة أو كثرة الأولاد يمكن أن تكون مَدعاة للسعادة أو الاطمئنان أو السكينة لأحد ويكون هذا الشخص في جنة حاضرة. (كأنه في الجنة أو نال الجنة) كلّا، الطمأنينة والقناعة والسكينة التي هي من إنعامات الجنة لا تُنال بهذه الأمور، بل تتسنى نتيجة الحياة والممات لوجه الله، والتي وصّى بها الأنبياء عليهم السلام أيضا وخاصة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام قائلين: (فَلَا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). (أي يجب أن تطيعوا الله تعالى كل حين لأنكم لا تدرون متى تموتون فاحذروا أن تموتوا وأنتم لستم في طاعة الله تعالى) قال ؏: إن ملذات الدنيا تخلق أطماعا دنيوية نجسة وتزيد النهم والظمأ، فلا يخمد ظمأهم وذلك كظمأ المصاب بمرض الاستسقاء حتى يهلكوا. (لا يُروَى ظمأ مريض الاستسقاء فيظل يشرب الماء دون أن يرتوي حتى يموت) إذًا، إن نار الأماني والحسرات غير الـمبـررة إنما هي نار جهنم التي لا تسمح بأن يستقر لقلب الإنسان قرار بل تتـركه قلقا وهائما في نوع من التذبذب والاضطراب. لذا يجب ألا يغيب عن أنظار أحبائي أبدًا أنه يجب على الإنسان ألا يُجَنَّ جنونه ويفقد صوابه في حب المال والثروة ونشوتها أو في حب الزوجة والأولاد بحيث يُضْرَب بينه وبين الله حجاب.

أيْ لو انغمس الإنسان في الدنيا ومتاعها أكثر من اللازم فينشأ حجاب أو عائق بينه وبين الله تعالى، فلا يتقدم العبد إلى الله تعالى ولا اللهُ إلى العبد، إن الله ﷻ قال لو سعى العبد أولا ليتقدم إليّ لتقدمتُ إليه كما ورد في الحديث: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. (صحيح البخاري، كتاب التوحيد) فلو أردنا إزالة هذا الحجاب والعائق فلا بد من جعل الدنيا تابعةً للدين.

قال ؏ مستطردا: يُعَدُّ المال والأولاد فتنة لأنهما يحولان بين العبد وربه، أي يتسبب المال والأولاد أيضا في خلقِ جهنم للإنسان. فعندما يُفصَل عنهما يُبدي قلقا واضطرابا شديدين…

قال ؏: من المعلوم أن الحرارة تتولد باجتماع شيئين واحتكاكهما (إذا حك المرء يدَيه أو حك حجرين معا نشأت الحرارة) كذلك يحتـرق حب الله نتيجة احتكاك حب الإنسان وحب الدنيا (لو احتك حب الإنسان وحب الدنيا فماذا ستكون النتيجة؟ سيحتـرق حب الله تعالى ويتلاشى) ويسودّ القلب ويبتعد عن الله تعالى ويصبح عرضة لكل نوع من الضياع.

ولكن لو كانت علاقة الإنسان مع الأشياء الدنيوية تابعة لعلاقته مع الله تعالى وكان حبها تابعا لحب الله تعالى (أي لو أن المرء لا ينسى ربه، فلو أحب متاع الدنيا كان ذلك الحب أيضًا لله لأنه ﷻ أجاز له حبها إلى حد ما، قال ؏) لاحتـرق حب غير الله بسبب احتكاكهما، وحل محله ضياء ونور، ولأصبح رضا الله رضا الإنسان وصار رضا الإنسان مشيئة الله تعالى… قال ؏: أما ما كان من حالة الإنسان على عكس ذلك فهو جهنم، أي أن العيش بعيدا عن الله نوع من الجحيم أيضا.

قال ؏: يريد الله تعالى منكم أن تصبحوا مسلمين بكل معنى الكلمة، تدل كلمة المسلم على أن يكون الانقطاع تاما، أيْ يجب أن تميلوا إلى الله تعالى كلّيا، وليس أن تميلوا إلى الله ثم إذا رأيتم منفعة دنيوية مِلْتم إليها ونسيتم الله تعالى.

قال ؏: إن الله تعالى غمر المسلم بأفضال لا متناهية بخلْقِه مسلمًا شريطة أن يتأمل ويفهم. كما قلتُ إن الإنسان ضعيف ففي بعض الأحيان تجذبه أهواء الدنيا، فيميل إليها أكثر ويغفل عن الله تعالى وعن دينه، أو يبدي ضعفا في بعض أعماله ولا يضع أمامه جميع أحكام الله تعالى كما يجب ولا يؤدي الحقوق الواجبة عليه مثل حقوق الزوجة وحقوق الأولاد، ويختلق مشاكل عائلية أو يتنازع في البيت أو لا يشتغل بأمانة، أو يتـرك الصلوات بسبب عمله وتجارته وهكذا أمور كثيرة، ولكن الله تعالى هيأ أسبابا لإنقاذ الإنسان من هذه التقصيرات، ونحن الأحمديين محظوظون إذ وفقنا الله تعالى للإيمان بالمسيح الموعود ؏ الذي يوجهنا مرارا وتكرارا في مناسبات مختلفة ليُنقذنا من أن نضلَّ الطريق. ثم أنشأ ؏ بأمر من الله تعالى نظام عقد الجلسات السنوية أيضا حيث نجتمع مرة واحدة في السنة لكي نسعى لتطوير روحانيتنا، لذا ينبغي على كل من يشترك في الجلسة أن يضع أمامه هدف الجلسة وهو أن نقتـرب من الله تعالى، ونُقدّم الدين على الدنيا ونجعل الدنيا خادمةً للدين مع عيشنا فيها. ولا تُنشؤوا هذه الروح في أنفسكم فقط بل انفخوها في أولادكم أيضا ليعرفوا ماذا يريد الله تعالى منا وما هي الغاية من الحياة الإنسانية؟ ورسّخوا في قلوب أولادكم نسلا بعد نسل أن عليهم السعي للعمل بأحكام الله تعالى لكي يجعلوا الدنيا خادمة للدين، وفي هذا الزمن الأخير غمرنا الله تعالى بفضله إذ أرسل لإصلاحنا المسيح الموعود والمهدي المعهود، وبعد مبايعته يجب أن نعمل بتعاليمه دوما ففيها بقاؤنا وبقاء أجيالنا. يقول المسيح الموعود ؏ وهو يبين هذا الهدف:

“فليتضح لجميع المخلصين الداخلين في بيعة هذا العبد الضعيف أن الهدف الحقيقي من البيعة هو أن يفتُر حبُّ الدنيا ويستولي على القلوب حبُّ الله ﷻ وحبُّ الرسول الأكرم ﷺ وتتيسر لهم حالة من الانقطاع التام عن الدنيا حتى لا يعود السفر إلى الآخرة مكروها لديهم، (الحكم السماوي- الخزائن الروحانية ج4)

فما لم يكن حب المرء لله ولرسوله كاملا لا يمكن أن يقل حبه للدنيا ولا يمكن أن ينال راحة القلب عند موته كما لا يمكن أن يزول القلق عند الموت، هذا هو الهدف الذي من أجله أقام الله تعالى هذه الجماعة بواسطة المسيح الموعود ؏ ووفقنا للانضمام إليها وهذا هو الهدف الذي من أجله أخذ المسيح الموعود ؏ منا البيعة، ووضَّح للمبايعين هذا الهدف، وإذا لم نكن ساعين لنيل هذا الهدف فدعاوينا البيعة ليست إلا مجرد دعاوى، وفي الحقيقة لم نعرف المسيح الموعود ؏ ولم نؤمن به ولم نؤدِّ حق البيعة.

عندما بدأ انعقاد الجلسات السنوية في زمن المسيح الموعود ؏ وتبين له ذات مرة أن الناس لا يحققون الهدف منها، فأبدى حضرته ؏ سُخطا وقال أنه لن يعقد الجلسة تلك السنة. فيجب أن يجعل إعلانه ؏ لإلغاء الجلسة ذلك العام كلَّ أحمدي مخلص اليوم أيضا قلقا ومضطربا. قال ؏ في تلك المناسبة:

“الغرض والهدف الحقيقي من هذا الاجتماع هو أن يُحدِث أبناءُ جماعتنا في نفوسهم باللقاءات المتكررة، بشكل من الأشكال، تغييرا حتى تميل قلوبهم إلى الآخرة ميلا كاملا، وتنشأ فيها خشية الله تعالى. ويكونوا أسوة حسنة للآخرين في الزهد والتقوى وخشية الله والورع ورقة القلب، والحب المتبادل والمؤاخاة. وأن ينشأ فيهم التواضع والانكسار والصدق، وليتحمسوا للمهمات الدينية”.

وقال أيضا: “إن هذه الجلسة ليست مما لا بد من الاهتمام به وعقده كمهرجانات دينوية، بل إن عقدها يقتصر على حسن النية وحسن الثمار وإلا فلا معنى لها”. أي إن لم تكن النية صحيحة ولا ننال ثمارا حسنة ولا نحقق الأهداف من وراء عقدها فلا معنى ولا جدوى منها. لقد قال ؏ أن يُحدِث أبناءُ جماعتنا في نفوسهم تغييرا باللقاءات المتكررة، ما المراد من اللقاءات هنا؟ المراد هو لقاء الإخوة مع المسيح الموعود ؏. فإذا صار بعض الناس محل سخط المسيح الموعود ؏ في ذلك الزمن بسبب نقاط الضعف فيهم، فالله وحده أعلم بحالنا وكم منا يدخلون في زمرة الذين سخط المسيح الموعود ؏ عليهم! فيجب على كل واحد منا أن يفحص نفسه من هذا المنطلق أيضا وليعلم أنه إن لم يكن على المستوى الذي توقَّعه المسيح الموعود ؏، فهل يحق له الاشتراك في الجلسة أصلا أم لا؟! فإذا كان بعضكم يشترك فيها فقط لأنه أحمدي ولادةً، أو هو أحمدي قديم لأنه قد مرت على بيعته مدة طويلة، أو هو من أولاد الأحمديين الصالحين، فهو لا يحقق الهدف من الجلسة الذي يريده منا سيدنا المسيح الموعود ؏. كذلك إن لم يحضرها ناويا أنه سيبذل قصارى جهوده ومواهبه لتحقيق أهداف الجلسة، ولم يعقد العزم على ذلك، فإن مَثل حضوره الجلسة ليس إلا كمَثل حضوره مهرجانا دنيويا. فيجب على كل أحمدي أن يضع هذا الأمر في الحسبان دائما.

في الأيام الراهنة تُعقد الجلسات كل عام في بلاد مختلفة في العالم، أشترك في بعضها شخصيا، كما أشترك في بعضها الأخرى عبر ايم تي ايه. وإن كثيرا منكم يشتركون في بعض الجلسات المنقعدة في بلاد أوروبية، ويجلس أمامي الآن أيضا بعض من حضروا عدة جلسات. وهناك كثير من الجالسين أمامي الآن قد جاءوا إلى هناك بعد حضورهم جلسة ألمانيا. في كل جلسة تُلقى الخطابات حول أهدافها وعن كيفية الحصول على التقدم الديني والعلمي والروحاني. ثم يكتب إليّ كثير من المشتركين أن أجواء الجلسة كانت مليئة بالروحانية، ورأينا فيها مشاهد روحانية ومشاهد الحب والأخوة المتبادلة. وبعضهم يكتبون أن الضيوف غير الأحمديين الذين كانوا معهم قد عادوا متأثرين جدا من الأجواء المحيطة بالجلسة. فبسبب هذه الأمور وبسبب الاشتراك في أكثر من جلسة خلال العام يجب أن يحدث فينا انقلاب ملحوظ.

لقد مرَّ زمان حين كان المسيح الموعود ؏ ينصح الناس بحضور الجلسة مرة في العام حتى يحدث فيهم تغيُّر طيب فلا يبدو السفر إلى الآخرة مكروها في أعينهم ويتوجهوا بوجه خاص إلى أداء حقوق الله وحقوق العباد. أما الآن فيحضر بعض الناس في أكثر من جلسة في عام واحد. فيجب أن نفحص أنفسنا، أيّ نوع من الانقلاب يجب أن يحدث فينا في هذه الظروف؟ لا شك أن لقاء المسيح الموعود ؏ مرة واحدة كان أفضل من حضور عدة جلسات وكان يحدث الانقلاب نتيجة لقاء معه مرة واحدة، لأن للنبي مكانة عظيمة على أية حال، أما الآن فيجب الاشتراك في عدة جلسات بالتواتر لحدوث تغيّر حسن، لأن في الجلسات الحالية أيضا يُذكر كلام المسيح الموعود ؏ وبكلماته، كما تُسرد أحاديث النبي ﷺ في محاضرات مختلفة، وفوق كل ذلك يُقدّم تفسير كلام الله تعالى. فإذا كان الإنسان ذا نية حسنة، وأراد إحداث التغيُّر في نفسه فإن أسبابه ودواعيه متاحة الآن أيضا. كل ما يقوله لكم خليفة الوقت فإنما يقوله نيابةً عن المسيح الموعود ؏. إن المسيح الموعود ؏ هو الذي بشّر بإعلام من الله تعالى بتواتر بركاته نتيجة استمرار الخلافة والاعتصام بها، بل بشر بها سيدنا رسول الله ﷺ قبله، ثم قال المسيح الموعود ؏ أنكم أنتم الذين وُعدتم بهذه البركات أي بركات الخلافة. فمن هذا المنطلق أوجّه أنظاركم بهذه المناسبة إلى الاستماع إلى برامج ايم تي ايه المختلفة. لقد حُظرت جلساتنا في باكستان، والأحمديون فيها محرومون منها. فعليكم أن تشاهدوا وتستمعوا للخطب على الأقل بانتظام على ايم تي ايه، وتشاهدوا برامج الجلسات، وتسعوا جاهدين للعمل بما يقال فيها. لقد فتح الله تعالى هذا الباب لتفادي الحرمان إلى حد ما. فلو شاهدتم برامج الجلسات على ايم تي ايه وسعيتم للاستفادة منها لرُوِي غليلكم إلى ستين أو سبعين بالمائة. وإذا أردتم خلق تغييرات حسنة فيكم مائة بالمائة لأمكن ذلك أيضا. فأقول للإخوة الذين جاؤوا إلى بلاد أوروبية: إنكم تشتركون في الجلسات كل عام، وبعضكم يشترك في أكثر من جلسة في عام واحد، فالذين جاءوا إلى هذه البلاد يجب أن يُحدثوا في أنفسهم انقلابا كما قلت من قبل، إذ لا جدوى من حضور هذه الدورة التربوية التي أتاحها الله تعالى لنا إلا إذا جعلتم الدنيا خادمة للدين وأحدثم في أنفسكم تغيّرا حسنا، وسمعتم برامج الجلسة بانتباه وإصغاء وبنية العمل بما يقال فيها لكي تتمكنوا من أحداث تغيرات حسنة في أنفسكم.

وقد قال المسيح الموعود ؏ ذات مرة عن الاستماع لبرامج الجلسة باهتمام خاص:

“يجب أن يسمع الجميع بإصغاء، فاسمعوا بانتباه خاص لأن الأمر يتعلق بالدين”.أقول: إن قول المسيح الموعود ؏ أن الأمر يتعلق بالدين ليس قولا عاديا بل جدير بانتباه خاص.

يتابع حضرته ؏ ويقول: الغفلةُ والكسل واللامبالاة بها تُسفر عن نتائج وخيمة. والذين يغفلون في أمر الإيمان ولا يصغون إذا قيل لهم شيءٌ، لا يفيدهم بيان المتكلم مهما كان مفيدا ومؤثرا. فهؤلاء الذين يقال بحقهم أن لهم آذانا ولا يسمعون ولهم قلوب ولا يفقهون. فاسمعوا جيدا وبانتباه خاص لما يقال لأن الذي لا يسمع بانتباه خاص لن يستفيد وإن بقي إلى فترة طويلة في صحبة شخص قادر على الإفادة”.

فحضرته عليه السلام قد وجه هذا الإنذار إلى الذين يحضرون الجلسة ويكونون هنا ومع ذلك لا ينتفعون منها. يرفعون هتاف التكبير بكل قوة عاليا، ولكن لا يلبث هتاف وإعلان كبرياء الله هذا أن يغيب عن قلوبهم وأذهانهم. فعلى كل واحد أن يفحص نفسه جيدا كيلا يكون من الذين قال عنهم المسيح الموعود عليه السلام أن هذه الجلسة لا تنفعهم شيئا. فما دمتم قد حضرتم هنا للاشتراك في هذه الجلسة، فعلى كل واحد منكم أن يجلس هنا بكل صبر وهدوء خلال كافة فعاليات الجلسة، ويستمع لكافة الخطابات، وينتفع مما يقال ههنا عِلميا وعَمليا. يتحدث المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وهو يحثنا على الاستماع للخطب فيقول:

“على جميع الأحباب أن يستمعوا إلى الخطب بإنصات. إنني أريد وأحب لجماعتي ولنفسي أيضا ألا يُعجَبوا فقط بما في الخطابات من زخرفة الكلام ولا تكون غايتهم أن يروا كيف يلقي الخطيب خطابا ساحرا وكيف يستخدم كلمات قوية. أنا لا أرضى بطلاقة لسان الخطيب فقط، وإنما أحب بفطرتي وبدون تكلف وتصنع، أن يكون كل شيء لوجه الله تعالى. إن فقدان هذا الأمر هو السبب الأكبر لانحطاط المسلمين وزوالهم اليوم. كم من مؤتمر واجتماع ومجلس يعقدونه، ويلقي فيه كبار المحاضرين والخطباء محاضراتهم وخطاباتهم، ويرثي فيه الشعراء حال الأمة، ولكن لا تأثير لذلك. فما هو السبب في ذلك؟ الأمة تزداد انحطاطا يوما بعد يوم بدلا من التقدم. إنما السبب أن الذين يحضرون هذه المجالس لا يحضرونها بإخلاص، وإنما يهتمون بظاهر الأمور. يهتم الخطباء بإلقاء الخطب بكلمات رنانة، ويهتم الحضور بتأثير كلامهم بدون أي إخلاص فيهم.”

فهذا ما يحبّه المسيح الموعود عليه السلام بفطرته وهذه هي رغبته القلبية لأتباعه، أي أن لا يتأثروا فقط مما يوجد في الخطب والخطاب من حماس عابر، بل عليهم أن يفهموا ما يقال ويجعلوه جزءًا لا يتجزأ من حياتهم. أما إذا سمعوا الخطب ونسوها بعد الخروج من خيمة الجلسة، فهذا ليس تقدمًا بل هذا يدفع إلى الزوال. لم يبلغ المسلمون ما هم فيه من الذلة والانحطاط اليوم إلا لأنهم يسمعون محاضرات المحاضرين الكبار ولكنهم لا يعملون بما قيل لهم. لا يعملون به إلا قليلا، بل لا يعلمون به مطلقا. والأمة التي لا تعمل لا تتقدم أبدًا. إن وضع المسلمين اليوم دليل قطعي على أنهم يقولون ولا يعملون. لو عملوا لما كان وضعهم هكذا.

فما دمنا قد آمنّا بالمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام فعلينا أن نتجنب نقاط الضعف والتقصيرات التي وقع فيها المسلمون الآخرون، وإلا فلا جدوى من حضورنا هذه الجلسة. إننا ندّعي أننا سنأتي بالعالم تحت راية سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لو غلبتنا المادية وكان حضورنا هذه الجلسة من أجل لقاء الأصدقاء فقط وسماع خطب الجلسة قليلا فلا فائدة من الحضور. لا شك أن لقاء الأحباب أمر محبذ، ولكنها فائدة ضمنية للجلسة عند المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. هذه الفائدة الضمنية ذات أهمية كبيرة أيضا، لأنها كما قال عليه السلام تساعد الأحمديين على أن يوطدوا أواصر الأخوة والمودة فيما بينهم، ويهتموا بأداء حقوق العباد، وتقدّم في كل مكانٍ مشهدا لوحدة الجماعة وقوتها. فيجب أن تضعوا غاية حضوركم هنا نصب أعينكم. اشتركوا في فعاليات الجلسة واعملوا بما يقال لكم. وفّق الله الجميعَ لتحقيق هذه الغاية، ومتّعنا جميعا ببركات الجلسة وبركات أدعية المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، ووفقنا لتقديم صورة الإسلام الأصيلة إلى العالم من خلال أقوالنا وأفعالنا، بحيث تكون الدنيا أمرًا ثانويا لكل أحمدي دائما، ويكون الدين ورضا الله هدفه وغايته الحقيقية. فمن أدرك حقيقة رضا الله تعالى وُفّق لأداء حقوق الله وحقوق خلقه، ولنشرِ الحب والوئام والأخوة. وهذا ما يحتاج إليه العالم اليوم. إذا أردنا القضاء على القلق والفوضى السائدة في الدنيا فلا سبيل لذلك إلا أن نجعل العالم يعرف ربه، ويؤدي حق خلق الله. وهذه مسؤولية كبيرة على كل أحمدي. وعلى كل واحد منكم الاهتمام بذلك.

هناك أمور إدارية أود ذكرها وهي ذات صلة بالجلسة. وأوّلها أن هذا المكان الذي استأجرناه لعقد الجلسة يجب عليكم العناية بما حوله كيلا تسببوا أية مشكلة للمسؤولين ولا للجيران في الشوارع. يجب أن تجعلوا هذا الأمر مؤكدا في كل حال. إنما يطلع غير المسلمين على الإسلام الصحيح حين يعرفون كيف يراعي المسلمون الأحمديون مشاعر الجيران، ويلتزمون بالقانون، ولا يتسببون في أي قلق ولا مشكلة لأحد رغم اجتماعهم بهذا العدد الكبير. وعلى مسؤولي الجلسة أن يهتموا بهذا الأمر على وجه الخصوص ويتخذوا التدابير لذلك. لا شك أن عدد الحضور في هذه الجلسة ليس كبيرا مقارنة بعدد الحضور في جلسات الجماعة في بعض البلاد الأخرى، بل يكون العدد في اجتماع مجلس خدام الأحمدية أكثر من ذلك في بعض البلاد التي تتواجد فيها جماعتنا بعدد كبير، إلا أن عدد حضور هذه الجلسة لا بأس به نظرا إلى قلة عدد أفراد جماعة هذا البلد وإلى القدرة التنظيمية لدى المسؤولين هنا.

ثم يجب أن تضعوا في الاعتبار في أيام الجلسة الهدف من عقدها وهو الدعاء. فصلّوا باستمرار على النبي صلى الله عليه وسلم، واجعلوا ألسنتكم رطبة بذكر الله تعالى، واحضروا الصلوات في مواقيتها سواء هنا أو في مركز الجماعة. لقد لاحظت في مركز الجماعة في اليومين المنصرمين بوجه خاص أن الإخوة يتأخرون عن الصلاة، ثم يأتون مسرعين، ويُحدِث مشيهم السريع أصواتا وضجة لأن الأرضية خشبية. فيجب أن يأتوا مبكرين ويجلسوا لكيلا يفسدوا على الآخرين صلاتهم.

أما خطب الجلسة فقد قلت لكم في أول يوم أن تستمعوا لها بإنصات. يجب أن يجعل الجميع نصب أعينهم أن يشتركوا في جميع فعاليات الجلسة عند وقوعها، ويستمعوا للخطابات. هذا يساعدكم على تدريب وتربية أولادكم وأجيالكم القادمة وخلقِ شعور فيهم بأهمية الجلسة والاستماع للخطب التي تلقى فيها. فيجب الاهتمام بهذا الأمر بوجه خاص.

وفي الجلسة تنشب بعض الخصومات أحيانا. يكون بين البعض نزاعات قديمة تظهر للعيان عندما يجتمعون هنا، ولكن عليكم أن تحافظوا على أجواء الجلسة بحيث تبقى منزهة عن هذا تماما. يجب ألا يكون هناك ما يجرح مشاعر الآخر بأي شكل من الأشكال، لأن هذا يترك انطباعًا غير طيب عند الآخرين أيضا.

لا أدري هل اتخذ المسؤولون الترتيبات اللازمة بشأن إطعام هذا العدد من الحضور. لا شك أنهم اتخذوها، ولكن لو حدث تقصير في هذا الأمر فعليكم الصبر، كل شيء سيتم على يرام إن شاء الله، فأعطوهم بعض المهلة. أرى أنهم لم يقوموا بهذه الترتيبات لهذا العدد الكبير منذ فترة طويلة. على كل حال، أدعو الله تعالى أن يجعل هذه الجلسة مباركة. وكما قلت آنفا على الجميع أن يدعوا في أيام الجلسة ويهتموا بأداء الصلوات. كما أدعو الله تعالى أن يورثكم دعواتِ المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. آمين.

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز