خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز، الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي ؏ في مسجد بيت الفتوح بلندن يوم 11/5/2018

*****

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

عبد الله بن جحش ؓ هو أول أصحاب النبي ﷺ الذين سأتحدث عنهم اليوم. كانت والدته أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ، فبذلك كان عبد الله ابن عمته ﷺ. لقد أسلم عبد الله قبل ذهاب النبي ﷺ إلى دار الأرقم. كانت هذه الدار لصحابي حديث العهد بالإسلام اسمه الأرقم بن أبي الأرقم، وكانت تقع خارج مكة، وهي بمنـزلة مركز للمسلمين حيث كانوا يجتمعون فيها لتعلُّم الدين وللعبادة، لذا فقد اشتهرت بدار السلام أيضا. وظلت هذه الدار مركزا في مكة إلى ثلاث سنين يتعبَّد فيها المسلمون بصمت، ويعقد النبي ﷺ فيها المجالس. وعندما أسلم عمر ؓ بدأ المسلمون يخرجون إلى العَلن. لقد جاء في رواية أن عمر ؓ كان آخر مَن أسلم في هذه الدار.

باختصار، كان عبد الله بن جحش قد أسلم قبل أن تكون هذه الدار مركزا للمسلمين. وفي رواية أخرى أن عائلته أيضا لم تكن في مأمن من ظلم مشركي قريش. وقد هاجر إلى الحبشة مرتين مع أخويه، أبي أحمد وعبيد الله وأختيهِ زينب بنت جحش وحمنة بنت جحش. وقد تنصّر أخوه عبيد الله بعد وصوله إلى الحبشة، ومات هنالك متنصِّرا، وكانت زوجته أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ما تزال في الحبشة بعد وفاته، حين أرسل النبي ﷺ وتزوَّجها. لقد جاء عبد الله بن جحش إلى مكة قبل الهجرة إلى المدينة ثم جاء إلى المدينة مع قبيلته بني غنم بن دودان الذين كانوا قد أسلموا كلهم. وقد أخلى عبدُ الله مكةَ من أقاربه بحيث لم يبق في الحيِّ أحد منهم وقُفلت بيوت كثيرة. (هذا ما يحدث في بعض الأماكن في باكستان أيضا مع الأحمديين في هذه الأيام إذ قد خلت منهم قرى بأكملها).

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: … لَمّا خَرَجَ بَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ مِنْ دَارِهِمْ عَدَا عَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَبَاعَهَا مِنْ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ… فَلَمّا بَلَغَ بَنِي جَحْشٍ مَا صَنَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِدَارِهِمْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللّهِ ﷺ  فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ﷺ أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللّهِ أَنْ يُعْطِيَك اللّهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ؟ قَالَ بَلَى.

لقد بعث النبي ﷺ عبدَ الله بن جحش في سرية إلى وادي نخلة، وقد جاء في السيرة الحلبية بهذا الشأن: لما صلى رسول الله ﷺ العشاء الأخيرة، قال لعبد الله بن جحش: وافِ مع الصبح معك سلاحك أبعثك وجها، فوافاه الصبح ومعه قوسه وجعبته ودرقته، فلما انصرف رسول الله ﷺ من صلاة الصبح وجده واقفا عند بابه، فدعا رسول الله ﷺ أُبَيَّ بن كعب، فدخل عليه، فأمره فكتب كتابا، ثم دعا عبد الله بن جحش ؓ، فدفع إليه الكتاب، وقال له: قد استعملتك على هؤلاء النفر، وكان قبل ذلك بعث عليهم عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى صبيانه إلى النبي ﷺ، فبعث عليهم عبد الله وسماه رسول الله ﷺ أمير المؤمنين، أي فهو أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين.

يقول سيدنا المصلح الموعود ؓ في شرح الآية ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ[:

عندما هاجر النبي ﷺ من مكة إلى المدينة لم يهدأ غضب الكفار، وإنما أخذوا يهددون أهل المدينة قائلين إنكم آويتم أعداءنا، فلا مفر أمامكم إلا أن تقتلوهم جميعا أو تطردوهم من المدينة، وإلا فقَسَما سوف نهاجمكم ونقتلكم ونسبي نساءكم وذراريكم. ولم يكتفوا بالتهديد، وإنما أخذوا يعدون عدتهم للهجوم. أما الرسول ﷺ فقد كان يبيت الليالي ساهرا يترقب، وكان الصحابة يقضون الليالي والسلاح في أيديهم، حتى لا يفاجئهم هجوم العدو في ظلمة الليل، ونظرا إلى ذلك شرع النبي ﷺ يعقد الاتفاقيات مع القبائل المجاورة للمدينة لينصروا المسلمين إذا اقتضت الضرورة. كما أنه بناء على أخبار استعداد قريش لمهاجمة المدينة بعث اثني عشر من صحابته بقيادة عبد الله بن جحش في السنة الثانية الهجرية إلى مكان يُدعى وادي نخلة، وأعطاه رسالة وأمره أن يفتحها ويقرأها بعد يومين. ولما فتح الرسالة وجد فيها أمر النبي ﷺ أن أقيموا في وادي نخلة وأفيدونا بأخبار قريش. وتصادف أن قافلة لقريش قادمة بتجارة من جهة الشام مرت بهؤلاء فقام عبد الله بن جحش، باجتهاد شخصي منه، وشنَّ الهجوم على القافلة، فَقُتِلَ من الكفار عمرو بن الحضرمي وأُسِرَ اثنان منهم واستولى المسلمون على الغنائم، وعندما رجعوا إلى المدينة، وعرف النبي منهم بما جرى سخط عليهم سخطا شديدا وقال: لم آمركم بقتالهم، ورَفَض قبول الغنائم منهم.

وذكر ابن جرير رواية عن ابن عباس تقول أن عبد الله بن جحش وأصحابه ظنوا خطأ أنهم ما يزالون في الثلاثين من جمادى الثانية. مع أن شهر رجب كان قد بدأ. فأثار المشركون ضجة بعد مقتل عمرو بن الحضرمي بأن المسلمين لا يَرعون حُرمة الأشهر الحرم التي يُمْنَعُ فيها القتال.

يقول المصلح الموعود ؓ: إن الله تعالى قد ردّ في هذه الآية على اعتراض الكفار وقال ما مفاده: صحيح أن القتال في هذه الشهور المحرمة مكروه وإثم عند الله، ولكن الأشد من ذلك كراهةً هو أن يصدّ أحد غيره عن صراط الله تعالى، ويرفض وحدانية الله، ويهتك حرمة المسجد الحرام، ويُخرج أهله منه دون جريمة إلا أن يقولوا ربنا الله الواحد الأحد. تفكرون في أمر واحد، ولا تفكرون فيما تأتونه من جرائم كبيرة من كفر بالله ورسوله، وانتهاك حرمة المسجد الحرام، وإخراج أهله منه بدون حق. فما دمتم ترتكبون هذه الأمور الشنيعة القبيحة، فكيف تلومون المسلمين وتعترضون عليهم؟! إنهم وقعوا في خطأ سهوا ونسيانا، ولكن ما تفعلونه عمد مقصود.

لقد ذكر حضرة سيد زين العابدين ولي الله شاه ؓ في شرح حديث في صحيح البخاري نتائج إيجابية لسرية عبد الله بن جحش وكتب موضحا: الأحداث تخبر أن الغاية التي من أجلها بُعثت هذه السَّريَّة، تحققت تماما وحَصَّلَت بواسطة الأسرى معلومات يقينية عن خطط قريش مكة وتحركهم وتنقلهم. أما حادث قَتْل الحضرمي فهو حادث ضمني وعارِض، وقول بعض المؤرخين أنه خطر ببال بعض أفراد هذه السرية أن يستعيدوا أموال المهاجرين المغتصَبة ليس صحيحا، بل الهدف الحقيقي لهذه السرية إنما كان تقصّي المعلومات اليقينية عن غاية القافلة التي خرجت تحت قيادة أبي سفيان بن حرب، وعن خطة قريش لشن الحرب، وهذا ما عُهد إليهم بِسِرِّية، فلم يفوِّتوا فرصة القبض على هذه القافلة الصغيرة، والزعم أنهم كانوا قد أُرسلوا لاستطلاع استعدادات قريش للحرب، ولكنهم عادوا إلى الرسول ﷺ مكتفين بنهب قافلة زعمٌ مستبعَد.

كان عبد الله بن جحش صحابيا عظيما، وكان ابنَ عمة الرسول ﷺ، فانتخبه النبي ﷺ لهذه المَهَمَّة لكونه جديرا بالثقة وموضعَ سرّ، وحين علم النبي ﷺ باستعدادات قريش للحرب شرع هو أيضا في الاستعداد بسرِّيَّةٍ تامة. لقد ذكرت كتب المغازي بعض الروايات القائلة بأن النبي ﷺ أبدى سخطه على عبد الله بن جحش وأصحابه. ولكن هذا السخط كان جائزا في وضع كهذا، حيث كان من المحتمل أن تقع فتنة، ولكن في كثير من الأحيان قد تقع بعض الأمور التي تبدو في ظاهرها أخطاء ولكنها تصدر بمشيئة الله تعالى، وتُظهر بعضُ الأحداث البسيطة نتائجَ عظيمةً، فكان ممكنا ألَّا تُرسل سرية عبد الله بن جحش ؓ ولا يَصدرَ منه ما صدر. كذلك كان يمكن أن تصلَ إلى مكة دونما خطر القافلةُ الآتية من الشام تحت إمرة أبي سفيان بعد ذلك ويُعِدَّ القرشيون مستفيدين بهذه القافلة ويعدُّوا عُدَّتَهم ويهاجموا المسلمين، فيكون تحدِّي مواجهتهم صعبا على الصحابة قليلي العدد وعديمي الحيلة، ولكن بحادث عبد الله بن جحش ثارت ثائرةُ سادة قريش المتكبرين، فخرجوا في حال الثورة والتكبر تلك مُتَعجِّلين إلى بدر في جيش مؤلَّف من ألف مقاتل تقريبا، ظانّين أنهم يحمون قافلتهم وما كانوا يعلمون أن هناك قد قُدّر موتُـهم، وفي جهة أخرى كان من المُحتَمَل أنْ لو علِم الصحابة بذهابهم لمواجهة جيش مسلَّح لتـردد بعضهم، فالسِّرّيةُ عملت عمل خندقٍ في الحرب وهو يُسمى في مصطلح اليوم التعمية أو التمويه.

ورد في التاريخ أن حب الله ﷻ وحب الرسولِ ﷺ أغنى عبد الله بن جحش عن الدنيا كلها، وإن كان يتمنى شيئا فهو التضحية بنفسه في سبيل الله، فتحقّقت أمنيتُه هذه وصار معروفا باسم المُجْدَع في الله. وتفصيله أنه دعا الله قبل استشهاده، فكيف تقُبِّل دعاؤه؟ حادث دعائه قبل استشهاده معروف. روى إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قائلا: حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تدعو الله؟ فخلّوا في ناحية، فدعا أولا سعدٌ فقال: يا رب! إذا لقيت العدو فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللّهم ارزقني رجلا شديدا حرده شديدا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غدا قلت: يا عبد الله! فيمن جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقتَ، قال سعدٌ: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط. أيْ جُدعت وسُلكت في خيط.. هذا هو الفعل الظالم الذي كان الكفار يقومون به وهذا ما يقوم به اليومَ بعضُ المسلمين المتطرفين باسم الاسلام.

وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن رسول الله ﷺ يوم خرج إلى أُحد نزل عند الشيخين، وهو موضع قريب من المدينة، باتَ ﷺ هناك، فأصبح فجاءته أم سلمة بكتف مشوية فأكلها، ثم جاءته بنبيذ فشرب، (وأظن أنه شرابٌ مثل هَرِيْرَه) ثم أخذه رجل من القوم فشرب منه، ثم أخذه عبد الله بن جحش فعب فيه، فقال له رجل: أعطني بعض شرابك، أتدري أين تغدو؟ قال عبد الله جحش: نعم، ألقى الله وأنا ريان أحبُّ إلي من أن ألقاه وأنا ظمآن، (ما أعجبَ أسلوب حب الصحابة لله وما أحسنَ استعدادهم للقائه ﷻ)  ودفن عبد الله بن جحش وحمزة بن عبد المطلب في قبر واحد، كان حمزة ؓ خال عبد الله بن جحش، وكان عبد الله يوم شهادته ابنَ بضع وأربعين سنة، وولي تركته رسول الله ﷺ فاشترى لابنه مالا بخيبر. (الطبقات الكبرى لابن سعد)

كان عبد الله بن جحش ذا رأي سديد، وكان ممن استشارهم رسول الله ﷺ يوم بدر، كتب المصلح الموعود ؓ حادثَ أخت عبد الله بن جحش ؓ عند رجوع النبي ﷺ من غزوة أحدٌ، وهذا الحادث ورد في التاريخ وبيّنه المصلح الموعود ؓ في كلماته وقال: نرى في غزوة أحد كيف أن رسول الله ﷺ أبدى نموذج علوّ الهمة والأخلاقِ الفاضلة وواسى الناسَ وجبر خواطرهم، يتبين من هذه المعركة أنه ﷺ كان على أعلى مستوى من الأخلاق، كما ظهرت في هذه الحرب تضحياتُ الصحابة عديمة المثال.

يقول حضرته: أنا بصدد رواية أحداث ذلك الوقت الذي كان النبي ﷺ راجعًا فيه إلى المدينة بعد انتهاء المعركة. وإن نساء المدينة اللواتي كن قد سمعن خبر استشهاده خرجن لاستقباله على مسافة من المدينة بعد تلقيهن خبر وصول جثته وكانت من بينهن حمنة بنت جحش أخت زوجته، وكان قد استشهد ثلاثة من أقرب أقربائها في هذه الغزوة. فلما رآها النبي ﷺ قال احتسبي فقيدًا لك. (وهذا تعبير عربي يعني أنني أخبرك أن أحد أحبائك قد مات أو استشهد) سألت حمنة بنت جحش عمن استشهد من أقاربها فقال النبي ﷺ: خالك حمزة. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قالت رفع الله درجاته، ما أروع ما لقيه! ثم قال النبي ﷺ: احتسبي آخر، فسألت حمنة عمن يكون، قال النبي ﷺ: أخوك عبد الله بن جحش. فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قالت الحمد لله، ما أروع ما لقيه! ثم قال النبي ﷺ: يا حمنة احتسبي آخر، فسألت عمن يكون أيضا، قال النبي ﷺ: لقد استشهد زوجك. فسالت عيناها بالدموع، فقالت: وا حرباه! فقال النبي ﷺ: “إِنَّ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمَرْأَةِ لَشُعْبَةً مَا هِيَ لِشَيْءٍ”، فلما أخبرها باستشهاد خالها قالت إنا لله وإنا إليه راجعون، ولما أخبرتها عن استشهاد أخيها قالت أيضا إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن لما أخبرتها عن استشهاد زوجها تنهدت تنهيدة عميقة وقالت وا حرباه! ولم تتمالك دموعها وأبدت حزنها. ثم قال ﷺ أن المرأة في مثل هذا الوقت تنسى أعز أقاربها حتى تنسى الذين تربطها بهم علاقة الدم، إلا أنها لا تستطيع أن تنسى زوجها المحب. ثم سأل ﷺ حمنة: لماذا قلت وا حرباه عند سماعك خبر وفاة زوجك؟ قالت: يا رسول الله ذكرت يُتم ولده، فمن سيعتني بهم بعده؟

إذا كان الزوج محبّا فالزوجة تذكره عموما ولكن كانت حمنة يهمها أولاد زوجها وذكرت ذلك. وفي ذلك درس للأزواج في عصرنا هذا فيجب أن يكون الرجال أزواجًا محبين والنساء أمهات حريصات على أولادهن، ولا يمكن أن يكون الرجال أزواجًا محبين إلا بأدائهم حقوق أزواجهم وأولادهم وهو أمر تكثر الشكاوى حوله اليوم، وبهذا الخصوص يقال أن الحقوق لا تؤدى.

ثم ما أروع النبي ﷺ عليها! إذ قال: أبدلك الله بخير منه رعاية لأطفالك. فكانت نتيجة دعائه ﷺ أن تزوجت حمنة من طلحة فولدت منه محمدًا بن طلحة، وورد في كتب التاريخ أن طلحة لم يكن يحب ابنه محمدًا حبّه لأولاد حمنة من زوجها الأول. وكان الناس يقولون ليس أفضل من طلحة رعاية لأولاد الآخرين، وكان ذلك نتيجة دعاء النبي ﷺ.

والصحابي الثاني الذي أذكره اليوم هو كعب بن زيد ؓ. واسمه كعب بن زيد بن قيس بن مالك، وهو من بني النجار. لقد اشترك كعب ؓ في غزوة بدر واستشهد في غزوة الخندق، ويقال أنه أصيب بسهم أمية بن ربيعة بن صخر. كان من أصحاب بئر معونة، ولقد استشهد جميع أصحابه ولم ينج إلا هو. وبئر معونة مكانٌ بعث النبي ﷺ إليه سبعين من صحابته ومعظمهم كانوا حفاظًا للقرآن وقراؤه وقد استشهدوا خداعًا من أهل هذه المنطقة ولم ينج منهم إلا كعب الذي صعد الجبل. وورد في بعض الروايات أن الكفار هاجموه وأصيب بجروح بالغة فحسبوه ميتا وتركوه إلا أنه كان به رَمَقُ حياة، فوصل بعد عدة أيام إلى المدينة وشفي واستعاد عافيته.

الصحابي الثالث الذي أذكره هو صالح بن عدي الملقَّب بشُقْران. اسمه صالح ولقبه الذي عرف به هو شقران. وكان حَبَشِيًا، ومولى لعبد الرّحمن بن عوف، أراده رسول الله لخدمته فاشتراه من عبد الرحمن وفي بعض الروايات أن عبد الرحمن أهداه إلى النبي ﷺ.

شهد صالح شقران بدرًا وهو مملوك فلم يُسهم له النبي ﷺ بل استعمله على الأسرى، فجزاه كلّ رجل له أسيرٌ فأصاب أكثر ممّا أصاب رجلٌ من القوم من المُقَسَّم. أي لم ينل سهما من الغنائم إلا أنه بهذا الطريق نال أكثر مما أصاب من كان له سهم في الغنائم.

لقد أعتقه النبي ﷺ بعد غزوة بدر. يقول جعفر بن محمد صادق: كان شقران من بين أهل الصفة الذين كانوا يجلسون على باب النبي ﷺ.

لقد تشرَّف بأن كان فيمن حضر غُسل النبي ﷺ ودفنه. قال ابن عباس: غُسل النبي ﷺ في قميصه الذي توفي فيه، وكان من الذين نزلوا في قبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عَلِيّ بن أَبي طالب، والفضل بن العَبّاس، وقُثم بن العباس، وشُقْران وأَوس بن خَوْلِيّ.

ويقول شقران: والله لقد فرشت في قبر النبي قطيفته. وبحسب رواية صحيح مسلم كانت قطيفة حمراء يلبسها النبي ﷺ ويفترشها. وكان شقران يقول: كرهت أن يلبسها أحد بعد الرسول ﷺ لأن النبي ﷺ كان يلبسها ويفترشها.

استعمله رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم، على جميعِ ما وُجِدَ في رِحَالِ أهل المريسيع من رِثّة المتاع والسلاح والنَّعَم وغيرها وذلك لأنه كان يؤدي واجب الحراسة بحيث صار محل ثقة للنبي ﷺ.

لقد أرسل عمر ؓ عبد الرحمن بن صالح شقران إلى أبي موسى الأشعري، وكتب معه: وجَّهْتُ إليكَ الرجلَ الصالح عبد الرحمن بن صالح شُقْران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاعرف له مكانَ أبيه مِنْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هذه هي المكانة التي وهبها الإسلام للعبيد بحيث لم يعتقهم من العبودية فقط بل أصبح أولادهم أيضا جديرين بالاحترام.

وفق إحدى الروايات سكن شقران في المدينة وكان له بيت في البصرة أيضا، وتوفي في عهد  عمر ؓ.

والصحابي الآخر الذي أذكره هو مالك بن الدُّخْشُم الذي  كان من بني غنم بن عوف من الخزرج. كان له من الولد ابنة اسمها الفريعة. اختلف العلماء في شهوده بيعة العقبة، فقال موسى بن عقبة وابن إسحاق أنه شهدها.

على كل حال هذه النقاشات تجري دوما بين العلماء. لقد شارك سيدنا مالك بن الدخشم بعد ذلك في جميع الغزوات.

كان سهيل بن عمرو من كبار زعماء قريش الكرام، كان في جانب المشركين يوم بدر، فأسره مالك بن الدخشم.

قد ورد في رواية عن عامر بن سعد عن أبيه سيدِنا سعد بن أبي وقاص ؓ: لقد رميت سهيل ابن عمرو يوم بدر بسهم فقُطع عرقه، فَقَفَوْتُ أَثَرَ قطرات دمه، وأخيرا رأيت سيدنا مالك بن الدخشم قد أخذ بناصيته، فقلت له هذا أسيري إذ قد رميته بسهم، لكنه قال هذا أسيري لأني قد أمسكت به، ثم جاءا به إلى النبي ﷺ فأخذه من كليهما، ثم في روحة انفلت سهيل من سيدنا مالك ابن الدخشم، فنادى في الناس بصوت عال، وخرج في البحث عنه، وقال النبي ﷺ من وجده فليقتله. إذ كان قد جاء لقتال المسلمين، وكان أسير حرب فلما انفلت كان هناك خطر منه، لذا صدر الأمر بقتله. لكن لما كان قد قُدِّر لسهيل بن عمرو أن يعيش، فقد وجده النبي ﷺ، فلم يقتله، ولو وجده أي صحابي لقَتله، لكن لما عثر عليه النبي ﷺ لم يقتله. فهذه هي أسوة النبي ﷺ وفيها ردٌّ على أولئك الذين يتهمونه بارتكاب المظالم وسفك الدماء، ونرى أن الذي كان يستحق القتل وكان قد أَمر بقتله، فحين وجده هو نفسه ﷺ لم يقتله. وفي رواية أن النبي ﷺ وجده في أشجار السَّمُرَة الكثيرة، فأمر بأن تُغَلَّ يداه إلى عنقه، أي تم اعتقاله.

في صحيح البخاري رواية أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ عِتْبَانُ فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ فَقُمْنَا فَصَفَّنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ قَالَ وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ قَالَ فَآبَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (ربما قال ذلك لأنه لم يحضر رغم إقامته في الحي نفسه) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ (وربما كان بسبب لين طبعه يريد أن ينصح المنافقين ويقرِّبهم إلى الإسلام ومن ثم كان يكنّ لهم المواساة، مما أدى إلى نشوء سوء فهم في الصحابة) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.  (البخاري)

وفي هذه الرواية ردٌّ على أولئك العلماء المزعومين الذين يُصدرون فتاوى التكفير، ويمارسون المظالم على الأحمديين من هذا المنطلق. وإن فتاوى هؤلاء العلماء المزعومين نفسها قد دمرت أمن البلاد الإسلامية وسلامها. ففي باكستان هذه الأيام ينشط تنظيم “لبيك يا رسول الله”، وهم يرفعون هتافات “لبيك يا رسول الله” لكنهم – خلافا لهدي النبي ﷺ: لا تقولوا لمن قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لستَ مسلما، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ – يقولون لنا لستم مسلمين، لأنكم لا تقولون ذلك ابتغاءَ وجه الله. أَفَهُمْ أعلم بما في القلوب من النبي ﷺ؟! حفِظ الله ﷻ الأمة وأنقذهم من هؤلاء.

وفي روايةٍ أن عِتْبَانَ بن مالك قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مالك بن الدخشم: إنه منافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟! فقال: بلى، ولا شهادة له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يصلي؟! قال: بلى، ولا صلاة له. (ويبدو أن بعض الناس في ذلك الزمن أيضا كانت فيهم شدة كالمشايخ المعاصرين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين نهاني الله عنهم.

فالله ﷻ وحده عليم بما في القلوب، والملاحَظ أن الله ﷻ قد نهى النبي ﷺ، لكن هؤلاء العلماء- ولا سيما الباكستانيون- حائزون على حد زعمهم على رخصة لممارسة المظالم باسم الإسلام.

عن أنس ؓ أن مالك بن الدخشم أسيء إليه أمام النبي ﷺ فقال لا تسبُّوا أصحابي.

أقبل رسول الله ﷺ من تبوك، ونزل بذي أوان، فنـزل عليه الوحي عن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلىﷺ مالك بن الدُّخْشُم، ومعن بن عدي فقال: “انطلقا إلى هذا المسجد، فخرجا مسرعَين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدّخشم، فقال مالك لمعن: أنظِرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل أهله فأخذ سَعَفا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يَشتدَّان حتى دخلا المسجد، فبحسب رواية أحرقاه وهدماه بين المغرب والعشاء.

فالذين كان البعض يشكُّون فيهم من سوء الفهم، إذ لا نستطيع أن نسيء الظن بالصحابة، ويرون أنهم سالكون طريقا خاطئا، حتى وصفوهم بالنفاق هم أنفسهم من أُمروا بهدم مركز المنافقين ووُفِّقوا لهدمه بإذن الله. رفع الله درجات هؤلاء الصحابة على الدوام، ووفقنا لفحص أنفسنا، لنعرف ما الذي أمَرَنا الله ﷻ به ولأي مدى نستجيب له في ذلك.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز