خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 18/10/2019م

في ألمانيا

إن سلسلة ذكر أصحاب النبي r البدريين الذين كنتُ أذكرهم في خطبي قد انقطعت في أثناء جولتي الحالية بسبب الجلسات في بلاد مختلفة. الخطبة الأخيرة التي ألقيتها عن ذكر الصحابة y ذكرتُ فيها خبيب بن عدي t، ولم يكتمل ذكره. وقلتُ فيما سردت من وقائع سيرته أنه تمنّى من الله تعالى عند شهادته أن يبلّغ سلامه إلى النبي r. كان هؤلاء الصحابة y يحتلون مكانة سامية جدا وحائزين على قرب الله تعالى. هذا ما يتبين من معاملة الله I إياهم، فنرى أن الصحابي المذكور حين رأى أنه لا سبيل آخر لتبليغ سلامه إلى النبي r دعا الله تعالى ليبلغه r سلامه، فقبِل الله دعاءه وبلّغَ سلامه إلى النبي r. وردّ النبي r على سلامه وهو في مجلسه وأخبر الصحابة أن خبيب بن عدي قد استُشهد.

بعث النبيُّ r عَمْرِو بْن أُمَيّةَ بَعْدَ مَقْتَلِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيّ وَأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيّ فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا مَكّةَ ، وَحَبَسَا جَمَلَيْهِمَا بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ يَأْجَجَ (هذا الوادي يقع على بُعد ثمانية أميال من مكة)، ثُمّ دَخَلَا مَكّةَ لَيْلًا؛ فَقَالَ جَبّارٌ لِعَمْرِو: لَوْ أَنّا طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَصَلّيْنَا رَكْعَتَيْن؟ فَقَالَ عَمْرٌو: إنّ الْقَوْمَ إذَا تَعَشّوْا جَلَسُوا بِأَفْنِيَتِهِمْ (لعله سيُبطَش بنا) فَقَالَ كَلّا، إنْ شَاءَ اللّهُ فَقَالَ عَمْرٌو: فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَصَلّيْنَا، ثُمّ خَرَجْنَا نُرِيدُ أَبَا سُفْيَانَ فَوَاَللّهِ إنّا لَنَمْشِي بِمَكّةَ إذْ نَظَرَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فَعَرَفَنِي، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ وَاَللّهِ إنْ قَدِمَهَا إلّا لِشَرّ فَقُلْت لِصَاحِبِي: النّجَاءُ فَخَرَجْنَا نَشْتَدّ، حَتّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ وَخَرَجُوا فِي طَلَبِنَا، حَتّى إذَا عَلَوْنَا الْجَبَلَ يَئِسُوا مِنّا فَرَجَعْنَا، فَدَخَلْنَا كَهْفًا فِي الْجَبَلِ فَبِتْنَا فِيهِ وَقَدْ أَخَذْنَا حِجَارَةً فَرَضَمْنَاهَا دُونَنَا؛ فَلَمّا أَصْبَحْنَا غَدًا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُودُ فَرَسًا لَهُ وَيَخْلِي عَلَيْهَا، فَغَشِيَنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْت: إنْ رَآنَا صَاحَ بِنَا، فَأُخِذْنَا فَقُتِلْنَا. قَالَ وَمَعِي خِنْجَرٌ قَدْ أَعْدَدْته لِأَبِي سُفْيَانَ فَأَخْرُجُ إلَيْهِ فَأَضْرِبُهُ عَلَى ثَدْيِهِ ضَرْبَةً وَصَاحَ صَيْحَةً أَسْمَعَ أَهْلَ مَكّةَ، وَأَرْجِعُ فَأَدْخُلُ مَكَانِي، وَجَاءَهُ النّاسُ يَشْتَدّونَ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ فَقَالُوا: مَنْ ضَرَبَك؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ وَغَلَبَهُ الْمَوْتُ فَمَاتَ مَكَانَهُ وَلَمْ يَدْلُلْ عَلَى مَكَانِنَا، فَاحْتَمَلُوهُ. (كانت العادة السائدة في ذلك الزمن أنه لو اطّلع العدو على مكمن الخصم لقتله بناء على العداوة الشديدة المتبادلة، فكانا يشكان أنه قد رآهما ولا بد أن يخبر الكفار فيلاحقوهما ويقتلوهما. ففعلا ما فعلا دفاعا عن أنفسهما) يتابع الراوي ويقول: فَقُلْت لِصَاحِبِي، لَمّا أَمْسَيْنَا: النّجَاءُ، فَخَرَجْنَا لَيْلًا مِنْ مَكّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَمَرَرْنَا بِالْحَرَسِ وَهُمْ يَحْرَسُونَ جِيفَةَ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيّ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ أَشَبَهَ بِمِشْيَةِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ، لَوْلَا أَنّهُ بِالْمَدِينَةِ لَقُلْت هُوَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ. (أي أعمى اللهُ بصره) قَالَ فَلَمّا حَاذَى الْخَشَبَةَ شَدّ عَلَيْهَا فَأَخَذَهَا فَاحْتَمَلَهَا وَخَرَجَا شَدّا.

وورد في رواية أن هؤلاء كانوا سكارى بعد شربهم الخمر، ومنهم من كان صاحيا ومنهم من كان نائما أو ناعسا، فلم يعرفوا الأمر، وقد خرج مسرعا. ولما عرفوا بعد هنيهة) خَرَجُوا وَرَاءَهُ حَتّى أَتَى جُرْفًا بِمَهْبِطِ مَسِيلِ يَأْجَجَ، فَرَمَى بِالْخَشَبَةِ فِي الْجُرْفِ، فَغَيّبَهُ اللّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، قَالَ وَقُلْت لِصَاحِبِي: النّجَاءَ النّجَاءَ حَتّى تَأْتِيَ بَعِيرَك فَتَقْعُدَ عَلَيْهِ فَإِنّي سَأَشْغَلُ عَنْك الْقَوْمَ وَكَانَ الْأَنْصَارِيّ لَا رُجْلَةَ لَهُ. قَالَ وَمَضَيْتُ حَتّى أَخْرُجَ عَلَى ضَجْنَانَ، (هذا الجبل يبعد عن مكة 25 ميلا) ثُمّ أَوَيْتُ إلَى جَبَلِ فَأَدْخُلُ كَهْفًا… ثم خرجتُ ووصلتُ الْعَرْجَ (هذا المكان يبعد عن مكة 78 ميلا) ثُمّ سَلَكْتُ رَكُوبَةً، حَتّى إذَا هَبَطْت النّقِيعَ (يقع على بُعد ستين ميلا تقريبا من المدينة) إذَا رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْهُمَا عَيْنًا إلَى الْمَدِينَةِ يَنْظُرَانِ وَيَتَحَسّسَانِ فَقُلْت اسْتَأْسِرَا، فَأَبَيَا، فَأَرْمِي أَحَدَهُمَا بِسَهْمِ فَأَقْتُلُهُ وَاسْتَأْسَرَ الْآخَرُ فَأُوَثّقُهُ رِبَاطًا، وَقَدِمْتُ بِهِ الْمَدِينَةَ.

وفي رواية أخرى: عن عمرو بن أمية الضمري: أن رسول الله r بعثه وحده عينًا، فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيتُ فيها وأنا أتخوّف العيون، فأطلقتُه فوقع إلى الأرض، ثم اقتحمتُ فالتفتُ فكأنما ابتلعته الأرض، فما ذكر لخبيب بعد رِمَّة حتى الساعة.

وفي رواية أخرى: قال أبو عمر وروى عمرو بن أمية الضمرى قال بعثني رسول الله r إلى خبيب بن عدى لأنزله من الخشبة فصعدت خشبته ليلا فقطعت عنه وألقيته فسمعت وجبة خلفي فالتفت فلم أر شيئا. (أي غابت جثة خبيب)

أقول: هناك روايات مختلفة بهذا الشأن ويبدو أن الرواية الأولى هي الصحيحة التي تقول: فَرَمَى بِالْخَشَبَةِ فِي الْجُرْفِ، فَغَيّبَهُ اللّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. أي كان الكفار يريدون المساس بجثته فلم يقدروا وحماها الله من شرهم.

وهناك رواية أخرى عن أسرِ خبيب بن عدي أنه كان أسيرا في بيت ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب ليُقتل بعد نهاية الأشهر الحرم. لقد أسلمت ماوية فيما بعد وحسن إسلامها، وكانت تقول: والله ما رأيت أحدًا خيرًا من خبيب. والله لقد اطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد، ما أعلم في الأرض حبة عنبٍ تؤكل، وإن في يده لقطف عنبٍ مثل رأس الرجل يأكل منه (أي كان بيد حضرته عنقود كبير من العنب) وما هو إلا رزقٌ رَزقه الله. وكان خبيب يتهجد بالقرآن، وكان يسمعه النساء فيبكين ويرققن عليه. قالت، فقلت له: يا خبيب، هل لك من حاجة؟ قال: لا، إلا إن تسقيني العذب، ولا تُطعميني ما ذُبح على النُصب (أي الطعام الذي تقدمونه لي يجب ألا يكون مما ذبح على اسم الأوثان)، وتخبريني إذا أرادوا قتلي. قالت: فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله أتيتُه فأخبرته، فوالله ما رأيته اكترثَ لذلك، وقال: ابعثي لي بحديدةٍ أستصلح بها. فبعثتُ إليه موسى مع ابني أبي حسين، (لقد ورد عن هذا الولد أنه لم يكن ابنها وإنما كانت ربتْه فقط) فلما ولى الغلام قلت: أدرك والله الرجلُ ثأره، أي شيءٍ صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول رجلٌ برجل. (وفي رواية أخرى أن الولد ذهب إليه وهو يلعب وكان بيد خبيب t موسى لكن هذه الرواية تقول أن الولد كان صبيا ويصلح أن يَنقل شيئا فأرسلتْ بيده موسى) فلما أتاه ابني بالحديدة تناولها منه ثم قال ممازحاً له: إنك لجريءٌ! أما خشيتْ أمُّك غدري حين بعثت معك بحديدةٍ وأنتم تريدون قتلي؟ قالت ماوية: وأنا أسمع ذلك فقلت: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان الله وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني. فقال خبيب: ما كنت لأقتله، وما نستحلّ في ديننا الغدر. ثم أخبرته أنهم مخرجوه فقاتلوه بالغداة. فأخرجوه بالحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، (وهو على بُعد ثلاثة أميال باتجاه المدينة) وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعةٌ من أهل مكة، فلم يتخلف أحدٌ، إما موتور فهو يريد أن يتشافى بالنظر من وتره، وإما غيره موتور فهو مخالف للإسلام وأهله (ليتفرجوا على قتله). فلما انتهوا به إلى التنعيم، ومعه زيد بن الدثنة، فأمروا بخشبة طويلة فحفر لها، فلما انتهوا بخبيب إلى خشبته قال: هل أنتم تاركيَّ فأصلى ركعتين؟ قالوا: نعم. فركع ركعتين أتمَّهما من غير أن يطول فيهما. فهذه هي رواية هذه السيدة التي أوردها ابن سعد. فبحسبها كانت ماوية التي في بيتها حبس خبيب t مولاة حجير بن أبي إهاب. أما العلامة ابن عبد البر فيقول إن خبيبا t كان قد حبس في بيت عقبة وكانت زوجته تطعمه وتفك سراحه وقت الطعام. ويقول العلامة ابن الأثير الجزري أن خبيبا t أول صحابي صلب في سبيل الله أي حفر أولا ونصبت فيه خشبة ورُبط بها واستُشهد.

يقول سيدنا المصلح الموعود t عن هذا القتل: كان أحد المشاهدين هو أبو سفيان؛ سيد مكة. فالتفت إلى زيد وسأله: “ألا يسرك أن يكون محمد في مكانك بينما تكون أنت في أهلك”؟ فأجاب زيد بمنتهى الغضب: “ماذا تقول يا أبا سفيان؟ والله، إن الموت أحب إلي من أن يصاب رسول الله في أزقة المدينة بشوكة تؤذيه”. فبهت أبو سفيان لهذا الإخلاص والحب. ونظر إلى زيد مذهولاً وقال بلا تردد، ولكن في نبرة حذرة: “والله ما رأينا أحدًا يحبّ أحدًا مثل ما يحبّ أصحاب محمد محمدًا”.

فهذا كان حب الصحابة ووفاؤهم مع سيدنا رسول الله r ومعيارُ تضحيتهم بالحياة، فقال حين أُقتَل في سبيل الله فلست أبالي على أي شق كان مصرعي، سواء سقطتُ على يميني أو يساري أو أمامي أو على ظهري فلا يؤثر، إنما أنا أضحي بحياتي لله I. ثم كيف تجلت معاملة الله I أيضا تجاههم، فحين قال ذلك عند الفداء بنفسه في سبيل الله I، فكانت عنده أمنية أبداها قبيل قتله وهي أن يسجد لله I ويصلي ركعتين نفلا، فحقق I له ما أراد، كما كان يتمنى أن يبلِّغ النبيَّ r سلامَه فبلَّغه الله I له. كان مبلغ حبه للنبي r أنه لم يرض أن تصيب النبيَّ شوكةٌ في المدينة، مقابل حياته. فلم يكونوا يرضون بأن يتعرض النبي r لأبسط ألم، أما هم أنفسهم فلم يكونوا يقيمون أي وزن لحياتهم ولا يبالون بها، ولذلك قد فازوا برضوان الله I.

الصحابي التالي الذي سأذكره اليوم هو حضرة عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، فكان من بني عوف من قبيلة الخزرج الأنصارية، وكان ابنَ رئيس المنافقين عبدِ الله بن أُبي بن سلول، وكان صحابيا مخلصا جدا وفدائيا للنبي r. وكان اسم والدة حضرة عبد الله خولة بنْت المنذر، وكان اسمه في الجاهلية الحُباب، فاستبدل به النبيُّ r بعبد الله قائلا: إن الحُباب اسم الشيطان. وسلول كانت جدةَ رئيس المنافقين، وكانت من قبيلة خزاعة، وكان أُبي مشهورا بأمه، ولذا كان يُدعَى عبد الله بن أبي بن سلول، كان عبد الله بن أبي بن سلول ابن خالة أبي عامر الراهب، الذي كان من الذين كانوا يذكرون في الناس بعثة النبي r أنه يوشك أن يُبعث نبي وكان يؤكد للناس أن بعثة النبي وشيكة، وكان قد لبس المسوح في الجاهلية، واتخذ الرهبانية.

لما بعث الله تعالى رسوله r انقلب وبدأ يحسد وبغى وثبت على كفره. خرج مع مشركي مكة لمحاربة رسول الله r يوم بدر فسمّاه النبي r فاسقا. ومن أولاد عبد الله t عبادةُ وجليحة وخيثمة وخولي وأمامة. أسلم عبد الله وكان إسلامه حسنا وكان من الصحابة الكبار. شهد مع النبي r بدرا وأحدا والمشاهد كلها. وكان يعرف القراءة والكتابة، وروت عائشة رضي الله عنها روايات عن عبد الله t، وكان ممن حظوا بشرف كتابة الوحي.

وورد في رواية أن أنفه أصيبت يوم أحد، فأمره النبي r أن يتخذ أنفًا من ذهب. وفي رواية أخرى أنه أصيب سِنَّان من أسنانه يوم أحد فأمره النبي r أن يتخذ سنَّين من ذهب. وهذا هو المشهور وهو أثبت من القول الأول. يبالغ بعض الناس أو لا يعي البعض الرسالة التي تبلغهم، فالقول المتعلق بالسِنَّين يبدو صحيحا بأنهما انكسرتا فقال النبي r باتخاذ سنَّين من ذهب، وهذا ما كان معروفا في ذلك الزمن أيضا.

كان أبو سفيان تحدّى المسلمين يوم أحد قائلا: موعدنا معكم بدر في العام المقبل. ورد في سيرة خاتم النبي r هذا الحدث، فمخلص ما أخرجه حضرة مرزا بشير أحمد من التواريخ المختلفة هو أنه لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم أحد تحدى المسلمين فقال: موعدٌ بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول، نلتقي فيه فنقتتل. وقبِل النبي r هذا التحدي، لذا في العام الرابع للهجرة في شهر شوال خرج النبي r من المدينة مع جماعة من ألف وخمسمئة صحابي، واستخلف في المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي. وفي جهة أخرى خرج أبو سفيان بن حرب مع جيش قريش مِن ألفي جندي، ولكن رغم انتصاره في أحد وجيشِه الكبير كان قلبه خائفا، ومع أنه كان يسعى للقضاء على الإسلام لم يكن يريد مواجهة المسلمين ما لم يجمع عددا كبيرا من الجيش. كان في مكة إذ أرسل إلى المدينة شخصًا اسمه نعيم وهو من قبيلة محايدة، وحثّه على أن يُرهب المسلمين ويُلقي عليهم كلاما كاذبا ويمنعهم من الخروج كيفما أمكن. فجاء هذا الشخص إلى المدينة وحكى في المدينة حكايات كاذبة عن تحضير قريش للحرب وعن قوّتهم وحماسهم وأحدث قلقا في المدينة حتى خاف بعض ضعيفي الطبع من الخروج، ولكن حين دعى النبي r إلى الخروج وقال في خطابه: إننا قد قبلنا تحدي الكفار ووعدناهم موعدا ولا نستطيع أن نتخلف فإذا كنتم تخافون فاعلموا أنني لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد، وأواجه العدو وحدي. وحين سمع الناس هذا الكلام زال عنهم الخوف واستعدّوا للخروج مع النبي r بكل حماس وإخلاص. خرج النبي r من المدينة مع ألف وخمسمئة من أصحابه وخرج أبو سفيان من مكة مع ألفي جندي، ولكن نتيجة تصرف إلهي وصل المسلمون في بدر حسب وعدهم ولكن جيش قريش بعد قليل عاد إلى مكة، وتفصيله أن أبا سفيان حين علم بفشل نعيم الذي ذهب لبث الخوف في المسلمين، فحين علم أن المسلمين لم يخافوا وقد خرجوا فوقع الخوف في قلبه وأرجع جيشه من الطريق قائلا: هذا عام جدب، والناس في مشكلة ولا يصلح فيه القتال، وسوف نهاجم المدينة بعدة وعتاد أكثر في عام خصب غيداق. أقام جيش المسلمين في بدر ثمانية أيامٍ والسوق قائمة. وكانت السوق تقوم هناك في بداية ذي القعدة، فأقاموا ثمانية أيامٍ والسوق قائمة، فربحوا بالتجارة فيها. يقال: ربحوا للدينار دينارا في تجارتهم لثمانية أيام، أي صار رأسمالهم ضعفَين بسبب التجارة في هذه السوق حتى انتهت السوق ولم يأت جيش قريش. فعاد النبي r من بدر ووصل المدينة، وعادت قريش إلى مكة وبدؤوا يستعدون للغزو على المدينة. وهذه الغزوة تُسمى غزوة بدر الموعد. استُشهد عبد الله t في عهد أبي بكر t يوم اليمامة في 12 للهجرة.

ورد في صحيح البخاري حديث عن أبي عبد الله t عبد الله بن أبي بن سلول، أذكر في بعض الأحيان مثلَ هذه الروايات، التي لا تتعلق بالصحابي مباشرة، لمجرد أن تتطّلعوا على التاريخ أيضا، عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا

أَنَّ رَسُولَ اللهِ r رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ (كان قد أسلم نفاقا فيما بعد ولكن إلى ذلك الحين لم يكن قد أسلم نفاقا أيضا) فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللهِ r عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ (أيْ بحسب اعتقادك لا شيء أحسن مما تقول، يمكن أن يكون هذا المراد، ولكن الترجمة ليست هكذا، ويمكن أن نعرف المراد بالعودة إلى النص الأصلي) قال: إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ r يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ r دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ r وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ]وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا[ (آل عمران 187)

وقال تعالى: ]وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ (البقرة 110)

فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِه،ِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ r بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ…قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ r عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا.

وكان إسلامهم مبنيًا على رؤيتهم لانتصار المسلمين في بدر فأخذهم الخوف فأسلموا.

على أية حال، فكما قلت بأنني أذكر بعض الروايات التي قد لا تكون لها علاقة مباشرة مع الموضوع إلا أنني أذكرها لنطلع من خلالها على أحداث التاريخ.

لقد فصّل مرزا بشير أحمد في دور عبد الله بن أبي بن سلول فقال:

لقد جمع النبي r المسلمين عند غزوة أحد واستشارهم حول الهجمة المتوقعة من قريش (أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة)؟ وكان من بينهم عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان في الحقيقة منافقا إلا أنه أسلم في الظاهر بعد بدر، وهذه كانت المرة الأولى التي أشركه فيها النبي r في المشورة. وقبل الاستشارة ذكر النبي r الهجمة المتوقعة من قريش ونواياهم الخبيثة الدموية ثم قال بأنني رأيت الليلة في منامي بَقَرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا ، وَرَأَيْتُ أَنّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وفي رواية أخرى قال: رَأَيْت بَقَرًا لِي تُذْبَحُ. وهناك رواية تقول بأنه r قال: رأيت أنى مردف كبشا. قال الصحابة: فبمَ أولتها يا رسول الله r؟ فقال r: فَأَمّا الْبَقَرُ فَهِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ، وَأَمّا الثّلْمُ الّذِي رَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي، فهي إشارة إلى رَجُل مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ أو أتعرض أنا لأذى. أما إدخال يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوّلْتُهَا الْمَدِينَةَ أي مواجهة المهاجمين بالمكوث في المدينة. ورأيت أنى مردف كبشا، فأولته كَبْش الْكَتِيبَةِ نَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللهُ.

ثم استشار النبي r ‎‎‎صحابته في ماذا ينبغي فعله في هذه الأوضاع؟ فاشار عليه بعض صحابته الكبار نظرًا إلى الأوضاع السائدة أو متأثرين برؤيا النبي r أنه من الأنسب الدفاع بالمقام في المدينة، وهذا كان رأي عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين، واستحسن النبي r هذا الرأي وقال الرأي هو المكوث فِي الْمَدِينَةِ ومواجهة المهاجمين.

ولكن أكثر الصحابة ولا سيما الشباب منهم الذين ما شهدوا بدرًا أرادوا الخروج ليستشهدوا ويخدموا الدين، فأصروا كثيرا على الخروج من المدينة ومواجهة الكفار في الساحة. ونظرًا إلى رأيهم وإصرارهم وحماسهم قبِل النبي r رأيهم وقرر مواجهة الكفار في الميدان خارج المدينة.

ثم حرض النبي r المسلمين في صلاة الجمعة على أن يشتركوا في هذه الغزوة جهادًا في سبيل الله وينالوا الثواب. ثم دخل النبي r بيته فعصب على رأسه العمامة بمساعدة أبي بكر وعمر، ولبس لباسًا وتقلد أسلحة ثم خرج باسم الله، ولكن خلال هذه المدة أفهم سعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس وبعض أكابر الصحابة الشبابَ فشعروا بخطئهم في إصرارهم على رأيهم مقابل رأي النبي r، ومعظمهم أخذَهم الندم على موقفهم هذا.

فلما رأى هؤلاء النبي r مدرعًا يرتدي الخوذة، ازداد ندمهم واضطربوا وقالوا: يا رسول الله لقد أخطأنا حين أصررنا على رأينا مقابل رأيك، فافعل الآن ما بدا لك، لأن البركة ستكون في اتباع رأيك. فقال النبي r بحماس: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم اللّه له)، فلقد فات الأوان، وقال: فلكم النصر ما صبرتم. ثم جهّز النبي r ثلاثة ألوية للجيش الإسلامي، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب، واستخلف عبد الله بن أم مكتوم على المدينة ليؤم الصلاة، وخرج من المدينة في جماعة كبيرة من الصحابة بعد العصر.

وخرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يعدوان دارعين أمام راحلة النبي r بينما الصحابة الآخرون كانوا يمشون إلى يمينه ويساره.

أُحُد جبلٌ يقع على بعد ثلاثة أميال إلى شمال المدينة، في منتصف الطريق عسكر النبي r بموضع قريب من المدينة يسمى بالشيخين، فأمر r بعرض العسكر الإسلامي فاستصغر غلمانًا جاؤوا متحمسين للجهاد فردّهم.

فأُمر عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأبو سعيد الخدري كلهم بالعودة. وكان رافع بن خديج من الصبيان الذين أُمروا العودة، ولكنه كان يجيد الرماية، فشفع له والده إلى النبي r بأن يسمح له بالمشاركة في الجهاد بسبب مهارته في الرماية، فرفع النبي r بصره إلى رافع، فوجده ينتصب كالجنود الشجعان لكي يبدو نشطا وطويلا، فنجحت حيلته هذه وسمح له النبي r بالخروج معه للجهاد.

وكان سمرة بن الجندب بين هؤلاء الأطفال الذين أُمروا بالعودة، فلما رأى ذلك ذهب إلى أبيه وقال له إذا كان رافع قد سُمح له بالخروج للجهاد فليُسمَحْ لي أيضا لأنني أقوى منه وأهزمه في المصارعة. فسُرّ الأب بإخلاص وحماس ابنه، فذهب به إلى النبي r وذكر له أمنية ابنه. فتبسم النبي r وقال حسنا، سوف نجعل رافع وسمرة يتصارعان أمامنا لنرى من هو الأقوى. فتصارعا، وصرع سمرة رافعًا وطرحه على الأرض فورًا. فسمح النبي r لسمرة بالخروج معه، وهكذا فرح قلب هذا الصبي البريء. وكان المساء قد حان، فرفع بلال الأذان، وصلى الصحابة وراء النبي r. ثم نزل المسلمون في ذلك المكان للمبيت، وعين النبي r محمد بن مسلمة مسؤولا عن الحراسة بالليل، فظل طوال الليل يطوف بالجيش المسلم مع خمسين من أصحابه.

 

وفي اليوم التالي، يوم السبت، 15 من شوال من السنة الثالثة الهجرية الموافق 31 مارس عام 624 الميلادي، تقدم الجيش المسلم وقت السحر وصلّوا الفجر في الطريق ووصلوا إلى سفح جبل أحد. وفي ذلك الوقت غدر رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول بالمسلمين وانفصل مع ثلاث مئة من زملائه عن الجيش المسلم ورجع إلى المدينة قائلا لم يأخذ محمد (r) برأيي وخرج من المدينة آخذا برأي الشبان الأغرار، لذا فلن أحارب معه العدو. فحاول البعض نصحه من عنده بأن هذا الغدر لا يجوز، لكنه لم يستمع لأحد وظل يقول هذه ليست بحرب، ولو كانت حربا لشهدتها، إنما هو إلقاء النفس في التهلكة. وبعد ذلك بقيت قوة المسلمين سبع مئة شخص فقط إزاء ثلاث آلاف من المحاربين الكفار، أي أقل من ربع الكفار. على كل حال، دارت المعركة بعد ذلك. وهناك واقعات أخرى بهذا الصدد، وسوف أذكرها في الخطبة التالية إن شاء الله تعالى.

أما الآن فسوف أذكر أخا لنا قد توفي، وسوف أصلي عليه جنازة الغائب بعد الصلاة، وهو السيد خواجة رشيد الدين قمر ابن مولانا قمر الدين المرحوم، حيث قد وافاه الأجل في 10 أكتوبر عن عمر يناهز 86 عاما إثر مرض دام فترة، إنا لله وإنا إليه راجعون. وُلد المرحوم في قاديان في عام 1933. وكما قلت كان المرحوم ابنًا لمولانا قمر الدين الذي عينه حضرة المصلح الموعود t أول رئيس لمجلس خدام الأحمدية. كان المرحوم حفيدًا لحضرة ميان خير الدين السيكهواني t، وخالاً لأمير الجماعة للمملكة المتحدة الحالي.

لقد كتب المسيح الموعود عليه السلام في كتابه “عاقبة آتهم” وهو يثني على حضرة ميان خير الدين السيكهواني وأخويه:

“أنا مندهش مما يتحلى به أبناء جماعتي من حب وإخلاص، حتى ذوو الدخل الزهيد منهم مثل ميان جمال الدين، وخير الدين، وإمام الدين الذين هم من كشمير ويعيشون قرب قريتي، فإن هؤلاء الإخوة الفقراء الثلاثة عمّال بسطاء ربما لا يكسبون إلا 12 أو 16 مليما في اليوم، ومع ذلك يساهمون في التبرعات الشهرية بحماس كبير.

وفي مناسبة أخرى حث المسيح الموعود عليه السلام على التبرع، فتبرع هؤلاء الإخوة الثلاثة، فقال عليه السلام: إن أمر تبرعات هؤلاء الإخوة عجيب وجدير بالغبطة حيث إنهم لا يملكون من مال الدنيا إلا القليل جدا، ولكنهم أتوا بكل ما في بيوتهم كما فعل سيدنا أبو بكر t، وآثروا الدين على الدنيا كما ورد في شروط البيعة.

فكان حضرة الخواجة المرحوم من نسل هؤلاء الصحابة. عمل المرحوم فترة من الزمان في جناح الطيران الباكستاني بعد الهجرة إلى باكستان، ثم انتقل إلى المملكة المتحدة عام 1958، وعمل في الطيران البريطاني المدني لثلاثة وثلاثين سنة. كان متحمسا لخدمة الجماعة، فكان يعمل في وظيفته ليلا لكي يخدم الجماعة وقت النهار. قضى حياته كلها تقريبًا في خدمة الدين، متقلدًا مناصب عدة في الجماعة.

عمل كأول قائد لمجلس خدام الأحمدية بالمملكة المتحدة سبع سنوات. علمًا أن مجالس خدام الأحمدية في مختلف أنحاء العالم كانت عندها تابعة لمجلس خدام الأحمدية المركزية. كما وفقه الله لخدمة الجماعة هنا بصفته السكرتير العام، ثم سكرتير المال، ثم سكرتير الزواج، ثم سكرتير الأمور العامة، ونائب مدير الجلسة السنوية. كان الخواجة المرحوم يتحلى بمحاسن عديدة جدا. فكان محبًا عاشقا للخلافة. يجلّ صلحاء الجماعة والدعاة الكرام ومسؤولي الجماعة.

كان المرحوم كبير الصلاح، مواظبًا على صلاة التهجد، مداومًا على أداء الصلوات جماعةً، ملتزمًا بدفع التبرعات، كثير الصدقات، دمث الأخلاق، مساعدا للفقراء، شفيقًا بالأطفال، كبير الاحترام للكبار والصغار، كثير الدعوات، ومنخرطًا في نظام الوصية بفضل الله تعالى. خلف وراءه أرملته وابنًا وبنتين، وأختا وثلاثة إخوة. أحد أحفاده من بنته السيد قاصد معين ويعمل داعية في الجماعة، ويخدم حاليا في قناتنا ايم تي اي وأيضا في جريدة “الحَكَم”.

لقد كتب قاصد معين: كنا نقضي السبت والأحد في بيت جدنا ونبيت عنده. وفي كل يوم سبت كنا نراه عن قرب. كنت في طفولتي أبيت في غرفته في معظم الأحيان، وكنت أراه  دائما قبل أن أنام أنه كان يصلي النوافل قبل النوم، وكان يصليها بمنتهى الحسن والهدوء والطمأنينة. وكان يستقيظ لأداء صلاة التهجد، وكان يوقظنا لصلاة الفجر.

وكتب أيضا: وجدتُ جدي ليّن القلب دائما. كان كملاكٍ. لم يزجرنا قط. أتذكر أنه زجرني مرة، وكان ذلك أنني في عهد الخليفة الرابع سألته في براءة الطفولة: مَن الذي يكون الخليفة التالي، فزجرني بشدة وقال لي ناصحا: مثل هذا الكلام غير مناسب، وهكذا أدركت مقام الخلافة منذ نعومة أظفاري.

باختصار، كان على علاقة وفاء خارق مع الخلافة. كان يراسلني بانتظام، وقد جاء للقائي في أيام مرضه الأخير قبل أيام بجولتي هذه. كان كبير الصبر والجلد. كان مصابا بالسرطان، وكان المرض والعلاج مؤلمين جدا، ولكنه صبر صبرا جميلا، وأخبرني بكل الأمور بهمة وعزيمة. تغمده الله بمغفرته ورحمته، وأسكنه عند قدمي أحبته، ووفق أولاده ونسله للحفاظ على حسناته، آمين.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز