خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 25/10/2019

في مهدي آباد همبورغ بألمانيا

*********

]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[ (الحج 42)

لقد نبه الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن المؤمنين حقًا هم أولئك الذين إذا نالوا القوة بعد الضعف والأمنَ بعد القلق والخوف والظروفَ المواتية لعبادة الله والعمل بأحكام الدين بحرية، فإنهم لا يتبعون أهواءهم ولا مصالحهم الشخصية المادية، بل يقيمون الصلاة ويهتمون بها، ويعمرون مساجدهم، ويخدمون البشرية، وينفقون من أموالهم على الفقراء والمساكين خشيةَ الله، ويقدّمون التضحيات في سبيل إشاعة الدين، يطهرون أموالهم بإنفاقهم لنشر الدين، ويهتمون بفعل الخيرات كما يُذكِّرون الآخرين  بفعل الخيرات وأداء حقوق العباد، وينتهون عن السيئات وينهون غيرهم عنها، وحيث إنهم يقومون بكل هذه الأعمال خشية الله وعملاً بحكمه، فإن الله تعالى يرتب على أعمالهم أفضل النتائج، فلأن الحكمَ في كل شيء بيد الله تعالى، فكل عمل يتم بأمره تعالى مع  خشيته في القلب، لا بد أن تكون عاقبته خيرا. ولو أدرك كل واحد منا هذا الأمر الأساس لورث أفضال الله باستمرار.

لقد بنيتم المسجد هنا في مهدي آباد، وقد افتتحتُ قبل أيام مسجدين في فُلْدا وفيزبادن. تبني جماعتنا في ألمانيا المساجد بفضل الله تعالى تحت خطة بناء مئة مسجد، واضعين في الاعتبار أننا سنرفع مستوى عباداتنا عملاً بحكم الله تعالى. لقد تحسنت ظروفنا المالية بعد الهجرة من باكستان إلى هنا، وهذا الأمر يجب أن يذكِّر كل واحد منا بأن علينا أن ننفق في سبيل الله تعالى، ونبني بيوت الله لكي نجتمع فيها ونقيم الصلاة، ونصلي جماعة، ونبلغ في صلواتنا درجة تمكّننا من التوجه إلى الله خالصة، ولكي نؤدي حق عبادة الله بحرية. في باكستان إننا محرومون من الحرية الدينية، ولا يسمح لنا قانون البلد هناك ببناء المساجد ولا بالعبادة بحرية، لكي نؤدي حق الله تعالى ونعبده، أما هنا فنتمكن من بناء المساجد لأداء حق الله تعالى. يجب على كل واحد منا أن يفكر أن الله تعالى قد منّ علينا كثيرا، لذا نسعى وسوف نسعى جاهدين لأداء حقوق الله تعالى. لقد بايعنا المسيح الموعود u على تطوير مستوانا الروحاني والخُلقي، وهذه المساجد تذكّرنا بهذا الأمر، ويجب أن تذكرنا بذلك. هذه الفكرة ينبغي أن تستولي على عقل وقلب كل أحمدي مقيم هنا، ويجب أن يؤكد ذلك بعمله وإلا فلا جدوى من بناء المساجد.

فواجب كل مسلم أحمدي أن يتذكر أن غايتنا لن تتحقق ببناء المساجد فقط، وإنما تتحقق حين نهتم بعبادة الله مخلصين له، ونقيم صلواتنا، ونحضر المساجد للصلاة جماعة، ونركز ونتوجه إلى الله في صلواتنا، ونسعى للحفاظ على هذا التركيز، وإذا تشتت فسوف نسعى لكي نتوجه ثانية إلى الصلاة وإلى الله تعالى، مدركين الحقيقة الناصعة أن الصلاة فرصة أتيحت لنا لمناجاة ربنا، وأن علينا ألا نقوم بنقرات كنقرات الدجاجة ولا نقوم بالسجود الظاهري فقط، ولا نكتفي بترديد الكلمات العربية فقط، بل علينا أن نناجي ربنا بلساننا الأم أيضا. علينا أن نبذل جهدنا لأداء صلوات تتيح لنا لقاء الله تعالى.

يقول سيدنا المسيح الموعود u وهو يبين صفات المتقين، المؤمنين الحقيقيين: إنهم (يقيمون الصلاة). أي أن المتقي يسعى جاهدا لإقامة الصلاة، بمعنى أن الصلاة تنهار أحيانا، فيقيمها. يقول الله تعالى إن المتقي يخاف الله تعالى ويقيم صلاته. في هذا المقام تنتابه أنواع الوساوس والأفكار وتُشتت تركيزه في الصلاة، وتصرفه عن التوجه إلى الله تعالى كلية، وهذا هو انهيار الصلاة، ولا يعني إقامتها إلا أن يصرف المرء تركيزه إلى الله ثانية، إذا كان قلبه عامرًا بالتقوى.

فيقول u إن المؤمن الحقيقي يسعى جاهدا لإقامة صلاته حتى في هذه الحرب مع نفسه، أي أن صلاته تتهدم بلا شك ويتشتت تركيزه فيها أحيانا، لكن تقوى الله تقتضي منه أن يسعى لإقامة صلاته مرة أخرى ويصرف تركيزه إلى الصلاة وإلى الله ثانية، هذا هو معنى إقامة الصلاة.

يقول المسيح الموعود u: إن المتقي يقيم صلاته بالتكلف والمشقة مرة بعد أخرى. ولو أن المرء واظب على الصلاة بمثابرة ودوام ساعيا باستمرار لبلوغ أعلى المستويات في صلاته، فلا بد أن يأتي عليه وقت يهديه الله تعالى بكلامه.

ثم إنه u يوضح معنى الهداية هنا فقال: الهداية حالة لا يحتاج فيها المصلي للسعي لإقامة الصلاة، أي أنه لا يتعرض لموقف تنهار فيه صلاته ويتشتت فيه تفكيره فيحاول إقامتها والتركيز فيها ثانية، كلا بل بعد نيل الهداية تصبح الصلاة بمنزلة الغذاء له، فكما أن الطعام ضروري للجسم، كذلك تصبح الصلاة بمنزلة الطعام الروحاني الضروري لنموه الروحاني. ثم يقول u: وكما أن الحياة المادية لا تستمر بدون طعام مادي، كذلك فإن الحياة الروحانية لا تستمر بدون الصلاة التي هي بمنزلة الطعام الروحاني. ثم يذكر المسيح الموعود u أكثر من ذلك  ويقول:

لا تكون الصلاة فقط كطعام لا بد منه من أجل استمرار حياته، بل إن في هذا الطعام الروحاني متعة أيضا. فإن مثل هذا الإنسان يعطى في الصلاة لذة ومتعة يجدها المرء بشرب الماء العذب عند العطش الشديد إذ يشربه بمنتهى الرغبة ويستمتع بالارتواء منه. أي لو بلغ العطش بالمرء كل مبلغ حتى ساءت حاله ولم يجد الماء،ثم تيسر له الماء البارد العذب، فإنه يستمتع بشربه أيما متعة، هكذا يستمتع بالصلاة مَن نال الهداية حقًا.

ثم ضرب حضرته u مثالا آخر وقال إن كان المرء جائعا جوعا شديدا فيجد أطيب الطعام وألذه، فينال المتعة بأكله، كذلك يجد المتعة الحقيقة مَن يؤدي الصلاة حقا.

فهذه هي الصلوات الحقيقية، أي يجب أن نصلي الصلوات ببشاشة وانشراح وليس باعتبارها حملا ثقيلا.

بل لقد ضرب u مثالا آخر وهو أن المؤمن الحقيقي يدمن على الصلاة إدمانا لا يقرّ له القرار بدونه، فكما المدمن على شيء يتأذى ويصاب بقلق واضطراب بشدة إذا لم يجد ما أدمن عليه، كذلك فإن المؤمن الحقيقي يدمن على الصلاة ويجد فيها قلبه لذة وسرورا وثلجا.

لقد قال u: من المحال أن توصف بالكلمات تلك اللذة التي يجدها مَن يصلّي الصلاة الحقيقية. إن المؤمن التقي يجد المتعة في الصلاة، لذا يجب أن تبذلوا جهدكم لكي تحسّنوا صلواتكم.

وقال u: إن الصلاة أصلٌ وسُلّمٌ للترقيات كلها، ومن أجل ذلك قيل: الصلاة معراج المؤمن، وبه یمكن للإنسان أن يصل إلى الله تعالى، فإذا كنا نبني مساجد فلتكن مساجدنا لأداء الصلاة فيها على هذا النحو. وإذا كنا نهتم ببناء المساجد فليكن الهدف منها أن نصِلَ إلى هذا المعراج. هذه هي الوسيلة التي توصل المرء إلى الله تعالى، فيحظى الإنسان بمكالمة الله تعالى. فلا تيأسوا من الحصول على هذه المكانة. فلو استمر المرء في سعي دؤوب وهبه الله تعالى إياها. هناك الكثيرون الذين يكتبون إلي ويسألون قائلين أنهم لا يستطيعون التركيز في الصلاة. فأقول لهم: العلاج لهذه المشكلة هو أن تسعوا جاهدين وتكرروا جهودكم للتركيز. لقد طرح أحد الإخوة السؤال نفسه في مجلس المسيح الموعود u قائلا: إن كيفية قلبي في هذه الأيام هي إنني لا أجد متعة ولا رقة في الصلاة، وأواجه مشكلة شديدة إذ تخالجني الوساوس تلقائيا. مع أنني أسعى جاهدا لدحضها ولكنها لا تكاد تتركني. فقال u: إنه لمن فضل الله ورحمته أن الإنسان لا يكون مغلوبا على أمره بالوساوس من هذا القبيل. (أي أن الوساوس تنشأ أحيانا، ولكن الإنسان ينتبه إليها فلا يدعها تغلبه) هذه الحالة أيضا تكون مدعاة للثواب. (أي أن الله تعالى رحيم وكريم لدرجة أنه يعطي الإنسان أجرا وثوابا على هذه الحالة أيضا) … إن صاحب النفس الأمارة لا يدري أصلا ما هي السيئة. (بل يظل يرتكبها) أما صاحب النفس اللوامة فيرتكب الذنب ولكنه يضطرب عليه ويخجل دائما ويتوب عنها.(أي إذا كان الإنسان في حالة النفس اللوامة فهو يندم ويقلق على ارتكاب السيئة. أي إذا خالجته فكرة ارتكاب السيئة ودحضها أعطاه الله أجرا على فعله هذا) هذا الإنسان لا يكون عبدا للنفس. ومواجهة هذه الحالة ضروري أيضا إلى حد ما. فيجب ألا ييأس المرء نتيجتها لأنها مدعاة لثواب كبير لدرجة يُنـزل الله النور والسكينة من عنده. تنـزل رحمة الله ويثلج الصدر وتتلاشى أسباب القلق كلها. فعلى الإنسان ألا يملّ. أكثروا من قراءة: “يا حيّ يا قيوم برحمتك أستغيث” في السجود، واعلموا أن في التسرع خطرا كبيرا. يجب أن يكون المسلم شجاعا. تضعف هجمات الشيطان أخيرا بعد احتمال الجهد والمشقة إلى سنين فيهرب نهائيا.

أقول: إذًا، هذا هو الأمر المبدئي الذي يجب أن نتذكر دائما، وهو أن على المرء ألا يتسرع بل يعتصم بالله تعالى ويخضع أمامه دائما. والشيطان سيهرب يوما لا محالة. أما إذا تسرّع المرء ولم يبذل كل ما في وسعه لإقامة الصلاة فسيقع في مخالب الشيطان. ما نلاحظه بشكل عام هو أن الإنسان عجول ويريد أن يحصل على النتيجة فورا ويقول: لم أستفد شيئا مع أنني أكثرتُ من الأدعية. فليكن معلوما أن الإنسان إذا استمر في الدعاء للحصول على الدنيا فقط، فالله تعالى قد لا يستجيب كل هذه الأدعية المتعلقة بأمور الدنيا فقط، غير أنه إذا دعا لتقدمه الديني والروحاني وطلب قربه I، قرّبه الله إليه وسدّ حاجاته الدنيوية أيضا. إذًا، هناك قواعد ومبادئ للسؤال من الله تعالى ولا بد من مراعاتها. وإلا فكيف يمكن أن يقول الله تعالى: ]أدعوني أستجب لكم[ ثم يدعوه العبد فلا يستجيب؟

يقول سيدنا المسيح الموعود u موضحا هذا الموضوع: الصلوات تتضمن الأدعية والصلاة على النبي r وكلها بالعربية، ولكن ليس حراما عليكم أن تدعوا في الصلاة في لغتكم أيضا. يقول الله تعالى بأن الصلاة الحقيقية هي تلك التي تتسم بالتضرع والخشوع القلبي. (أي اخلُقوا التضرع والخشية وليِّنوا قلوبكم وكأنكم واقفون أمام الله تعالى وتسألونه. فالذين تتحلى قلوبهم بالخشية تُغتَفر ذنوبهم)

يتابع u: يقول الله تعالى: ]إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[. المراد من الحسنات هنا هي الصلاة. والخشوع يتسنى نتيجة دعاء المرء في لغته بالتضرع. (أي يذوب قلب الإنسان وينشأ فيه التضرع بدعائه في لغته لأنه عند دعائه في لغته يعرف ما يسأله I، كذلك يجب أن يدعو المرء مما علّمنا الله تعالى من الأدعية) فيجب أن تدعوا في لغتكم أيضا بين فينة وفينة. الدعاء الأمثل هو ما ورد في سورة الفاتحة وهو دعاء جامع. (أي اهدنا الصراط المستقيم، وهو دعاء ذو معانٍ واسعة، فيقول المسيح الموعود u مبينا معناه)

“عندما يصبح الزارع بارعا في مجال الزراعة يبلغ الصراط المستقيم في الزراعة وينجح. (أي عندما يعرف الزراع جيدا متى يجب أن يحرث الأرض ومتى يجب أن يزرع البذور، ومتى يستخدم السماد ومتى يجب أن يسقى الحرث ومتى يجب أن يرش عليه الأدوية. عندما يتعلم الزراع كل هذه الأمور يبلغ الصراط المستقيم في مجال الزراعة) فيقول u: كذلك عليكم أن تتحروا الصراط المستقيم للقاء الله وادعوه قائلين: يا إلهي أنا عبدك المذنب والساقط فاهْدني. اسألوا الله تعالى حاجاتكم العليا منها والأدنى دون أدنى استحياء لأنه هو المعطي الحقيقي. الأكثر تقاة هو ذلك الذي يدعو الله أكثر لأنه إذا ذهب أحد إلى باب بخيل أيضا كل يوم متسولا فلسوف يستحيي يوما ويعطيه شيئا. فكيف لا ينال شيئا مَن يسأل اللهَ الذي هو كريم لدرجة لا نظير له؟ السائل ينال مبتغاه في وقت من الأوقات حتما. الدعاء هو اسم آخر للصلاة كما يقول الله تعالى: ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ ثم يقول I: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[ بعض الناس يشكّون في وجوده I، بينما يقول الله تعالى بأن الدليل على وجودي هو أنِ ادْعوني واسألوني سأدعوكم وأجيبكم وأذكركم. فإن قلتم بأننا ندعو ولكنه لا يجيب فمَثله كأنكم تدعون -واقفين في مكان- شخصا بعيدا منكم جدا وفي أُذنيكم ثقلٌ، فهو سيجيبكم من بعيد بسماع صوتكم ولكنكم لن تقدروا على سماعه لكونكم صمّ. فكلما تزول الحجب والبُعد سوف تسمعون الصوت. (أي كلما اقتربتم من الله تعالى سمعتم صوته بسهولة) لقد ظل ثابتا منذ أن خُلقت الدنيا أنه U يكلّم عباده الخواص. ولولا ذلك لثبت رويدا رويدا أنه لا وجود له. إذًا، إنّ أمثل وسيلة لإثبات وجود الله أن نسمع صوته وكلامه أو نراه. فإن الكلام في الأيام الحالية ينوب مناب الرؤية. غير أنه ما بقي الحجاب بين الله والسائل لا نستطيع أن نسمع كلامه. ولكن عندما يزول الحجاب الحائل سنسمع صوته.

أقول: إذًا، هناك حاجة لرفع الحجب الحائلة. وقد وعد الله تعالى أنه من يأتيه بالجدية مدركا حقيقة وجوده ويتقدم إليه سيأتيه اللهُ تعالى بنفسه. وقد بيّن النبي r هذا الأمر قائلا: …إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.

فإذا كان هناك نقص فهو فينا، ونحن بحاجة إلى التقرب من الله، وللبحث عن طرقه ولقائه أيضا نحتاج إلى عونه. وحين ندعي مبايعة المسيح الموعود u فيجب علينا أن نسعى كل السعي للتقرب إلى الله، ولا يكفي العمل بقول واحد للمسيح الموعود u بأن ابنوا المساجد للتعريف بالإسلام، بل ثمة حاجة إلى المجهودات العملية لذلك وإلى نصرة الله تعالى، وإذا نلتم نصرة الله تعالى ببذل الجهد أحرزتم الفلاح يقينا، قال المسيح الموعود u عن ذلك:

تذكَّروا أن هناك بركةً في الإقرار بالتوبة لدى البيعة. ولو فرض الإنسان على نفسه تقديمَ الدِّين على الدنيا لأحرز الرقي. (حين يبايع المرء تنشأ له البركة ولكن لو قدم الدين على الدنيا أحرز الرقي) ولكن تقديم الدين ليس بوسعكم، بل هناك حاجة ماسة إلى نصرة الله، كما يقول تعالى: ]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[، أي أن الذين يسعون في سبيلنا يصلون إلى غايتهم في نهاية المطاف. فكما أن البذرة دون بذل المجهود والريِّ تبقى عديمة البركة بل تفنى أيضا، (يزرع الإنسان أو الفلاح البذر وإن لم يُربِّه ببذل الجهد ولم يسقِه سيبقى بلا بركة بل لا ينبت وإذا نبت ظل ضعيفا بل فنى) كذلك لو لم تتذكَّروا أنتم هذا الإقرار كلَّ يوم، ولم تَدْعوا الله تعالى أن ينصركم، لن ينزل فضله. وحدوث التغيُّر بدون نصرة الله محال. (لا يمكن أن يحدث تغير في الإنسان من دون نصرة الله لذا يجب عليه أن يظل يدعوه تعالى لنيل فضله) إن اللصوص والصعاليك والزناة وغيرهم من المجرمين لا يبقون على سوء حالهم كل حين، بل يأتي عليهم وقت يندمون فيه حتما. هذا هو حال كل من يكسب المنكرات، مما يدل على أن الإنسان يفكر في الخير حتما، ولكن تفكيره هذا بأمس الحاجة إلى نصرة الله تعالى، لذلك أمرنا بقراءة سورة الفاتحة في الصلوات الخمس، حيث نقول فيها ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[.

لقد نبهنا الله تعالى فيها إلى أمرين، أولهما: أن نبذل قوانا وتدابيرنا وجهدنا من أجل كل عمل خير، (أي يجب أن يبذل كل ما رزقه الله تعالى من قوى ويقوم بكل ما في وسعه من تدبير وجهد لفعل الحسنة) وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى ]نَعْبُدُ[، لأن الذي يكتفي بالدعاء فقط ولا يبذل جهده فلا ينجح، (الدعاء وحده لا يكفي بل ثمة حاجة  للجهد أو العمل) فالفلاح إذا لم يبذل المجهود بعد بذر البذرة فكيف يتوقع الثمر. هذه سنَّة الله تعالى. إذا بذر البذر واكتفى بالدعاء فقط، فلا بد أن يظل محروما. (إذا لم يسقِ ولم يفلح ولم يرعَ كان محروما) خذوا مثلا فلاحَينِ: أحدهما يجتهد ويحرث الأرض جيدًا، فلا بد أن يحقق نجاحًا أكبر، والآخر لا يجتهد أو يجتهد أقلَّ نسبيًّا فيبقى محصوله ناقصًا على الدوام، وقد لا يستطيع به دفعَ الضرائب الحكومية أيضا، ويظل فقيرًا دائمًا. والحال نفسه بالنسبة إلى أعمال الدين أيضًا. فمن الناس منافقون، ومنهم كسالى، ومنهم صالحون يصلون إلى مرتبة الأبدال والأقطاب، (الناس مثل بعضهم ولكن بعضهم يصبحون منافقين وبعض كسالى لا يعملون شيئا ولكن بعضهم يصلون درجة الأبدال والأقطاب) وينالون درجة القرب عند الله. وهناك مَن يصلّي إلى أربعين سنة، ومع ذلك يبقى على ما كان عليه في اليوم الأول، ولا يحدث فيه أي تغيير، ولا يشعر بأية فائدة من ثلاثين صومًا. (لا يستفيدون شيئا من صوم ثلاثين يوما إذ يعودون إلى حالتهم الأولى بعد رمضان) هناك كثير من الناس الذين يقولون إننا متقون ونصلِّي منذ مدة طويلة، ولكننا لا نتلقى أية نصرة. السبب في ذلك أنهم يعبدون عبادة تقليدية فارغة، لا يفكرون في التقدم الروحاني إطلاقا، ولا يتحرون الذنوب، (لا يسعون ليعرفوا ما هي الذنوب في نفوسهم) ولا يتوبون توبة صادقة، فيَظَلُّون عند خطوتهم الأولى. (إذا انتبه المرء إلى ذنوبه وبحث عنها كانت توبته توبة صادقة وإلا ظل على خطوته الأولى) وأمثال هؤلاء ليسوا بأفضل من البهائم، ومثل هذه الصلوات تجلب عليهم الويل من عند الله تعالى. (لا تُقبل وترد إليهم) الصلاة الحقيقية هي التي تتسبب في التقدم. فمثلا إذا كان هناك مريض يتعالج على يد طبيب ويتناول وصفة الدواء إلى عشرة أيام مثلا وتضره يوما إثر يوم يشك المريض إن لم تنفعه الوصفة بعد كل هذه الأيام ويقول في نفسه بأنها لا تنسجم مع طبيعته فلا بد من تغييرها. فالعبادة على سبيل التقليد لا تنفع شيئا. فلا بد من تغييرها، ولا بد من التفكير لمَ لا تقبل الأدعية مع أن الله تعالى وعد أنه يستجيب الدعوات؟ لذا فالعبادة هي التي تقرّب المرء إلى الله. (الملفوظات).

ما هي حقيقة الصلاة؟ قال المسيح الموعود u عن ذلك: الصلاة هي الدعاء أصلا، فكل كلمة يتفوه بها الإنسان تهدف إلى الدعاء. إن لم يرغب قلبه في الصلاة فليكن جاهزا للعذاب لأن الذي لا يدعو باستمرار يقترب إلى الهلاك رويدا رويدا. فمثلا إذا كان هناك حاكم يعلن مرارا بأنه يرفع عن المتألمين آلامهم ويحل مشاكل الذين يواجهونها ويرحم كثيرا ويساعد المساكين، ثم يمر من قربه شخص يواجه المشاكل ولا يبالي بندائه أدنى مبالاة ولا يستعين به مبيّنا مشكلته؛ فماذا عسى أن يكسب إلا الهلاك والدمار؟ والحال نفسه مع الله تعالى فهو جاهز دائما ليُسعد الإنسان بشرط أن يطلب ذلك أحد. فمن الضروري لإجابة الدعاء أن يجتنب الإنسان المعصية ويدعو بكل قوة وشدة لأنه عندما يُضرب بالزند على الزند تخرج النار. (جريدة بدر رقم25، مجلد3، عدد:1/ 6/1904م، ص6)

فإذا أنشأنا هذه الحالة في أنفسنا بأن تكون صلواتنا وأعمالنا لنيل رضوان الله تعالى فسوف يغير الله تعالى خوفنا أمنًا وتذكروا دوما أن كل ما وجدتموه بعد مجيئكم هنا هو بفضل الله تعالى ولن يزداد إلا بفضله تعالى لذا من الضروري أن تتوجهوا إلى عبادة الله وإلى أداء حقوق عباده لكي تنالوا أفضاله تعالى.

ويمكنكم أن تفحصوا أنفسكم بأنفسكم إلى أي مدى تسعون لإقام الصلاة وإلى أي حد تعلقتم بالله تعالى أو تسعون لذلك، وإلى أي مدى تحول أمور الدنيا دون صلواتنا. ينبغي أن تتذكروا دوما قول النبي r هذا: مَا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلاة. أي كيف يميَّز الكفر من الإيمان؟ إنما بترك الصلاة. فلا بد أن يهزنا هذا القول دوما، فالمؤمن هو الذي يواظب على الصلاة وإلا لا فرق بينه وبين الكافر. ولم يقل الله تعالى أدّوا الصلوات بل قال صلّوها جماعةً والذي يصليها جماعةً يُكتب له خمس وعشرون حسنة أو سَبْعٌ وَعِشْرُونَ في بعض الروايات.

مع كل ذلك إن لم نهتم بهذا الأمر دون أي عذر مشروع فلا يدل ذلك إلا على شقائنا الكبير. فإن أنشأنا المسجد فهناك حاجة ماسة لأداء حقوقه، كما أن هناك حاجة لرفع مستويات عبادتنا والتركيز على تضحياتنا المالية، وثمة حاجة إلى كسب الحسنات ورفع مستويات أخلاقنا ونصح الآخرين بكسب الحسنات، كما أن هناك حاجة لننقذ أنفسنا من السيئات المنتشرة في محيطنا وإنقاذ الآخرين منها أيضا وإلا فسيكون عهد بيعتنا عبارة عن عهد لفظي فارغ. ينبغي أن نراعي دومًا قول المسيح الموعود u، حيث يقول:

“….فكونوا بحيث تصبح إراداتُكم إراداتِ الله ويكمن رضاكم في رضاه، ولا يبقى لكم شيء بل تصيرون كليا له. معنى الصفاء والنقاء أن تُرفع من القلب معصية الله العملية والاعتقادية، فالله سبحانه وتعالى لا ينصر أحدًا ما لم يرَ بنفسه أن إراداته صارت إرادة الله تعالى، وأن رضاه قد تفانى في رضاه سبحانه وتعالى.

لا تسرني أبدًا كثرة أبناء جماعتي. والآن (أي حينما يذكر حضرته هذا الكلام) إذا  كان عدد الأحمديين أكثر من أربعمائة ألف إنسان، فلا تعني أنْ تُسمّى الجماعة جماعة حقيقية بمجرد بيعة الإنسان بوضْع يده في يدي. كلا بل سوف تستحق الجماعة أن تسمى جماعتي في الحقيقة عندما يتمسكون بحقيقة البيعة، ويظهر فيهم التغير الصادق، وتتطهر حياتهم من شوائب الذنوب نهائيا، وينمحوا في رضى الله بعد تخلصهم من أهواء النفس وبراثن الشيطان، ويؤدوا حقوق الله وحقوق العباد كاملة وبكل سرور، ويحدث فيهم اضطراب وحرقة من أجل الدين ونشْرِه، ويكونوا لله وحده بعد إفناء رغباتهم وطموحاتهم وأمنياتهم. يقول الله – سبحانه وتعالى – إنكم ضالُّون إلا من هديتُه، وإنكم عميان إلا من رزقتُه نورًا، وكلكم موتى إلا من سقيتُه شراب الحياة الروحانية فهو وحده حيٌّ. إن الله سبحانه وتعالى يستر الإنسان، وإلا إذا كُشف للناس ما بداخلهم فيوشك أن لا يقترب بعضهم من بعض. فالله ستَّار، فلا يكشف عيوب الإنسان على الآخرين. إذن يجب على الإنسان أن يسعى لإحراز الحسنات، ويواظب على الدعاء كل حين وآن.

اعلموا يقينا أنه إذا لم تكن هناك أي علامة فارقة بين أبناء الجماعة والآخرين، فليس لله أي قرابة بأحد، (أي إن صرنا أحمديين أو بايعنا، ومع ذلك لم يكن هناك فرق بيننا وبين الآخرين فينبغي أن نعرف أنه ليست لله قرابة مع أحد) فلأي سبب يجب أن يكرمكم ويحفظكم من كل سوء، ويهينهم ويعذبهم،  (فإن لم يكن هناك فرق بيننا وبين غيرنا فليست لله قرابة معنا حتى يعزنا ويذل الآخرين ويعرضهم للعذاب. يقول الله تعالى:) ]إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[ (المائدة: 28)، إنما المتقون من يتركون أمورًا تنافي مشيئة الله خوفًا منه، ويرون النفس وأهواءها والدنيا وما فيها لا يساوي شيئًا أمام الله، إنما يتبين الإيمان عند إجراء هذه المقارنة.

بعض الناس يسمعون من أذن وينبذون ما سمعوا من أذن أخرى، ولا يرسخون هذه الأمور في القلوب، ولا يتأثرون مهما نصحتموهم. تذكَّروا أن الله غني، ولا يعبأ بأحد ما لم يصدر منه الدعاء بكثرة وباضطراب. انظروا إذا مرضت زوجة أحدكم أو ابنُه، أو رُفعت ضد أحدكم قضية فكم يصاب باضطراب شديد بسبب ذلك، كذلك الدعاء يظل عديم الجدوى ويعدّ عملا عابثًا ما لم ينشأ فيه الاضطراب، فالاضطراب شرط للقبول، كما قال تعالى: ]أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ[ (النمل: 63).”

ثم يقول حضرته:

“أشرِكوا في إصلاحكم أهلكم وذريتكم، (من واجبكم الاهتمام بإصلاح الأهل والأولاد) إنما ينصر الله أولئك الذين يتقدمون على درب الحسنات، ولا يستقرون في مكان واحد، وهم الذين تكون عاقبتهم حسنة، فقد لاحظنا بعض الناس يتمتعون بشوق وذوق ورقة لكنهم لاحقًا يستقرون في مكان، ولا تكون عاقبتهم محمودة. لقد علَّمَنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم دعاء: ]وأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي[ (الأَحقاف: 16)، أي أصلح زوجتي وأولادي أيضًا، يجب الدوام على الدعاء لحدوث التغير الطاهر في الذرية والزوجة بالإضافة إلى أنفسكم، لأن الإنسان في أحيان كثيرة يُبتلى بسبب أولاده، وأحيانا بسبب الزوجة. فانظروا إن الفتنة الأولى التي أصيب بها آدم u كانت بسبب زوجته، كما يتبين من التوراة أن إيمان بلعام قد حبط عند مواجهته موسى u  ويتبين أنه كان سببه أن الملك كان قد أغرى زوجة بلعام بالحلي ضد موسى وهي بدورها حثّته على الدعاء على موسى u، باختصار، يتعرض الإنسان للابتلاء في أحيان كثيرة بسبب الأهل والأولاد أيضا، فيجب الاهتمام الكافي بإصلاحهم، ويجب الدعاء لهم أيضًا باستمرار. (الحكم مجلد 12 رقم 16 صف 4 – 6 مؤرخة 2/ 3/1908)

وفقنا الله تعالى لإحداث التغييرات الطيبة في أنفسنا، ولإقامة صلواتنا ثم لرفع مستوياتها إلى الأعلى، ولنطهر أموالنا ونرقّي أخلاقنا ونكسب الحسنات ونعممها، وأن نكون من الذين يمتنعون من السيئات ويمنعون ذراريهم منها أيضا، وينبغي إلى جانب إنشاء المساجد أن نبلغ رسالة الإسلام الحقيقية إلى مواطني هذا البلد وننشرها في محيطنا أيضا. ولا يتأتى ذلك إلا إذا أحدثنا تغييرات طيبة وسامية في أنفسنا، وفقنا الله لذلك، آمين.

والآن أقدّم بعض المعلومات عن هذا المسجد. لقد سمّينا هذا المكان “مهدي آباد”، ولكن اسم هذه القرية التي أنشأنا فيها هذا المسجد هو “ناهي”. إن عدد أفراد الجماعة هنا قليل. وإن هذه الأراضي التي اشتُريت في 1989 كانت زراعية، وجزء من هذه الأراضي أجّرته الجماعة للزراعة. كان بها بيت ريفي ومبنى أخرى سُمح لنا باستخدامها كمركز للجماعة، ثم أخذنا إذنًا لتحويل القاعة الكبيرة فيها إلى مسجد، وكل هذه الأعمال تمت بواسطة العمل التطوعي. المبنى كان ذا طابقين وأحدهما كان يستخدم كبيت للمبشر. ثم في عام 2010 اعتبرت البلدية جزءًا من هذه الأراضي الزراعية أرضًا سكنية، وبالتالي قُسمت إلى 12 قطعة أرضية لإنشاء البيوت فيها كما سُمح لنا بإنشاء المسجد فيها. لقد اتخذت الجماعة قطعتين من هذه القطع الـ 12 وباعت البقية، فإن المبالغ المالية التي حصلت عليها الجماعة -ببيع هذه القطع ولقاء الجزء الذي استرجعته البلدية من الجماعة- كانت أكثر من ثمن الأرض الذي دفعته الجماعة عند شرائها. على أية حال، لقد وضعتُ حجر أساس لهذا المسجد قبل ستة أو سبعة أعوام بل قبل ثمانية أعوام تقريبا، والآن اكتمل بناء هذا المسجد وهو بطابقين، تقدر مساحة الجزء المسقف منه بـ 385 مترًا مربعًا، وهو يتسع لـ 210 مصلين. الجزء العلوي للرجال والجزء السفلي للنساء، كما أن هناك أماكن للوضوء والحمامات وغيرها. كانت كلفة بناء هذا المسجد هي 570000 يورو تقريبا، تبرع أفراد الجماعة المحلية من هذه الكلفة أكثر من مئتي ألف يورو أما بقية الكلفة فقد تم أداؤها من صندوق مشروع مئة مساجد. بارك الله في أموال جميع المضحين ونفوسهم، وبعد إنشائهم هذا المسجد نسأل الله تعالى أن يوفقهم لأداء حق العبادة أكثر من ذي قبل، آمين.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز