خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 29/11/2019

في مسجد بيت الفتوح بلندن

*********

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم ]الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين[.

كان يزيد بن ثابت t من الصحابة البدريين، وكان أنصاريا من الخزرج من بني مالك بن النجار. والده هو ثابت بن الضحاك، وأمه النوَّار بنت مالك. كان يزيد الأخ الأكبر لزيد بن ثابت. تزوج يزيد دُبية بنت ثابت. شهد يزيد بن ثابت غزوتي بدر وأحد، واستشهد في حرب اليمامة في خلافة سيدنا أبي بكر t في العام 12 من الهجرة. وفي رواية أنه أصيب بسهم في وقعة اليمامة وتوفي وهو في طريق العودة.

وروى يزيد بن ثابت أَنَّهُمْ كَانُوا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ r فَطَلَعَتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r وَقَامَ مَنْ مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى نَفَذَتْ أي مرّت. وقد وردت هذه الواقعة في رواية أخرى بالتفصيل كالآتي:

عن يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ r فِي أَصْحَابِهِ، فَطَلَعَتْ جِنَازَةٌ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله r ثَارَ وَثَارَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى نَفَذَتْ، قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ تَأَذٍّ بِهَا أَوْ مِنْ تَضَايُقِ الْمَكَانِ (أي لا أدري هل قام النبي r بسبب أنه تأذى بالجنازة أو بسبب ضيق المكان)، وَلَا أَحْسِبُهَا إِلَّا يَهُودِيًّا أَوْ يَهُودِيَّةً، وَمَا سَأَلْنَا عَنْ قِيَامِهِ r.

هذه الرواية من مصدر تاريخي، أما الرواية التالية فهي من سنن النسائي، وهي عن يزيد بن ثابت t أنهم خرجوا مع رسول الله r ذات يوم فرأى قبرا جديدا، قال: ما هذا؟ قالوا: هذه فلانة مولاة بني فلان، فعرَفها. قالوا ماتت ظهرا، وكنتَ قائلا نائما فلم نحبّ أن نؤذنك بها، فقام وصفّ الناسَ خلفه، وكبّر عليها أربعا. (أي أن النبي r صلى الجنازة على قبرها بعد أن أمرهم بأن يصطفوا وراءه) ثم قال r: لا يموت منكم ميت وأنا بين ظهرانيكم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة. لقد وردت هذه الرواية في مسلم وسنن أبي داود وابن ماجة أيضا.

وقد وردت هذه الواقعة في ابن ماجة مفصلةً كالآتي: عن  يزيد بن ثابت، وكان أكبر من زيد، قال خرجنا مع رسول الله r، فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه، فقالوا فلانة. فعرَفها. فقال: أفلا آذنتموني بها؟ قالوا كنتَ قائلا صائما فكرهنا أن نؤذنك. فقال: لا تفعلوا لا أعرفنَّ، (أي لا تفعلوا شيئا لا أعرفه، أي لم آمركم قط أن تفعلوا هكذا) ما مات منكم ميتٌ ما كنتُ بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي عليه له رحمة. ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ، فَصَفَّنَا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.

وهناك رواية أخرى في صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ r فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا مَاتَتْ. قَالَ فَهَلَّا آذَنْتُمُونِي؟ دُلُّوني على قبرها. فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وكتب شارحٌ لسنن ابن ماجة في “إنجاز الحاجة” أن هذه كانت امرأة سوداء، وقال الإمام البيهقي إن اسمها أم محجن، بينما قال ابن مندة اسمها الخرقاء، وكانت من الصحابيات. من الممكن أن الخرقاء اسمها، وأم محجن كنيتها، أي أن كلا الإسمين صحيح.

والصحابي التالي ذِكْرُه هو معوذ بن عمرو بن الجموح. وهو من الأنصار من الخزرج من بني جشم. والدُه عمرو بن الجموح، وأمه هند بنت عمرو. حضرَ معوذ بن عمرو بن الجموح غزوةَ بدر مع أخويه معاذ وخلاد، كما حضرَ غزوةَ أُحد أيضا. وعمرو بن الجموح، والدُ معوذ، هو الشخص الذي منعه أبناؤه من الخروج لغزوة بدر بسبب عَرَجِهِ وأذاه في رجله، وقد تحدثت عنه مرة في إحدى خطب الجمعة، وأذكر قصته باختصار هنا أيضا. قال لبنيه عند غزوة أُحد لقد منعتموني الخروج لغزوة بدر، لكني سوف أخرج حتما لغزوة أُحد ولن تستطيعوا منعي من ذلك، فتوسل له أبناؤه كثيرا وقالوا إن برجلك عرجا شديدا، وقد وضع الله عنك الجهاد، لكن عمرو بن الجموح لم يرض بقولهم، وأتى رسولَ الله r فقال له: يا رسول الله، إن بَنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك بسبب الأذى برجلي، لكني أريد أن أحضر الجهاد معك. فقال له رسول الله r: أما أنت فمعذور، وقد وضع الله عنك الجهاد. غير أن الرسول r سمح له بالخروج نظرًا لحماسه، فأخذ عمرو بن الجموح سلاحه وقال اللهم ارزقْني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي خائبا. وبالفعل حقّق الله أمنيته واستُشهد في ساحة القتال في أُحد.

بعد استشهاده حملته زوجته هند على بعير لها وعليه أخوها عبد الله بن عمرو أيضا، وقد دُفنا في قبر واحد، ولقد قال رسول الله r: “والذی نفسي بيده…لقد رأيت عمرو بن الجموح يطأ فی الجنة بعُرْجَته.”

والصحابي الآخر الذي أتناول ذكره هو بشر بن البراء بن معرور من الأنصار من بني عبيد بن عدي من الخزرج. وقيل أنه كان من بني سلمة. والده البراء بن معرور، واسم والدته خليدة بن قيس. كان والد بشر من الإثني عشر نقيبًا الذين عيّنهم النبي r، وكان هو نقيبًا لبني سلمة. توفي البراء بن معرور في سفر قبل قدوم النبي r إلى المدينة بشهر، فلما قدم النبي r المدينة بعد الهجرة توجه إلى قبر البراء وكبّر أربعًا.

شهد بشر مع والده بيعة العقبة الثانية، وكان من الرماة المهرة من صحابة الرسول r. آخى النبي r بينه وبين واقد بن عبد الله بعد هجرته من مكة إلى المدينة. شهد بشر مع النبي r بدرًا وأُحدًا والخندق والحديبية وخيبر.

عن عبد الرحمن بن عبد الله قال: قال رسول الله r: من سيدكم يا بني نضلة؟ وفي بعض الروايات قال: يا بني سلمة، قالوا: جد بن قيس. قال: لم تسودونه؟ فقالوا: إنه أكثرنا مالا، (أي إنه رجل ثري وكبير منا لأجل ذلك جعلناه سيدًا لنا)، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك قالوا: (وَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ لَنَزُنُّهُ بالبخل وهذا ما لا يعجبنا منه). فَقَالَ النَّبِيُّ r: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ؟ ليس ذا سيدكم. قالوا: فمن سيدنا يا رسول الله؟ قال: بشر بن البراء بن معرور. أي لقد قال النبي r عن الصحابي الذي نتناول ذكره بأنه سيدكم. وفي رواية قال النبي r: سَيِّدُكُمُ الْجَعْدُ الأَبْيَضُ بشر بن البراء بن معرور.

تزوج بشر قبيسة بنت صيفي، وولدت له بنتًا اسمها العالية، وأسلمت قبيسة، وبايعت رسول الله r.

عن ابن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله r قبل مبعثه. أي لما كانوا يحاربون الأوس والخزرج فكانوا يستفتحون عليهم، ويستنصرون قائلين: اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك الذي وعدتنا أنك باعثه.

هكذا كانوا يدعون الله تعالى ولكن لما بعث الله تعالى النبي r كفروا وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. هذا هو دأب المنكرين دومًا. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد r وتخبروننا ونحن أهل الشرك بأنه مبعوث وتصفون بصفته وتذكرون علاماته، وكنتم تقولون بأن هذا النبي مبعوث. فها قد بعث الآن، فلماذا لا تؤمنون به؟

فقال اليهودي سلام بن مشكم أخو بني النضير وكان مشرفًا على خزينتهم وهو زوج زينب بنت حارث التي قدّمت للنبي r في خبير لحمًا مسمومًا، على أية حال لقد أجاب سلام: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم. مع أن جميع العلامات كانت قد تحققت إلا أنهم ظلوا يقولون ما جاءنا بشي نعرفه، فلم تتحقق تلك العلامات وبالتالي لن نؤمن به. فأنزل الله تعالى: ]وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ[ (البقرة: 90)

عن الزبير بن العوام قال: لقد رأيتني مع رسول الله r يوم أُحد حين اشتد علينا الخوف، فأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا ذقنه في صدره، (أي خفضت الرؤوس نحو الصدور من شدة النوم). فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، (كان معتب بن قشير صحابيًا من الأنصار، شهد بيعة العقبة وبدرًا وأُحدًا) فحفظتها لما سمعتها هكذا في حالة من النعاس. فأنزل الله تعالى في ذلك: ]ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ[ (آل عمران: 155)

عن كعب بن عمرو الأنصاري قال: لقد رأيتني يوم أحد في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول الله r وقد أصابنا النعاس أمنة منه. أي كان مريحًا جدًّا. كانت حالة الحرب، وفي هذه الحالة كان النعاس يخيم علينا براحة وسكون، فما منا رجل إلا يغط غطيطًا حَتّى إنّ الْحَجَفَ لَتَنَاطَحَ. (أي كان صوت الغطيط يخرج من صدورهم، وأحيانًا يصيب الإنسان مثل هذه الحالة) يقول: وَلَقَدْ رَأَيْت سَيْفَ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ (أي الصحابي الذي نحن بصدد ذكره) سَقَطَ مِنْ يَدِهِ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ وَإِنّ الْمُشْرِكِينَ لَتَحْتنَا. على أية حال، يمكن أن يكون هذا شعور كعب بأن السيف سقط من يد بِشر بسبب غلبة النعاس لأن الحقيقة هي أنه قد غشيهم النعاس ولكنهم حتى في هذه الحالة كانوا ماسكين أسلحتهم بكل قوة بحيث إن أوشك السلاح على الانفلات من يدهم شعروا بهزة وانتبهوا. على أية حال، لقد شرح الخليفة الرابع رحمه الله كلمة النعاس المستخدمة هنا في أحد دروسه وقال: يمكن أن يُترجم التعبير: ]أمَنَةً نُعَاسًا[ بطرق مختلفة ويتلخص معناه في أنه تعالى أنزل عليكم بعد الغمّ سكينة يمكن أن يُعبَّر عنها بالنوم، أو النعاس الذي فيه الأمن والسلام، أو الأمن الذي يحمل في طياته تأثيرا شبيها بالنوم أو كان مشمولا في النوم. فهذا هو المعنى لـ “أمنة نعاسا”. كذلك الغفوة البسيطة المؤقتة التي ينخفض فيها رأس المرء قليلا أيضا تسمى نعاسا. ولكن ليس المراد من النعاس هنا هذا النوع من الغفوة بل المراد هو الحالة بين النوم واليقظة، بحيث تأتي قبيل الخلود إلى النوم مرحلة يطرأ فيها الهدوء على الأعصاب، وهي التي تسمى السكينة العميقة، ولو طالت هذه السكينة لتحولت إلى النوم. ولو بدأ المرء بالمشي في هذه الحالة لن يسقط بل سيشعر بهزّة قبل السقوط ويدرك في أية حالة هو. أما إذا خلد إلى النوم فلا تتسنى له السيطرة على أعصابه.

على أية حال، يمكن أن يكون بِشر بن البراء قد أصيب بالنوم العميق في تلك الحالة، ولكن تلك الحالة كانت حالة سكينة على الرغم من القتال. ولكن في هذه الحالة يشعر المرء فورا أنه لاجئ إلى نوم عميق، ثم يستيقظ بهزة. فيقول الله تعالى أنه أنزل عليكم حالة من السكينة الشبيهة بالنوم، ولكن لم يكن النوم عميقا إلى درجة يفقد فيها الإنسان سيطرته على أعصابه. أي أن النوم سبَّبَ لكم السكينة ولكنها لم تعَطّلْكم. وقد جاء في صحيح البخاري: حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ.

إذًا، يتبين من هذا الحديث أن النوم لم يكن من نوع لتسقط الأشياء من أيديهم أو ليسقطوا بأنفسهم وهم يمشون. كانت السكينة مستولية عليهم ومع ذلك كانوا مسيطرين على أعصابهم إلى حد ما. أي لم يطرأ عليهم النعاس بغتة، بل هذه الحالة ظلت مسيطرة عليهم إلى بعض الوقت.

وفي رواية في الترمذي: عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ وَمَا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا يَمِيدُ تَحْتَ حَجَفَتِهِ مِنْ النُّعَاسِ. أي قد طرأت على الصحابة هذه الحالة بسبب السهر أو التعب. وفي هذه الحالة أنزل الله تعالى عليهم السكينة. فكان المشهد عاما ولم تكن الحالة شبيهة بالتي تطرأ صدفة على مجاهد واحد متعب، بل يقول الخليفة الرابع رحمه الله بأن جميع المجاهدين الذين كانوا يحاربون مع رسول الله r ضد العدو نزل عليهم جميعا شيء من السماء بغتة وغشي تلك الحالة السائدة، إذ كانوا بحاجة شديدة إلى ذلك الشيء أي السكينة لإنعاش أعصابهم وتنشيط أنفسهم مجددا ولم يكن هناك مجال للنوم. ففي الحالة المذكورة من التعب تطرأ على الإنسان هذه الحالة عادة.

باختصار، إن لجوء القوم كلهم إلى النوم معا في حالة القتال الجاري وذلك في حال الخطر المحدق من قِبل العدو إنما هي معجزة وليس حادثا مفاجئا. وقد يحدث هذا مع بعض الناس، ولكن لا يكون حادثا مفاجئا بل هو معجزة. فقد أنزل الله تعالى عليهم في ذلك الوقت سكينة خاصة.

يوم خيبر أكل بِشر مع رسول الله r لحم شاة سمّتها يهودية وأهدته للنبي r. ابتلع بِشر لقمته ولم يكن قد تحرك من مكانه إلا وقد اسودّ لونه مثل “طلسان” (وهو نوع من القماش الذي يغلبه لون أسود) ساءت  حالته بسبب الألم بحيث ما كان قادرا على قلب جانبه دون الاستعانة بأحد إلى عام كامل حتى مات وهو في هذه الحالة. وقد قيل أنه (أي بِشر) لم يتحرك من مكانه بل مات فور تناوله ذلك الطعام لأنه كان مسموما بشدة. وعندما توفي بشر بن البراء وجدت أمّ بِشر عليه وجدا شديدا، فقالت: يا رسول الله إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة، فهل يتعارف الموتى فأرسِلَ إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول الله r: نعم، والذي نفسي بيده يا أمّ بشر، إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رؤوس الشجر.

وفي رواية ما مفاده أنه كلما احتضر أحد من قبيلة بني سلمة كانت أمّ بِشر تقول له (بعد أن سمعت من النبي r الكلام المذكور آنفا) السلام عليك يا فلان، فيرد عليها السلام، فتقول: بلّغ سلامي إلى بِشر.

كان بِشر من بني سلمة، وكان هذا أسلوب كلام أمّ بِشر حين قالت: يا رسول الله إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة، فهل يتعارف الموتى؟ أي إن وفاة بِشر صدمة كبيرة لنا، وهل يمكن إبلاغ السلام إلى بِشر؟ وعندما أجابها النبي r بنعم، كانت تهديه السلام مع كل محتضر من بني سلمة وتقول: بلِّغْه سلامي في الجنة.

وفي رواية: كان رسول الله r قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور “يا أمّ بشر في هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر”.

كتب المصلح الموعود t في ذكر هذا الحدث مفصلا أن امرأة يهودية سألت الصحابةَ ماذا يحب النبي r من اللحم فأخبروها أنه r يحب الذراع أكثر، فذبحت شاة وشوتها على الحجر ودسّت فيها السم خاصة في الذراع لأنها كانت أُخبرت أن رسول الله r يحبها أكثر، ثم بعد غروب الشمس حين كان النبي r عائدا إلى منزله بعد صلاة المغرب رأى امرأةً جالسة قرب خيمته r فسألها: ما بالك؟ فقالت: يا أبا القاسم قد أتيت بهدية لك، فقال النبي r لأحد الصحابة: خذ منها ما تهديه. ثم جلس r للعَشاء فكان من بين الطعام شاة مصلية، فأكل منها لقمة كما أكل منها بشير بن البراء بن معرور t أيضا لقمة. ورد اسمه في كتب التاريخ بِشر بن البراء ولكن في بعض الكتب ورد بشير بن البراء أيضا.

كتب المصلح الموعود t هنا بشير، والمراد هو بشر بن البراء. ومدّ الصحابةُ الآخرون أيضا أيديهم لتناول اللحم، فقال لهم النبي r: “ارفعوا أيديكم فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنّها مسمومة”، وهذا لا يعني أنه كان تلقى وحيا بل هذا تعبير عربي معناه أنني علمتُ بطعم هذا اللحم أنه مسموم، فالجملة التالية توضح هذا المعنى. بيّن المصلح الموعود t بنفسُه تفصيله فقال: ورد في القرآن الكريم في قصة موسى u عن جدار أنه كان ]يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ[ (الكهف:78) أي تلاحَظ فيه أمارات الانهدام. وهنا أيضا استُخدم التعبير مثله. ثم قال t: فقال بشير أي بشر بن البراء: والّذي أكرمك لقد وجدت ذلك من أكلتي التي أكلتها، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أنغص إليك طعامك، (أي لم أكن مرتاحا وشعرت أن فيه شيئا) فلما تسوغتَ ما في يدك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت ألا تكون ازدردتها. وبعد قليل ساءت حالة بشير، وفي بعض الروايات أنه توفي في خيبر نفسها، وفي بعضها الآخر أنه مرض لفترة ثم مات. فطلب النبي r أن يُلقى بعض هذا اللحم إلى كلب فأكل ومات فورا، ثم دعا النبي r المرأة وقال لها: هل سممت الشاة؟ فقالت من أخبرك؟ فقال وكانت في يده r ذراع الشاة: هذه الذراع أخبرتني. فعلمت المرأة أن الأمر قد انكشف فأقرت أنها سممته، فسألها النبي r: وما حملك على هذا الفعل الشنيع؟ قالت: كنت تقاتل قومي فقُتل بعض أقربائي في هذا القتال، فقلتُ في نفسي: أطعمه السمّ فإن كان نبيًّا يحميه الله تعالى وإن كان غير ذلك نجونا منه؛ فتجاوز عنها النبي r ولم يأمر بقتلها مع أنها كانت تستحق القتل. هذا الحادث يخبرنا أن النبي r كان يعفو عمن كان يسعى لقتله ولقتل أحبابه، ولم يكن يعاقب إلا إذا رأى أن حياة هذا الشخص سوف يتسبب في الفتن الكثيرة في المستقبل.

وهناك رأي عام ويعترض بعض الأعداء أيضا بأن النبي r تُوفي نتيجة هذا السم ويقبل بعض أصحاب السيرة أيضا مثل هذه الروايات التي تذكر أن وفاته r كانت نتيجة السم، وذلك لكي يعطوا النبي r مقامَ الشهيد، ولكن الحق أن هذا الشيء ليس صحيحا، لقد كتبت “خلية البحث” في الجماعة أيضا ملحوظة سأقرأها عليكم، ورد فيها أنه من المسلّم به في كتب التاريخ والسيرة كما في كتب الحديث أن النبي r لم يمت بسبب السم والذي يقول ذلك فهو إما لم يطلع على جميع الروايات أو هو مخطئ، ليكن واضحا أن حادث التسميم حدث في غزوة خيبر الذي وقع في آخر العام السادس من الهجرة أو آخر العام السابع أو في بداية العام السابع للهجرة، وعاش النبي r بعده أربع سنوات تقريبا وعاش حياة مشغولة وشهد المشاهد كالسابق ولم تتأثر عباداته وأعماله الأخرى وبعد أربع سنوات أصيب بالحمى والصداع ثم توفي، فلا يمكن لعاقل القول بأن السمّ أثّر فيه بعد أربع سنوات، والحق أن في صحيح البخاري وفي كتب الحديث الأخرى رواية عدم فهم معناه أدى إلى هذا الاعتقاد بأن النبي r تُوفي بسبب هذا السم مع أنه اعتقاد باطل، وهذه الرواية لصحيح البخاري كالتالي: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ r يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَـمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّم. (صحيح البخاري، باب مرض النبي r ووفاته) هذا هو الحديث الذي يستنتج منه بعض المفسرين المسلمين وبعض المحدثين أيضا بأن النبي r تُوفي نتيجة هذا الأذى.

ونضع ذلك في البال حين يقدمون تفسيرا أنه r يمكن أن يُعدّ شهيدا أيضا، أو يعد شهيدا عند البعض. لكن هذه الرواية لا تدعم ذلك، وإنما تذكر ألما فقط ذكَره النبي r في تلك المناسبة. وكل واحد يعرف أن الألم المادي أو الجرح يظهر في الخارج في بعض الأحيان في مواقع معينة. إذا خُضنا في تفاصيل تناوله r اللحم المسموم في خيبر، نجد فيها أيضا أنه r كان قد تناول اللحم المسموم ولم يكن قد بلعه، وحتى لو كان قد بلعه فحياته المليئة بالنشاط والحيوية التي عاشها بعد ذلك تُثبت أن ذلك الحدث لم يكن سبب الوفاة بحال من الأحوال. غير أن الضرر الذي أصاب معدته وأمعاءه r بسبب ذلك السم قد ازداد، وهذا طبيعي ويحدث في مثل هذه الأوضاع. ولما كان حضرته r قد وضع ذلك اللحم في فمه فقد انجرح به حلقُه، وكان أحيانا يتألم أثناء تناوُل الطعام. وهذا الحدث موجود بتفاصيله في الأحاديث، وقد ورد فيها أنه r كان قد علم بأن اللحم مسموم وكان قد نهى الصحابة عن تناوُلِه، ثم طلبَ المرأةَ التي قد سممت اللحم، فقالت قد سممنا اللحم إيمانا منا بأنك إذا كنت رسولا صادقا من الله فسوف تنجو وإلا سنتخلص منك. فالجدير بالملاحظة هنا أن اليهود يعلنون أنه r كان قد نجا، وحين علمت تلك المرأة اندهشت كيف نجا r من هذا اللحم المسموم جدًّا. وقد ورد في بعض الروايات أن تلك المرأة كانت قد أسلمت. فمهما يكن من أمر إن اليهود يعترفون بأنه r لم يمت بسبب ذلك السم، ويعدّون نجاته معجزة. لذا ليس من الصواب بتاتا القولُ إن حضرته كان قد توفي بسبب ذلك السم. والبقية في المستقبل.

الآن أود أن أذكر مرحومَين سأصلي عليهما جنازة الغائب بعد صلاة الجمعة والعصر، أولهما السيد نصير أحمد ابن السيد علي محمد من راجن بور، فقد توفي في 21/11/2019 عن عمر يناهز 63 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان أول أحمدي في عائلة المرحوم جدَّ والده دين محمد الذي كان من سكان قرية “ملسيان” في مديرية “زِيرهْ” في محافظة “فيروز بور”، وكان قد بايع مع أخيه إلهي بخش في عام 1907 عبر المراسلة، ثم بايع على يد سيدنا الخليفة الأول t بمناسبة الجلسة السنوية في قاديان عام 1908. المرحوم نصير المحترم قد خدم الجماعة بصفته نائب أمير المحافظة، ونائب زعيم أنصار الله، ورئيس الجماعة في مدينته أيضا. كان يلتزم بالصلوات الخمس، وكان يولي هذا الأمر اهتماما ملحوظا، كان يسكن مع العائلة الكبيرة، وكان يذكِّر إخوته وأولادهم وبناتهم في الدار بالصلاة في وقتها. عند الفجر كان يتجول في الدار الكبيرة حيث كانت تقيم عائلات إخوته معا. كان يوقظ الجميع لصلاة الفجر، وكان يتلو القرآن الكريم بنفسه ويسأل غيره من الأقارب والأولاد هل قرأوه أم لا، وإذا لاحظ التقاعس عن ذلك نصح بتلاوته بانتظام. كما كان يقرأ كتب سيدنا المسيح الموعود u بنفسه وينصح أولاده وأقاربه من الإخوة وأولادهم بقراءتها، كذلك كان يستمع إلى خطبتي على ايم تي ايه بانتظام، ويتأكد هل استمع إليها جميع السكان في هذه الدار أم لا. ولم يكن يفوّت أي فرصة لنشر الدعوة رغم المعارضة الشرسة، وعندما كان أهله يحذرونه بسبب الأوضاع كان يقول بأي وجْه سأقابل اللهَ I بعد عدم إيصال رسالة مبعوثه إلى الناس؟ كان المرحوم منخرطا في نظام الوصية، ترك إضافة إلى الزوجة ابنةً وثلاثة أبناء. أحد أولاده السيد خالد أحمد يخدم الجماعة كداعية أحمدي في مالي بأفريقيا الغربية، ولكونه في ميدان العمل لم يستطع أن يلحق بجنازة أبيه. رفع الله I درجات المرحوم وغفر له، ووفَّق أولاده وأجياله القادمة أيضا للمحافظة على حسناته.

الجنازة الثانية للسيد عطاء الكريم مبشر ابن ميان الله دِتَّا من سكان قرية “كِرتو” بمحافظة “شيخُوبوره” وكان يقيم حاليا في كندا. توفي في 13/11/2019 عن عمر يناهز 75 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان أول أحمدي في عائلة المرحوم والده ميان الله دتا المحترم الذي بايع على يد سيدنا المصلح الموعود t في عام 1934 وبعد مبايعته عاش حياته كلها كواقف الحياة، حيث كان دوما ينشغل في الدعوة، وبايعتْ بدعوته عائلات كثيرة، وخدم الجماعةَ طوال حياته بروح الوقف. وإضافة إلى ذلك خدم الجماعة بمناصب مختلفة ما دام في لاهور باكستان. وفي 2007 هاجر إلى كندا واستقر هناك، وخدم الجماعة بصفته سكرتيرا للإشاعة في مدينته، وبسبب مرضه في الرئتين كان يتلقى الأوكسيجين دوما، وكان يحضر المسجد بانتظام على كرسي المعاقين، ما دامت صحته سمحت له بذلك. ولقد قاوم المرض بمنتهى الهمة ولم يشتكِ قط، وكان يكنّ عواطف الإخلاص والوفاء والحب لنظام الجماعة والخلافة، وكان ذكيّا جدا وسديد الرأي. وكان نقي القلب ومخلصا. وكل فرد من أفراد عائلته يقول كان له علاقة خاصة بالمرحوم. فكان رجلا مخلصا ونافعا، لم يشتك من أحد قط، وكانت له علاقات الصداقة والحب مع الجميع. كان المرحوم منخرطا في نظام الوصية. ترك إضافة إلى أرملته ابنتين وابنين. أحد أولاده عطاء المنان طاهر المحترم داعية أحمدي، ويخدم الجماعة بصفته نائب الناظر في مكتب رئيس صدر أنجمن أحمدية في ربوة. وأحد أحفاده جاذب أحمد يدرس في الجامعة الأحمدية في كندا. كان المرحوم الأخَ الأكبر للشاعر الأحمدي المعروف عبد الكريم قدسي المحترم. غفر الله له وتغمده بواسع رحمته ورفع درجاته ووفَّق أولاده وأجياله القادمة أيضا للمحافظة على حسناته. آمين

 

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز