خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 13/12/2019

في المسجد المبارك إسلام آباد بالمملكة المتحدة

 *********

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم ]الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين[.

في الخطبة الماضية كنت أذكر هلال بن أمية t، وقد تخلل ذلك ذكرُ غزوة تبوك. كان هلال بن أمية ممن تخلفوا عن تلك الغزوة. بعد العودة منها أبدى رسول الله r سخطه على من تخلفوا وعاقبهم أيضا. فكان أصحابه الثلاثة الذين خُلِّفوا مضطربين وقلقين جدا فاستمروا في الخضوع أمام الله تعالى والاستغفار والتوبة إليه حتى قبِل الله تضرعات هؤلاء الصحابة الثلاثة بمن فيهم هلال بن أمية أيضا، وأنزل آية تتضمن العفو عنهم.

على أية حال، فقد ذُكر بهذا الشأن حجم التضحيات التي قدمها الصحابة في سبيل الاستعداد لهذه الغزوة. وقيل أيضا أن بعض الناس الذين كان في قلوبهم نفاق لم يشتركوا في الغزوة وأخذوا يقدمون أعذارا واهية أمام النبي r وتحاشوا الخروج للغزوة، ففوّض r أمرهم إلى الله تعالى. الآن سأقدم بعض الأمور الأخرى في هذا السياق.

الذين اختاروا عدم الخروج مع النبي r كان منهم شخص اسمه الجدّ بن قيس. قال له النبي r ما مفاده: ألا تخرج معنا لقتال الروم؟ ولكنه قدم عذرا قائلا بأنه قد يفتتن بسبب النساء، وقال أيضا أن عليه مسؤوليات البيت إلى جانب بعض الأمور الأخرى، فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني… فأعرض عنه رسول الله r وقال: قد أذنتُ لك. فأنزل اللهُ الآية:] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ[

كان في المدينة يهودي اسمه سويلم، وكان يسكن في منطقة جاسوم التي تسمى بئر الجاسم أيضا. (وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان في المدينة إلى جهة الشام) كان ماؤها عذبا وقد شرب منها النبي r وأُعجب بمائها. كان بيت هذا اليهودي مركز المنافقين. وبلغ النبي r أن المنافقين يجتمعون فيه، ويثبِّطون الناس عن رسول الله r في غزوة تبوك. فأمر r عمارَ بن ياسر أن يذهب إليهم ويسألهم هل قالوا كذا وكذا؟ وإن أنكروا فقل لهم أنه قد بلغنا أنكم قلتم كذا وكذا. عندما وصل عمار إليهم وقال لهم ما أمره النبي r، جاؤوا إليه r  يعتذرون. وقد بيّن الله تعالى حالهم هذه في آيات: ]يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[

إذًا، هذه كانت الظروف السائدة آنذاك، وقد خطط المنافقون لعدم الخروج واخترعوا لهذا الغرض أعذارا، وحرضوا اليهود. ومنهم من قدموا أعذارا إلى النبي r بعد عودته، ولكنه فوّض أمرهم إلى الله تعالى. عندما رجع النبي r من غزوة تبوك ووصل قريبًا من المدينة قال: لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ. (أي حبسهم المرض أو عذر مقبول آخر، فلم يتمكنوا من الاشتراك في الغزوة على الرغم من أمنيتهم لذا قد عدّهم الله منكم).

عند العودة من غزوة تبوك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r إِنِّي مُسْرِعٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ مَعِيَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ. فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ خَيْرَ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r خَيَّرَ دُورَ الْأَنْصَارِ فَجَعَلَنَا آخِرًا فَأَدْرَكَ سَعْدٌ رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَيَّرْتَ دُورَ الْأَنْصَارِ فَجَعَلْتَنَا آخِرًا فَقَالَ أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ. (صحيح مسلم)

عندما رجع النبي r من هذا السفر استقبله أهل المدينة رجالا ونساء وصغارا وكبارا، عند ثنية الوداع. (ثنية الوداع مقام قريب من المدينة حيث كان المسافرون من المدينة إلى مكة يودَّعون في هذا المقام لذلك سمّي بثنية الوداع) يقول المؤرخون وأصحاب السِّيَر أنه عندما هاجر النبي r من مكة وجاء إلى المدينة من جانب  قباء كانت ثنية الوداع بهذا الجانب أيضا.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله r المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:

طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع

يرى بعض من شراح الحديث مثل العلامة ابن حجر العسقلاني الذي شرح صحيح البخاري أنه من الممكن أن ما ورد في قول عائشة رضي الله عنها (الذي قرأته عليكم قبل قليل) قد تكون له علاقة مع عودة النبي r من تبوك لأن الناس بمن فيهم الأولاد الصغار استقبلوا النبي r في ثنية الوداع لأن الناس كانوا يستقبلون القادمين من الشام في هذا المقام. فلما علم أهل المدينة بمقدم النبي r من غزوة تبوك خرجوا من المدينة فرحين مسرورين لاستقباله r.

وفي رواية أن السائب ابن يزيد يقول: إني لأعقل مقدم النبي r من غزوة تبوك، خرجت مع الصبيان إلى ثنية الوداع نتلقى النبي r.

يقول الإمام البيهقي أنه عندما عاد النبي r من غزوة تبوك إلى المدينة استقبله الصبيان بهذه الأبيات.

باختصار، لقد ذكر المؤرخون وأصحاب السِّير كلا الرأيين، فيقول بعضهم أن النبي r عندما قدم المدينَة مهاجرا استُقبل بهذه الأبيات. ويقول بعض آخرون أنه استُقبل بها عند عودته من تبوك. كان من عادة النبي r أن كلما عاد من سفر دخل المسجد أولا وصلّى ركعتين. فحين عاد r من تبوك ودخل المدينة كان الوقت ضحى فدخل المسجد أولا وصلّى ركعتين.

بعد الصلاة أي بعد أداء ركعتين نفلا جلس مع الناس في المسجد فجاءه الذين تخلفوا عن عمد ودون أي عذر، واعتذروا إليه، وكان عددهم ثمانين تقريبا. فقبل النبي r اعتذاراتهم التي قدموها في الظاهر رغم علمه بحقيقتها ورغم علمه أنهم يقدمون أعذارا باطلة، وعفا عنهم وبايعهم واستغفرَ لهم. لكنه كما مر التفصيل لم يقدم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك y أي عذر، وبسبب ذلك تحملوا عتاب النبي r لمدة معينة، وظلوا يتضرعون ويبتهلون إلى الله تائبين إليه، فأعلن الله توبتهم في القرآن الكريم.

الصحابي التالي الذي أذكره اليوم هو مرارة بن الربيع العمري t، كان اسم والده ربيع بن عدي ويقال ربيعة بن عدي أيضا، وكان مرارة t ينتمي إلى قبيلة بني عمرو بن عوف من قبيلة الأوس الأنصارية، وفي رواية أخرى أنه كان من قبيلة قضاعة وهي حليفة بني عمرو بن عوف. وقضاعة قبيلة مشهورة كانت تسكن بَعد وادي القرى الواقعة على بُعد 10 أميال من المدينة، وهي بغرب مدائن صالح. لقد شهد مرارة t بدرا، وهذا جاء في البخاري وكتب أخرى لسير الصحابة، أما ابن هشام فلم يسجل اسمه في الصحابة البدريين. كان من الصحابة الثلاثة الذين لم يخرجوا إلى تبوك وأنزل الله I فيهم آية في القرآن الكريم أي ]وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[. كما سبق البيان أن هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية y وكانوا من الأنصار، وفي هذا الصدد لا نجد كلاما منفصلا لمرارة t وإنما جاء ذكره في كلام كعب بن مالك t المفصل الذي بينتُه في الخطبة الماضية، ولا داعي لإعادته هنا.

الصحابي التالي الذي أذكره اليوم اسمه عتبة بن غزوان t وكنيته أبو عبد الله وأبو غزوان، وكان من حلفاء قبيلة بني نوفل بن عبد مناف. كان اسم والده غزوان بن جابر، ويُذكر أن كنيته كانت أبا عبد الله وأبا غزوان أيضا كما سبق. تزوج أردة بنت الحارث. يقول سيدنا عتبة t نفسه، إنه سابع سبعة في الإسلام مع رسول الله r. وقال ابن الأثير إن عتبة t حين هاجر إلى الحبشة كان عمره 40 سنة بينما يقول ابن سعد إن عمره كان 40 سنة عند الهجرة إلى المدينة. على كل حال حين عاد من الحبشة كان النبي r ما زال مقيما في مكة فأقام معه r حتى هاجر مع المقداد t إلى المدينة وكانا من أوائل المسلمين.

وتفصيل هجرة عتبة بن غزوان والمقداد بن الأسود رضي الله عنهما إلى المدينة أنهما خرجا من مكة مع جيش المشركين ليلتحقا بالمسلمين، حيث كان النبي r قد بعث سرية عليها عبيدة بن الحارث t إلى ثنية المرة، وهي على بُعد 55 كيلومترا تقريبا شرقي مدينة رابغ، وتبعد عن المدينة مائتي كيلومتر تقريبا، وكان على جيش الكفار عكرمة بن أبي جهل. لم يحدث القتال بين الفريقين، إلا إطلاق سهم واحد بيد سيدنا سعد بن أبي وقاص r وكان أول سهم أُطلق في سبيل الله. في ذلك اليوم هرب عتبة بن غزوان والمقداد بن الأسود إلى المسلمين وكانا قد جاءا مع الكفار، وقد سبق ذكر ذلك ضمن ذكر المقداد t.

لقد كتب مرزا بشير أحمد t في كتابه “سيرة خاتم النبيين” عن بداية الجهاد بالسيف، وأعمال دفاع النبي r كالتالي حيث قال: الثابت من كتب التاريخ أن أول آية بإذن الجهاد بالسيف نزلت في القرآن الكريم في 12 شهر صَفر من السنة الثانية بعد الهجرة، أي أن إعلان الحرب الدفاعية التي أشار الله تعالى إليه في الهجرة، قد صدر رسميا صفر عام 2 الهجري. وبذلك بدأ الجهاد حيث كان النبي r قد فرغ من الأعمال البدائية لإقامة المدينة. ويفيد التاريخ أن النبي r اتخذ أربعة تدابير لحماية المسلمين من شر الكفار، وهي تشكل دليلا ساطعا على كفاءته السياسية العالية وبُعد نظره في الحرب، وتلك التدابير هي:

أولا: بدأ حضرته r عقد عهود السلام والأمن مع القبائل المجاورة بالسفر إليها شخصيا، لكي تكون المنطقة المجاورة للمدينة آمنةً من الخطر. وفي هذا المجال وضع في الحسبان بشكل خاص القبائل التي كانت تقيم بجوار طريق قريش إلى الشام، لأنه كما يستطيع أن يفهم كل إنسان أن هذه القبائل كان يمكن أن تستعين بها قريش ضد المسلمين أكثر، والتي كان عداوتها تشكل خطرا للمسلمين.

ثانيا: بَعث سرايا صغيرة إلى شتى جهات المدينة للاستطلاع، لكي يطَّلع على أنشطة قريش وحلفائها، ولكي يبقى في بال قريش أيضا أن المسلمين ليسوا غافلين، وبذلك جعل r المدينة آمنة من خطر الهجمات المفاجئة.

ثالثا: أراد النبي r من بعثة هذه السرايا توفير الفرص للمسلمين الضعفاء والفقراء المقيمين في مكة وحولها للالتحاق بالمسلمين في المدينة لأنه إلى ذلك الوقت كان في مكة وحولها أناس قد أسلموا من صميم فؤادهم لكنهم لم يكونوا يقدرون على إعلان إسلامهم بسبب اضطهاد قريش، ولم يكونوا يقدرون على الهجرة بسبب ضعفهم وفقرهم، لأن قريشا كانوا يمنعونهم من الهجرة قسرا. فقد ورد في القرآن الكريم: ]وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا[ (النساء 76) فمن إحدى الحِكم من بَعْث هذه الإرساليات أن تتسنى لأمثال هؤلاء فرصةٌ للتخلص من الظالمين. أي أن يصل هؤلاء مع قوافل  قريش إلى قريب من المدينة ثم يلتحقوا بسرية المسلمين هروبا. فقد ثبت من التاريخ أن أول سرية بعثها النبيُّ r بقيادة عبيدة بن الحارث، وواجهت جيش الكفار الذي كان يقوده عكرمة بن أبي جهل، التحق بالمسلمين مسلمان ضعيفان- قد جاءا مع قريش. ففي رواية أن في هذه السرية حين تَواجَهت سرية المسلمين وجيش الكفار، هرب من جيش المشركين المقدادُ بن عمرو وعتبة بن غزوان. وكانا حليفَي بني زهرة وبني نوفل والتحقا بالمسلمين، وكانا مسلمَين وجاءا مع الكفار لينضما إلى المسلمين عند سنوح الفرصة. فكان أحد الأغراض من إرسال النبي r هذه البعثات هو إتاحة الفرصة للمظلومين للانفلات من ربقة قريش والالتحاق بالمسلمين.

والتدبير الرابع الذي اتخذه r هو أنه بدأ اعتراض قوافل قريش التجارية التي كانت تأتي من مكة إلى الشام وتمرّ من قرب المدينة، وذلك لأنها أولا كانت تشعل نار العداوة ضد المسلمين حيثما مرت، والبديهي أن زرع بذرة العداوة ضد الإسلام في المناطق المجاورة للمدينة كان خطيرًا جدًّا؛ ثانيا كانت هذه القوافل مسلحة وبالتالي يمكن إدراك خطورة مرور مثل هذه القوافل من قرب المدينة. وثالثًا كانت قريش في أغلب الأحيان يعتمدون على التجارة فكانت الطريقة الناجحة واليقينية وسريعة الأثر لمنعهم من أعمالهم الظالمة وإجبارهم على الصلح هو أن تغلق طريق تجارتهم. يشهد التاريخ على أن اعتراض القوافل التجارية كان أمرًا بارزًا من بين الأمور التي أدت بقريش إلى رضوخهم للصلح أخيرًا، فكان هذا التدبير حكيمًا جدًّا وقد أنتج ثمار النجاح في وقته.

إضافة إلى ذلك كانت فوائد قوافل قريش التجارية هذه تنفق في أغلب الأحيان في محاولاتهم للقضاء على الإسلام، بل بعض القوافل التجارية تُرسل لهذا الغرض خصوصًا لتنفق جلّ فوائدها ضد المسلمين. في هذه الظروف يمكن أن يفهم الجميع أن منع مثل هذه القوافل كانت غاية مشروعة في حد ذاتها.

كانت هي سرية عبيدة بن الحارث التي انفلت فيها عتبة من جيش قريش والتحق بالمسلمين. لقد ذكرت شيئًا عنها في إحدى الخطب الماضية أيضا وهنا أذكر أحوالها باختصار أيضا. بعث النبي r في صدر ربيع الأول بإمارة أحد أقاربه عبيدة بن الحارث المطَّلبي ستين راكبًا من المهاجرين، وكان الغرض من هذه السرية كفّ هجمات قريش. (أذكر هذا مما ورد في كتاب سيرة خاتم النبيين) فقطع عبيدة بن الحارث ومن معه مسافة يسيرة حتى وصلوا “ثنية المرة” وإذا بهم أمام مئتي رجل مسلح من قريش تحت قيادة عكرمة بن أبي جهل. لقد التقت الفئتان وتم إطلاق السهام فيما بينهما ولكن انسحب المشركون سريعًا ظنًّا منهم أن هناك مددًا للمسلمين يختفي وراءهم، ولم يتبعهم المسلمون، وفي هذه الأثناء اغتنم المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان الفرصة فهربا من إمارة عكرمة بن أبي جهل ولحقا بالمسلمين. وقيل بأنهما من البداية قد انضما إلى جيش قريش لهذا الغرض نفسه بأنهم سينضمون إلى المسلمين عندما يجدون الفرصة، وذلك لأنهما كانا مسلمين من صميم القلب إلا أنهما كانا يخافان قريشا بسبب ضعفهما فلم يتمكنا من الهجرة. ويقول مرزا بشير أحمد t: ولعل هذه الواقعة منعت قريشا من الإقدام فتشاءموا بها وقرروا العودة.

لم يُذكر في التاريخ عن هدف معين لهذا الجيش إذ لم يكن هذا الجمع قافلة تجارية، وقد ذكره ابن إسحاق بكلمات: جمع عظيم، أي كان جيشًا كبيرًا، ولكن المؤكد هو أن نيتهم لم تكن حسنة. وبفضل الله تعالى لما رأى المشركون المسلمين يقظين ومستعدين وبعد أن لاحظوا أن بعض رجالهم قد التحقوا بالمسلمين، انكسرت هممهم فعادوا. لقد استفاد الصحابة من هذه السرية أنه من خلالها قد نجا اثنان من المسلمين من ظلم قريش.

لقد وردت في الطبقات الكبرى رواية أن عتبة بن غزوان عندما هاجر من مكة إلى المدينة مع مولاه خباب فقد أقام في قباء عند عبد الله بن سلمى العجلاني، أما عند وصوله إلى المدينة فقد أقام عند عباد بن بشر. لقد آخى النبي r بين عتبة بن غزوان وأبي دجانة. سأذكر بعض الأمور الأخرى عن عتبة بن غزوان لاحقًا إن شاء الله.

أما الآن فأريد أن أعلن أننا أنشأنا موقعًا خاصًّا لجريدة “الفضل” اليومية كما سأتناول ذكر سيدتين مرحومتين وسأصلي صلاة الغائب عليهما أيضا.

يبدأ من اليوم من لندن الإصدار الالكتروني لجريدة “الفضل” اليومية بمناسبة اكتمال 106 أعوام على صدورها، حيث قد أصدرها المصلح الموعود t قبل 106 عامًا بالإذن من الخليفة الأول t للمسيح الموعود u وبأدعيته في 18 يونيو 1913م. عند استقلال باكستان من الهند ظلت الجريدة تصدر من لاهور، ثم أخذت تصدر من ربوة تحت إشراف المصلح الموعود t.

والآن بدأ الإصدار الإلكتروني لهذه الجريدة القديمة باللغة الأردية من لندن من 13 ديسمبر 2019م أي اليوم، وستكون الجريدة في متناول القراء على الإنترنيت في العالم كله بكل سهولة.

لقد أعدّ لها موقع  alfazlonline.org  والعدد الإلكتروني الأول لها أيضا موجود على الموقع. لقد بذل فريق التكنولوجيا المركزي جهدا كبيرًا لإنشاء هذا الموقع.

ورد في العدد الأول عدة مقالات منها: أهمية جريدة “الفضل” وفائدتها، ستضم زاوية “قال الله تعالى” الآيات القرآنية، وزاوية “قال الرسول r” أحاديثَ نبوية، كما ستحتوي أعداد الجريدة مقتبسات من كلام المسيح الموعود u، وستكون هناك مقالات لكتّاب أحمديين ومقالات هامة أخرى. إضافة إلى ذلك ستكون هناك قصائد للشعراء الأحمديين. ستكون الجريدة متوفرة على التويتر إضافة إلى موقعها. لقد أعدّ لها تطبيق نظام الاندرويد أيضا. وبما أن الجريدة بدأت الآن بشكل يومي فعلى القراء باللغة الأردية أن يستفيدوا منها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، كما على الكتّاب والشعراء أن يعينوا الجريدة بمساهماتهم القلمية لتنشر فيها مقالات رائعة وبحوث قيمة.

سيتوفر على الموقع ملف بي دي أف لكل عدد، فيمكن قراءته على الموقع كما يمكن تنزيل الملف وطباعته لمن يريد القراءة من المطبوع. على أية حال سيبدأ هذا الموقع اليوم. ستنشر في هذه الجريدة خطبة الجمعة كاملة يوم الاثنين، إضافة إلى ملخصها. سأدشّن موقعها بعد صلاة الجمعة إن شاء الله.

سأصلي صلاة الغائب على سيدتين إن شاء الله وأتناول ذكرهما؛ أولاهما السيدة تنوير الإسلام زوجة مرزا حفيظ أحمد، وقد توفيت في 7 ديسمبر الجاري عن عمر يناهز 91 عامًا، إنا لله وإنا إليه راجعون. كانت منضمة إلى نظام الوصية بفضل الله تعالى.

أما بالنسبة إلى التعريف بعائلتها فإن والدها هو مير عبد السلام، وكانت هي ابنة حفيد مير حسام الدين t أحد أقدم وأخلص صحابة المسيح الموعود u، وهي حفيدة سيد مير حامد شاه t، وكانت كنّة الخليفة الثاني t.

إن مير حسام الدين صحابي مشهور، وقد وُلد في 1839 في سيالكوت، وكان طبيبًا ذائع الصيت في سيالكوت.

لما كان المسيح الموعود u مقيما في سيالكوت كان السيد الحكيم يشتغل في الطب وأقام حضرته في جزء من بيته أيضا لبضعة أيام وفي 1877 جاء حضرته إلى سيالكوت حيث حضر مأدبةً في بيت السيد الحكيم. هذه كانت أيام شباب حضرته والذين كانوا رأوه ونموذجه الطاهر في هذه الأيام آمنوا به فيما بعد حين قدم u دعواه لأنهم كانوا صالحين وسعيدي الفطرة وذوي حظ من نور الفراسة. فالذين قبلوه من سيالكوت كانت من بينهم هذه الأسرة من السباقين في الإخلاص والوفاء. كان مير حسام الدين t بايع المسيح الموعود u في 29 كانون الأول 1890م وكان رقمه في سجل المبايعين 213 ورقم زوجته السيدة فيروزة بيغم 246 وهي بايعت في 7 شباط 1892م. قد ذكره المسيح الموعود u في عدد من كتبه منها إزالة الأوهام والحكم السماوي ومرآة كمالات الإسلام والتحفة القيصرية والسراج المنير وكتاب البراءة وحقيقة الوحي وفي عدة مناسبات في ملفوظاته بين المخلصين الذين حضروا الجلسة والذين دفعوا التبرع لجلسة اليوبيل والجماعة الآمنة. باختصار كانت السيدة تنوير الإسلام من نسله t، وهي وُلدت في 1928 ثم تزوجت في 1948 من السيد مرزا حفيظ أحمد وهكذا أصبحت كنة المصلح الموعود t، وهي حظيت بشرف خدمة الجماعة بصفتها سكرتيرة المعرض في لجنة إماء الله المركزية قرابة 48 سنة في أوقات مختلفة بين 1956 و2008م. وكذلك قامت ببعض الخدمات الأخرى أيضا، كانت لها علاقة الحب الشديد مع الخليفة الثاني t، وكانت تهتم جدا بصلاة التهجد بل أخبرت خادمتها بأنها استيقظت في الساعة الثالثة من الليلة التي تُوفيت فيها وصلت صلاة التهجد ثم نامت وتوفيت في تلك الحالة. قالت ابنة المرحومة: إن أمي كانت تخبرني أنها حين تزوجت وأصبحت كنّة المصلح الموعود t أعطاني المصلح الموعود t وأم ناصر حبا واحتراما لدرجة نسيتُ أهلي تماما. وكانت تحفظ كثيرا من مقتبسات المصلح الموعود t وذكرياته، وكانت ذاكرتها قوية، غفر لها الله تعالى ورحمها ورفع درجاتها، آمين.

والذكر الثاني للمرحومة الحاجة شكورة نورية من أمريكا التي توفيت في واحد كانون الأول 2019م إنا لله وإنا إليه راجعون. وُلدت في 1927 وعاشت أوائل حياتها في واشنطن، وفي التسعينات من القرن العشرين عملت كأستاذة في التاريخ في مدرسة ثانوية، ثم حصلت على شهادة الماجستير في تاريخ العالم، وبعد التقاعد كانت تريد أن تصبح مبشرة بروتستنتية ولكن حين علمت أن المسيح ليس ابن الله فقررت البحث عن طريق آخر، ثم في 1968 تركت الكنيسة بشكل رسمي، وبعد أن زارت المكسيك وكندا حصلت على رخصة لسنة من أجل الدراسة في مختلف الجامعات الأفريقية، ثم زارت أوروبا أيضا، وكانت تبحث عن حل القضايا والأسئلة التي كانت تطرأ في ذهنها، وحين عادت إلى واشنطن تعرفت على الإسلام، وذلك أثناء لقائها في المطار مع ابن أحد أصدقائها الذي كان قَبِل الأحمدية حديثا، كان السيد مير محمود أحمد ناصر في أمريكا في تلك الأيام وكان موجودا مع السيد مبشر في المطار للقاء ذلك الأحمدي الجديد وفي هذه المناسبة تعرفوا على المرحومة أيضا وعرّفوها بالإسلام واستمر هذا التبشير فبدأت تميل إلى الإسلام وتجد في الإسلام ما كانت تبحث عنه، ورأت في 1979 في الرؤيا نسخة من القرآن الكريم والشهادتين وبعدها أيقنت أن الإسلام والأحمدية هي الدين الحق فبايعت.

بعد البيعة خدمت الجماعة في مناصب متعددة، وكانت تشترك في برامج لجنة إماء الله في أمريكا بل كانت تلعب دورا هاما فيها، وفي 1986 انتُخبت رئيسة الإماء المحلية في واشنطن حيث خدمت الجماعة لمدة خمس سنوات ومع ذلك وُفقت للخدمة بصفتها نائبة الرئيسة الوطنية للجنة إماء الله في أمريكا، وكذلك خدمت في مناصب أخرى، وفي 1995 حظيت بشرف حج بيت الله. كانت المرحومة في الفريق الذي شُكّل بأمر من الخليفة الرابع رحمه الله وإشرافه لإعداد الفهرس المفصل للتفسير الإنجليزي المبني على خمس مجلدات وكان للمرحومة دور كبير في إعداد هذا الفهرس المؤلف من 118صفحة. وكتبت عدة مقالات حول المواضيع المتنوعة في مجلة لجنة إماء الله وفي مجلات أخرى للجماعة. وفي 1997-1998 عقدت صفا تعليميا للأطفال كل يوم أحد، وخدمت منسّقة في الدورة الصيفية للناصرات الأحمديات، وكذلك قدمت خدماتها في اللجنة الوطنية الأحمدية لحقوق الإنسان لعدة سنوات وأعدت بكل جهد ملفات شاملة عن مظالم الحكومة الباكستانية على الأحمديين.

كتب الداعية في أمريكا السيد شمشاد ناصر: كانت المرحومة تقول مع جميع خدماتها أن التبليغ هو حبها الأول وكانت تُقدم أعمال الدعوة والتبليغ على جميع أعمالها الأخرى، وخدمت كسكرتيرة التبليغ في الهيئة الوطنية للجنة إماء الله لعدة سنوات، وكانت تبشر في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وكذلك كانت تلعب دورا هاما في عقد برامج تبليغية في الجامعات والكنائس. وكانت أعدت خطة وثيقة لتوزيع مناشير الجماعة وكتبها في الجاليات المختلفة. هذا التقرير لم يكن من السيد شمشاد بل هو جاء من طرف آخر، وما كتبه السيد شمشاد هو كالتالي: الأخت شكورة نورية كانت ملتزمة بالحجاب وكانت ترتدي دوما البرقع الباكستاني ولم يعرقل البرقع في أي عمل لها، وكانت تضطر في بعض الأحيان للقاء مع النواب في الحكومة أو مع أعضاء الكونغرس من أجل بعض قضايا الجماعة وكانت تذهب إليهم مرتدية البرقع وكانت تؤدي جميع أعمالها بوجه أحسن، وكانت تساعد الدعاة كثيرا في أعمال التبشير. قال السيد شمشاد: حين جئت هنا جلست معي وأخبرتني بتاريخ أمريكا وكانت تساعدني في أعمال الجماعة، قال أيضا: كانت تحترم الخلافة جدا وترتبط بها ارتباطا وثيقا. حين زرتُ أمريكا في 2018 جاءت للقائي بصعوبة بالغة على كرسي المعاقين رغم كونها مريضة، وكانت تستمع إلى الخطب بالتزام وحين لم تكن ايم تي ايه وكان يصل فروع الجماعة شريطُ الخطبة كانت تساعدنا في ترجمة الخطبة إلى الإنجليزية، كانت ملتزمة بالصلوات الخمس. قال السيد شمشاد: كلما رأيتُها رأيتها في المسجد، كانت تأتي المسجد وتصلي الصلوات جماعةً بالتزام. غفر لها الله تعالى ورحمها ورفع درجاتها ورزق الجماعة أناسا آخرين عامرين بحماس الخدمة مثلها وسباقين في الإخلاص والوفاء. (آمين)

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز