خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 20/12/2019

في المسجد المبارك إسلام آباد بالمملكة المتحدة

*********

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم ]الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين[.

تناولت في الخطبة الماضية ذكر عتبة بن غزوان ضمن ذكر الصحابة، ولا يزال مستمرًا، وسأذكر اليوم بعض الأمور الأخرى في هذا السياق.

لقد بعث النبي r في عام 2 للهجرة سريّة إلى النخلة وأمّر عليها ابن عمته عبد الله بن جحش، وكان عتبة في هذه السرية. لقد ذكرتُ بعض تفاصيلها في ذكر أحد الصحابة، وأذكر باختصار بعض الأمور المتعلقة بها هنا أيضا.

لقد كتب مرزا بشير أحمد في سيرة خاتم النبيين:

أراد النبي r أن يستطلع تحركات قريش عن كثب ليطلع على نواياهم وتخطيطهم، وليكون على علم في وقت مناسب بمخططاتهم بُغية حماية المدينة من خطر الغارة عليها. فشكل r جماعة متكونة من ثمانية من المهاجرين. وبمقتضى الحكمة ضم إليها رجالا من قبائل مختلفة من قريش ليسهل استكشاف نوايا قريش الخفية. وأمّر على هذه الجماعة ابن عمته عبد الله بن جحش. ولكي تبقى الغاية من إرسال هذه الجماعة خافية على عامة المسلمين أيضا لم يخبر النبي r حتى أمير هذه الجماعة عن الجهة التي يُرسَل إليها ولا عن الهدف وراء إرساله، بل أعطاه عند انطلاقه رسالة مختومة وقال إن فيها تعليمات لك. وعليك أن تسافر من المدينة إلى جهة كذا وافتح الرسالة بعد أن تقطع مسافة يومين واعمل بما ورد فيها. فلما قطع مسافة يومين فتح عبد الله رسالة النبيِّ فوجد فيها أن اذْهبْ إلى وادي النخلة الكائن بين مكة والطائف واستطلع أحوال قريش وأخبرنا بها. وكان هناك تعليم آخر مكتوب في نهاية الرسالة أنه إذا كان أحد من أعضاء الجماعة مترددا في البقاء فيها بعد علمِه بطبيعة المهمة وأراد العودة فله ذلك. (أي عندما تقرأ هذه الرسالة وتفهم الهدف من مهمة هذه البعثة أو السرية، عند ذلك إن تردد أحد أفراد هذه البعثة أو اعترض على ذلك وبالتالي أراد العودة فله ذلك ولا يكره على البقاء. على أية حال فقد أمر النبي r عبد الله أن يسمح بالعودة لمن يستأذنه.)

قرأ عبد الله هذا الأمر على مسامع أصحابه، وقدم الجميع أنفسهم بالإجماع وبكل سرور لهذه المهمة وقالوا: نحن مستعدون لذلك. ثم رحلت هذه الجماعة إلى النخلة، وفي الطريق فقدوا جمل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فانفصلا عن أصحابهما في البحث عن بعيرَهما الذي فقداه، ولم يتم العثور على سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان على الرغم من البحث الكثير. بقي الآن في الجماعة ستة أشخاص فقط.

لقد كتب مرزا بشير أحمد عن أحد المستشرقين يُدعى “مارغوليس” بأنه علق على هذا الحادث وقال بأن سعد بن أبي وقاص وعتبة قد تركا بعيرهما عمدًا وتأخّرا بهذه الحيلة، فكتب مرزا بشير أحمد ردًّا عليه: إن هذين الصحابيين المخلصين اللذين كانا يفديان الإسلام وكان كل حدث من أحداث حياتهما دالّا على شجاعتهما وروح التضحية التي كانا يتحلّيان بها، واستشهد أحدهما في بئر معونة على يد الكفار والآخر اشترك في غزوات خطيرة وكثيرة وفي النهاية كان فاتحًا للعراق، فإن إثارة مثل هذه الشبهة عن مثل هؤلاء الصحابة بناء على أفكار مزعومة مخترعة لهو نصيب السيد مارغوليس. والعجيب أن السيد مارغوليس يدعي في كتابه بأنه ألفه بعيدًا عن كل نوع من التعصب.

على أية حال هذه هي طريقتهم بأنهم لا يفوتون فرصة للاعتراض على الإسلام والمسلمين.

والآن أعود إلى واقعة هذه السرية. لقد وصلت هذه الجماعة الصغيرة إلى النخلة وانشغلت في عملها. أي استطلاع نوايا كفار مكة، وهل ينوون الهجوم على المدينة؟ أو ما هو تخطيطهم؟ وحلق بعضهم رؤوسهم ناوين إخفاء مهمتهم حتى يظن الناس أنهم جاؤوا معتمرين فلا يشكوا في أمرهم. وفي أحد الأيام وصلت إلى هناك قافلة صغيرة لقريش تَمُرُّ بهم في طريقها من الطائف إلى مكة، وواجهت الجماعتان بعضهما. تشاور المسلمون فيما بينهم فيما يجب فعله الآن، لأنهم كانوا قد أُرسلوا لاستعلام أخبار قريش سرا، ولم يُرسلوا للهجوم أو القتال. ولكن من ناحية ثانية كانت حالة الحرب قد بدأت مع قريش، إذ كان الفريقان في مواجهة بعضهما البعض. وبما أن قافلة قريش قد رأتهم فكان خطر بطبيعة الحال ألا تبقى مهمة استعلام أخبارهم خافية على قريش. وكانت هناك مشكلة أخرى، وهي أن بعض المسلمين كانوا يظنون أنه اليوم الأخير من الشهر الحرام رجب الذي لا يجوز فيه القتال بحسب عادة العرب القديمة. وكان البعض يرون أن شهر رجب قد انتهى وبدأ شهر شعبان. وجاء في بعض الروايات أن هذه السرية كانت قد أُرسلت في جمادى الآخرة. فكان هناك شك فيما إذا كانت هذه أيام جمادى الآخرة أم أيام رجب. كان وادي النخلة واقعا على حدود منطقة الحرم. وكان واضحا أنه لو لم يتم البتّ في الأمر اليوم لدخلت القافلة في اليوم التالي منطقة الحرم التي لا بد من احترام حرمتها.

فبالنظر إلى كل هذه الأمور قرر هؤلاء المسلمون الستة أن يهاجموا قافلة قريش ليأسروا أهلها أو يقتلوهم. فأغاروا عليهم وقُتل أحد الكفار وأُسر اثنان وفرّ الرابع هاربا ولم يتمكن المسلمون من القبض عليه، وبذلك لم تنجح خطتهم لأسرهم أو قتلهم نجاحا كاملا.

واستولى المسلمون على أمتعة قافلة الكفار كلها. ولما كان أحد أفراد القافلة قد فرّ هاربا وكان من المتوقع أن يصل خبر هذه المواجهة إلى مكة فعاد عبد الله بن جحش أيضا إلى المدينة فورا مع أصحابه ومالِ الغنيمة الحاصل من هذه المواجهة.

يعترض هنا السيد مارغوليس فيقول: إن محمدًا (r) قد أرسل هذه الجماعة من المسلمين في الشهر الحرام قصدا ظنًّا منه أن قريش سيكونون غافلين في هذا الشهر وبالتالي ستكون للمسلمين فرصة سانحة ويقينية لمهاجمة القافلة وسلبها، ولكن يمكن أن يفهم كل عاقل أنه لا يمكن إرسال مثل هذه الجماعة الصغيرة إلى تلك المنطقة البعيدة من أجل مهاجمة القافلة وسلبها ولا سيما إذا كان مركز العدو قريبًا جدًّا من مسرح الأحداث. ثم ثبت تاريخيا بشكل قطعي أن هذه الجماعة قد أرسلت لاستطلاع الأخبار، فلما بلغ النبيَّ r أن هذه الجماعة من الصحابة هاجموا القافلة سخط كثيرا. ولما عادت هذه الجماعة إلى النبيّ وسردوا له القصة وأطلعوه على ما جرى سخط r كثيرا، وقال ما مفاده: لم آذنْ لكم أن تقاتلوا في الشهر الحرام، ورفض أن يأخذ مال الغنيمة. فندم عبد الله بن جحش وأصحابه كثيرا وظنوا أنهم هالكون نتيجة سخط الله ورسوله عليهم، ولامهم بشدة الصحابة الذين كانوا في المدينة وقالوا ما هذا الذي فعلتموه! ومن ناحية ثانية أثارت قريش ضجة بأن المسلمين نقضوا حرمة الشهر الحرام. ولما كان المقتول في هذه المواجهة -أي عمرو بن الحضرمي – من الرؤساء، وكان حليفا أيضا لعتبة بن ربيعة رئيس مكة، لذا فقد أشعل هذا الحادث نار غضب قريش، وبدأوا يستعدون للهجوم على المدينة بشدة أكثر من ذي قبل. باختصار، بدأت الأقاويل حول هذا الحادث بين المسلمين والكفار وقيل أنهم هاجموا في الشهر الحرام. وأخيرا نزل الوحي التالي في القرآن الكريم مُطَمْئِنا للمسلمين: ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا[

أي يسألك الناس عن القتال في الشهر الحرام، فأجِبْهم أن القتال في الشهر الحرام مكروه جدا، ولكن منع الناس من دين الله قهرا في الشهر الحرام والكفر بالشهر الحرام والمسجد الحرام، أي نقض حرمتهما، وإخراج سكان الحرم منه قهرا – كما تفعلون أيها المشركون – كل هذه الأمور أسوأ عند الله من القتال في الشهر الحرام. وإن عيث الفتنة في البلد في أثناء الشهر الحرام أسوأ عند الله من القتل الذي يكون لدرء الفتنة. فيا أيها المسلمون! هذا هو حال المشركين أنهم قد عمَوا في عداوتكم لدرجة لن يرتدعوا عن قتالكم في أي وقت وفي أي مكان، ويستمرون في قتالهم هذا حتى يرُدّوكم عن دينكم إن استطاعوا.

يثبت من التاريخ أن زعماء قريش كانوا يستمرون في مؤامرتهم الدامية في الشهر الحرام أيضا. بل كانوا يسارعون أكثر في مكايدهم المبنية على الفتنة والفساد في الأشهر الحرم مستغلين الاجتماعات والأسفار فيها. كذلك كانوا ينقلون بوقاحة شديدة الأشهر الحرم من وقتها إلى وقت آخر. وكانوا يذكرون هذا الأمر بـ: النَّسِيء.

هذا، وقد أوصل كفار مكة وأشياعهم الظلم منتهاه بعد ذلك إذ قاتلوا بعد صلح الحديبية في الحرم ضد قبيلة حليفة للمسلمين على الرغم من وجود المواثيق. وعندما خرج المسلمون لنصرة تلك القبيلة قاتلوهم أيضا في منطقة الحرم بعينها.

هذا الجواب من الله تعالى الوارد في الآية القرآنية قد طمأن المسلمين بطبيعة الحال، إلا أن قريشا أيضا هدأوا قليلا، وفي هذه الأثناء وصل ممثلوهم إلى المدينة لتحرير أسيرينِ منهم. ولما لم يكن سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان قد رجعا إلى ذلك الحين، فكان النبي r قلقا بشأنهما على أنهما لو وقعا في أيدي قريش سيتقلونهما. لذا رفض النبي r إطلاق سراح الأسرى قبل عودتهما، وقال: عندما يصل أصحابُنا المدينةَ بخير وعافية سنطلق سراح أصحابكم. فحين عاد سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أطلق النبي r سراح الأسيرين مقابل الفدية. ولكن أحد هذين الأسيرين قد تأثر في فترة مكوثه في المدينة بأخلاق النبي r الحسنة وبصدق تعليم الإسلام لدرجة رفض العودة على الرغم من إطلاق سراحه، وأسلم على يد النبي r حتى قُتل يوم بئر معونة شهيدًا.

إذًا، إن إسلامه ثم تقديمه التضحية في سبيل الإسلام يكفي للرد على اعتراض مارغوليس ولكن هؤلاء الناس يغضون الطرف عن هذه الأمور عادة.

شهد عتبة بن غزوان بدرا وجميع الغزوات بعدها مع النبي r. كما شهد خباب وسعد – وهما رقيقان أعتقهما عتبة بن غزوان – بدرا معه. كان عتبة بن غزوان من رماة النبي المهرة.

بعث عمر t عتبة بن غزوان إلى البصرة ليقاتل أهل أبلة الذين كانوا من الفرس. وقال له عمر t: انطلق أنت ومن معك حتى أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم. وقال له أيضا: يا عتبة، إني أريد أن أوجهك لتقاتل بلد الحيرة لعل الله سبحانه يفتحها عليكم فسرْ على بركة الله تعالى ويمنه واتق الله ما استطعت. واعلم أنك ستأتي حومة العدو. وأرجو أن يعينك الله عليهم ويكفيكهم. وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة وهو ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة شديدة فشاورْه وادع إلى الله عز وجل فمن أجابك فاقبل منه ومن أبى فالجزية عن يد مذلة وصغار وإلا فالسيف في غير هوادة واستنفر من مررت به من العرب وحثهم على الجهاد وكابد العدو واتق الله ربك.

بعث عمر t عتبة بن غزوان إلى البصرة مع ثمان مئة نفر، وأرسل إليه مددا آخر فيما بعد.

فتح عتبة بن غزوان أبلة وحدّد حدود البصرة. وهو أول من عمّر مدينة البصرة. وجعل t عتبة بن غزوان واليا عليها، فأقام في الخريبة -وهي مدينة قديمة في فارس وتسمى بالفارسية واشتا بازار شيرد. وقد أطلق عليها العرب “الخريبة”، وقد وقعت حرب الجمل قربها. كتب عتبة بن غزوان إلى عمر رضي الله عنهما أنه لا بد للمسلمين من مكان يقضون فيه الشتاء ويقيمون فيه عند العودة من الحروب. كتب له عمر t: ابحث عن مكان قرب الماء والمرعى، فأقامهم عتبة في البصرة. فبنى المسلمون هنالك بيوتا من القصب وبنى عتبة مسجدا بالقصب، وذلك في عام 14 من الهجرة. وبنى عتبة t بيت الأمير في مكان مكشوف قرب المسجد. كلما خرج الناس للقتال أزاحوا بيوتا مبنية من القصب وربطوها وبنوا بيوتا منها عند العودة كما كانت. بعد فترة بدأ الناس ببناء بيوت مشيدة هنالك. فافتتح عتبة بن غزوان الأبلة ثم اختط مسجد البصرة وأمر محجن بن الأدرع فاختط مسجد البصرة الأعظم وبناه بالقصب ثم خرج عتبة حاجًا وخلف مجاشع بن مسعود وأمره أن يسير إلى الفرات وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلي بالناس…

وكان عتبة بن غزوان قد استعفى عمر عن ولايتها فأبى أن يعفيه فقال: اللهم لا تردني إليها فسقط عن راحلته فمات سنة سبع عشرة وهو منصرف من مكة إلى البصرة بموضع يقال له معدن بني سُليم ويقال: بل مات بالربذة سنة سبع عشرة من الهجرة. وقيل: بل مات عتبة بن غزوان سنة سبعة عشرة من الهجرة وهو ابن سبع وخمسين سنة بالبصرة. كان عتبة مصابا بمرض البطن، وقيل أنه مات سنة خمسة عشرة من الهجرة. بعد وفاة عتبة جاء مولاه سويد بماله وتركته إلى عمر t. وقد مات عتبة وهو ابن سبع وخمسين عاما. وكان طويل القامة جميل الطلعة.

عن خالد بن عمير العدوي، قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء، وأنتم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما بحضرتكم، فإنه ذُكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا والله لتملأن جهنم. أي سيُلقى المذنبون في جهنم مثلها. فلديكم فرصة سانحة لتستفيدوا من الحياة في هذا العالم وتتوجهوا إلى كسب الحسنات، هذا ما كان يقصد من قوله.

ثم قال أتعجبون؟ وأُخبرتم أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ بالزحام. لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله r ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، أي قد أتى علينا وقت صعب، إذ كنا نعيش على أوراق الشجر حتى قرحت أشداقنا. ثم يقول عن نفسه إني وجدت بردة فشققتها فأعطيت سعد بن مالك نصفها. فصنعت إزارا من النصف ومن النصف الآخر سعدٌ لغطاء جسمه، أي كنا نعيش الفقر حيث لم يكن يتوفر لنا رداء كامل لستر أجسادنا. وما منا اليوم رجل إلا وهو أمير على مصر من الأمصار. وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا. قال ذلك تواضعا إنه يرى نفسه صغيرا جدا. الآن قد تغيرت الأوضاع وحصلت السعة، لذا يجب أن تخافوا كثيرا. ثم قال لم تكن نبوة فتطاولت، إلا تناسخت ملكًا، وتدركون الحقيقة وستجربون الأمراء بعدنا. فقد قال إن المسلمين أيضا سوف يحبون الدنيا وعندها سترون أن ما أقوله صحيح. لذا عليكم أن تبقوا متوجهين إلى الله دوما، وتهتموا بالدين والروحانية دوما، وبذلك ستتوفر لكم الوسائل لدخول الجنة.

الصحابي التالي الذي أود أن أذكره اليوم هو سعد بن عبادة t، وكان من بني ساعدة من قبيلة الخزرج الأنصارية، وكان اسم والده عبادة بن دليم واسم والدته عمرة وهي ابنة ثالثة لمسعود بن قيس، والدته أيضا تشرفت بمبايعة النبي r. كان سعد بن عبادة t ابنَ خالة سعد بن زيد الأشهلي t الذي كان من أهل بدر. كانت لسعد بن عبادة t زوجتان إحداهما غزية بن سعد فولدت له سعيدا ومحمدا وعبد الرحمن، والثانية فكيهة بنت عبيد التي ولدت له قيسا وأمامة وإسحاق. كانت مندوس بنت عبادة أختَ سعد بن عبادة t، التي تشرفت بمبايعة النبي r وكانت لسعد بن عبادة أخت أخرى اسمها ليلى ابنة عبادة وهي الأخرى تشرفت بالإسلام. كان سعد بن عبادة t يكنى أبا ثابت، وذكر البعض أن كنيته أبو قيس، ويبدو أن القول الأول هو الصحيح أي أبو ثابت. كان سعد بن عبادة t نقيبا لقبيلة خزرج الأنصارية، وكان سيد القوم وكريما، وكان حامل لواء الأنصار في كل الغزوات، كان سعد t ذا وجاهة وسيادة في الأنصار، وكان قومه يقبلون سيادته، وكان في الجاهلية أيضا يعرف الكتابة باللغة العربية، مع أنه في ذلك العصر كان قليل يعرفون الكتابة، وكان ماهرا في السباحة والرماية أيضا، والذي كان ماهرا في هذه الأمور يعدّ كاملا.

في العصر الجاهلي كان سيدنا سعد بن عبادة وقبله آباؤه يعلنون من حصنهم أن الذي يريد اللحم والشحم فليأت إلى حصن دليم بن حارثة. يروي هشام بن عروة عن أبيه أنه وجد سعد بن عبادة يوم كان ينادي من حصنه أن الذي يحب اللحم والشحم فليأت إلى سعد بن عبادة، أي كان يذبح الأنعام ويوزع لحمها، ووجدتُ ابنه أيضا كذلك فهو الآخر كان يدعو الناس. ذات يوم كنت أمرّ على طريق المدينة وكنت شابا فمرَّ بي عبد الله بن عمر t وكان متوجها إلى أرضه في عالية وهي واد على بعد بضعة أميال من المدينة تجاه نجد، فقال لي تعال إلي أيها الشاب، ثم قال هل ترى أحدا يدعو من حصن سعد بن عبادة- وكان الحصن قريبا-، فنظرت إلى هنا وقلت لا. فقال صدقتَ، يبدو أن عمل توزيع اللحم بسخاء هذا لم يستمر بعد سعد بن عبادة، لذا قد سأله عبد الله بن عمر t.

يقول نافع t أن عبد الله بن عمر t مرَّ من حصن سعد بن عبادة t، فقال لي يا نافع هذه بيوت آبائه، حيث كان المنادي ينادي من هنا مرة في السنة أن من يريد أكل اللحم والشحم فليأت إلى بيت دليم، وبعد وفاة دليم ظل يعلن ذلك عبادةُ وبعد وفاته ظل يعلن ذلك سعدٌ، ثم رأيت قيسَ بن سعد يفعل ذلك. فكان قيس من أجود الناس وكريما جدا، فمن هذه الرواية اتضح أن هذه العادة استمرت حتى أولاده، وبعد ذلك تغيرت.

كان سعد t قد أسلم في بيعة العقبة الثانية. فقد ورد عن ذلك في كتاب سيرة خاتم النبيين، أن عددا كبيرا من الأوس والخزرج جاؤوا إلى مكة في أيام الحج في العام الثالث عشر النبوي، وكان سبعون منهم إما قد أسلموا أو كانوا يريدون الإسلام، وجاؤوا إلى مكة للقاء النبي r وكان منهم مصعب بن عمير t أيضا، وكانت أمه ما زالت على قيد الحياة وكانت تحبه كثيرا وإن كانت مشركة. فلما علمتْ بمقدمه أرسلت له طلبا أن يقابلها أولا وبعد ذلك يذهب إلى مكان آخر، فردَّ عليها مصعب إني حتى الآن لم أقابل النبيَّ r فسوف آتي لزيارتك بعد لقاء النبي r، ثم جاء إلى النبي r وأطلعه على أهم الأمور ثم جاء إلى أمه، فكانت غاضبة جدا منه لأنه لم يقابلها أولا، فبكت كثيرا واشتكت. فقال لها مصعب، يا أماه، أقول لك أمرا جيدا، وهو نافعٌ لك كثيرا، ويحسم كل النـزاعات. فقالت ما هو؟ فقال لها مصعب بهدوء إنما هو أن تتركي الوثنية وتُسلمي وتؤمني بالنبي r. فكانت مشركة قوية، فبدأت تصرخ بسماع ذلك مُقسمة بالنجوم أني لن أدخل دينك أبدا، وطلبتْ من أقاربها إشارةً أن يمسكوا بمصعب ويحبسوه، لكنه كان متنبها فانفلت منهم ركضا.

لقد ورد بخصوص بيعة العقبة الثانية أن النبي r كان قد علم من مصعب t بمجيء الأنصار، وكان بعضهم قد قابَلوه أيضا على انفراد، لكنه لما كانت هناك حاجة للقاء جماعي على انفراد لذا قد حُدد التاريخ الأوسط من ذي الحجة بعد مناسك الحج، بحيث تقرر أن يأتي هؤلاء في منتصف الليل إلى العقبة التي قابلوه في العام الماضي عندها ويقابلوه r لكي يتمكن من الحديث معهم بهدوء وتركيز.

وأوصى رسول الله r الأنصار ألا يخرجوا إلى العقبة جماعة بل يأتوها فردًا فردًا أو اثنين اثنين، ولا ينبّهوا نائما ولا ينتظروا غائبا، بل يأتي من هو حاضر. فلما جاء اليوم الموعود خرج رسول الله r منفردا بعد أن انقضى من الليل ثلثه وأتى عمَّه العباس ليأخذ معه، وكان العباس مشركا لكنه كان يحب الرسول r وكان زعيم بني هاشم. فخرجا وأتيا العقبة. ولم يلبثا حتى بدأ الأنصار يصلون متسللين رجلا رجلا واثنين اثنين، وكانوا سبعين شخصا، وكانوا من قبيلتي الأوس والخزرج كلتيهما. وكَانَ الْعَبَّاسُ عم الرسول r أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا كما رأيتم في عز ومنعة في عشيرته وَقَدْ مَنَعْنَاه حتى اليوم من كل خطر، ولكنه يريد الآن ترك وطنه إليكم، فإن أردتم أن تأخذوه عندكم فلا بد لكم من حمايته من كل عدو، فإن كنتم مستعدين لذلك وإلا فيجب أن تخبروا الآن صراحة لأن القول الصريح هو الأفضل. وكان البراء بن معرور سيدًا وكبيرًا بين الأنصار فقال للعباس قد سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، لكننا نريد أن يتكلم رسول الله r بنفسه. فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم آيات من القرآن الكريم وألقى خطابا وجيزا بين فيه تعاليم الْإِسْلَامِ وحقوق الله وحقوق العباد، وقَالَ كل ما أريده منكم هو أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ لو اقتضى الأمر. ولما أنهى r خطابه أَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ كعادة العرب وقَالَ نَعَمْ يا رسول الله، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أنفسنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ r، فقد ترعرعنا تحت ظلال السيوف. وبينما كان الْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ r قاطعَه أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ يهود يثرب أواصر قديمة وسوف تنقطع هذه العلاقات لو صرنا حلفاء لك، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ ووطنك وَتَدَعَنَا؟! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ r وقَالَ: بَلْ دمكم دمي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ. فنظر الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيّ إلى القوم وقال هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرّجُلَ؟ إنّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِن النّاسِ، أي أن كل قوم سوف يعادونكم ببيعة النبي r، فضعوا هذا في الاعتبار وكونوا جاهزين لكل تضحية. فقال القوم، نعم نحن نعلم هذا، ولكن مَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ نَحْنُ وَفّيْنَا؟ قَالَ يعطيكم الله الْجَنّة التي هي أكبر ما عنده من جزاء ومكافأة. فقَالُوا كلهم: نرضى بهذه الصفقة، اُبْسُطْ يَدَك يا رسول الله. فَبَسَطَ النبي r يَدَهُ، فَبَاعت جماعة من سبعين فدائيا أنفسهم لرسول الله r في هذه المعاهدة الدفاعية، وتسمى بيعة العقبة الثانية.

ثم بعد البيعة قال رسول اللَّه r لهم لقد اتخذ موسى من قومه اثني عشر نقيبا، وأريد أن أجعل عليكم اثني عشر نقيبا ويكونون كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ومسؤولين عن قومهم عندي، فأَخرِجوا إلي منكم اثني عشر اسما ممن ترونهم أهلاً لذلك. فاقترَحوا اثني عشر شخصا، فوافق النبي r عليهم، وجعل كل واحد منهم مسؤولا عن كل قبيلة وعشيرة وشرح لهم واجباتهم، وجعل لبعض القبائل نقيبينِ.

بعدها أوصى العباس بن عبد المطلب الأنصارَ بأخذ الحيطة القصوى مخافة أن يصل قريشا خبر هذه المعاهدة فتحصل المشاكل، لأن عيونهم منتشرون في كل مكان. وبينما هو يوصيهم إذ صَرَخَ الشّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ في ظلمة الليل، (أي كان هناك شخص مختفٍ يتجسس عليهم) فقال يَا أَهْلَ قريش هَلْ لَكُمْ ما يجري بين مُذَمّمٍ (والعياذ بالله) وَالصّبَاةِ (أي المرتدين) مَعَهُ مِن تفاوض وعهد. ففاجأ الصوتُ الجميعَ، ولكن رَسُول اللّهِ r ظل مطمئنا وقال لهم ارجعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ كما جئتم رجلا رجلا أو اثنين اثنين.

فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الأنصاري يا رسول الله، إنا لا نخاف أحدًا، لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى قريش غَدًا بِأَسْيَافِنَا وننتقم منهم على اضطهادهم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، بل تَسلّلوا إلى رحالكم. فَخرج الجميع من العقبة فردًا فردًا أو فردين فردين، ورجع النبي r مع عمه العباس إلى مكة.

وكانت قريش قد بلغها أن اجتماعًا ما انعقد سرًّا، فلما أَصْبَحْوا ذهبوا إلى مَنَازِل أهل يثرب، فَقَالُوا وَاللَّهِ إِنّنا لا نريد أن تفسد العلاقات بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم، لكن قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ تم بينكم وبين صَاحِبِنَا هَذَا (أي محمد r) الليلةَ معاهدة أو تفاوضات سرية، فما هذا؟ فلما كان بين الأوس والخزرج مُشْرِكون يعبدون الأصنام ولَمْ يكونوا يَعْلَمُون عن واقعة هذه البيعة شيئا، فاحتاروا من قول قريش وحلفُوا لَهُمْ بِاللّهِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ. وكان مِن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي صار فيما بعد رأس المنافقين في المدينة، فقال لقريش لم يحصل أي شيء كهذا، فأَنَّى لأهل يثرب أن يعقدوا معاهدة كهذه دون علمي بها؟ وهكذا زال ما كان عند قريش من شك ورجعوا. وبعد قليل خرج الأنصار إلى يثرب، ولكن بعد رحيلهم تأكدت قريش من صحة الخبر بأن أهل يثرب قد عقدوا بالفعل معاهدة مع النبي r، فخرج بعضهم على إثر أهل يثرب ولكن قافلتهم قد ذهبت بعيدا. وكان سعد بن عبادة تخلف عن قافلة أهل يثرب لسبب من الأسباب، فقبض عليه أهل مكة وأوسعوه ضربا وجروه من ناصيته على أرضها الكثيرة الحجارة. وبلغ ذلك جبير بن مطعم والحارث بن حرب، وكانا من معارف سعد، فأنقذاه من ظلم قريش. لا يزال هناك بعض المواد عن سعد بن عبادة، وسوف أذكرها في الخطبة القادمة إن شاء الله.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز