خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 7/2/2020

في المسجد المبارك إسلام آباد بالمملكة المتحدة

*********

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم ]الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين[.

الصحابي الذي سأتناول ذكْره اليوم هو محمد بن مسلمة الأنصاري t وكان اسم أبيه مسلمة بن سلمة، وقيل اسم جده خالد وليس سلمة. وأمه أم سهم واسمها خُليدة بنت أبي عُبيد. كان أنصاريا من بني الأوس الذين كانوا حلفاء بني عبد الأشهل. كنيته أبو عبد الله وقيل أبو عبد الرحمن أو أبو سعيد، وعند ابن الحجر الأصح هو أبو عبد الله.

وبحسب قولٍ وُلِد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وهو ممن سُمّي في الجاهلية محمدًا. كان اليهود في المدينة ينتظرون نبيا بشّر به موسى u فقالوا سيكون اسم ذلك المبعوث محمدا، وحين سمع العرب ذلك بدؤوا يُسمّون أبناءهم محمدا. ولقد وردت في كتب السيرة أسماء هؤلاء الذين سُمّوا محمدا تأثرا وهم من ثلاثة إلى خمسة عشر شخصا. أورد العلامة السهيلي شارح “سيرة بن هشام” ثلاثة أسماء والعلامة ابن أثير خمسة بينما كتب عبد الوهاب الشعراني خمسة عشر اسما. وأسردها عليكم لمعلوماتكم. وهم محمد بن سفيان، محمد بن أحلحة، محمد بن حمران، محمد بن خزاعي، محمد بن عدي، محمد بن أسامة، محمد بن البراء، محمد بن الحارث، محمد بن حرماز، محمد بن خولي، محمد بن اليحمدي، محمد بن يزيد، محمد الأسيدي، محمد الفقيمي ومحمد بن مسلمة.

أسلم قديما على يدي مُصْعب بن عمير قبل سَعْد بن معاذ. وحين جاء أبو عبيدة بن الجراح مهاجرا إلى المدينة آخى رسولُ الله r بينه وبين محمد بن مسلمة.

كان من بين الصحابة الذين قتلوا كعب بن الأشرف وأبا رافع سلام بن أبي الحُقيق. إنهما كانا يسعيان دوما للإساءة إلى المسلمين بل حاولوا الهجوم على المسلمين وعلى النبي r أيضا فقرر النبي r إرسال بعض أصحابه لقتلهما. ولّاه النبي r على المدينة عند خروجه لبعض الغزوات، وأبناء محمد بنِ مسلمة جعفرُ وعبد الله وسعد وعبد الرحمن وعمر يُحسَبون من صحابة الرسول r، شهد بدرا وأحدا وجميع المشاهد مع النبي r ما عدا مشهد تبوك وتخلف في المدينة من تبوك بإذن النبي r.

وكما ذكرتُ أن محمد بن مسلمة كان فيمن قتل شخصين مثيرَين للفتنة وعدوَّين للإسلام، وقد ذكرتُ بعض التفاصيل لذلك في ذكر عبَّاد بن بشر t قبل قرابة سنة ونصف ولكن هناك بعض التفاصيل الأخرى لهذا الحادث وأذكرها هنا بإيجاز. كتب مرزا بشير أحمد t في كتابه “سيرة خاتم النبيين” أن مشهد بدر كان قد كشف عن عداء اليهود القلبي في المدينة وازدادوا عداء وشرا وفتنة، وقتْلُ كعب بن الأشرف أيضا حلقة من ذلك، كان كعب يهوديا ولكنه لم يكن من نسل اليهود بل كان من العرب، وكان أبوه رجلا شاطرا ومكارا من بني نبهان، وجاء إلى المدينة وارتبط ببني النضير وأصبح حليفهم، ونال أخيرا سلطة ونفوذا لدرجة زوّجه رئيس بني النضير الأكبر أبو رافع بن أبي الحقيق ابنته، ومن بطنها وُلد كعب الذي حين كبر نال مكانة أعظم من أبيه حتى بلغ مرتبة بدأ يحسبه جميع يهود الجزيرة سيدهم، كان من حيث الأخلاق سيئا للغاية وكان بارعا في حياكة المكايد السرية والمؤامرات، ولم تكن حتى رائحة الحسنة اقتربت منه، وكان قد بلغ منتهاه في السيئات وإثارة الفتنة والفساد. وحين جاء النبي r المدينة مهاجرا كان كعب مع اليهود الآخرين الذين كتبوا مع النبي r ميثاق الصداقة والأمن والأمان والدفاع المشترك، ولكن بدأت نار البغض والعداء تنشب في قلب كعب خفيةً، وبدأ يخالف الإسلام ومؤسِّسه بالمكايد السرية والمؤامرات الخفية، واشتد عداؤه وازداد معارضة وفتنة يوما فيوما حتى سلك بعد بدر مسلكا كان ملؤه الفساد والفتنة وأدّى إلى ظروف خطيرة للمسلمين. حين نال المسلمون فتحا عظيما يوم بدر وقُتل معظم رؤساء قريش علم كعب أن هذا الدين الجديد لن يتلاشى بسهولة لأنه كان يظن من قبل أن هذا الدين جديدٌ وسوف يتلاشى تلقائيا ولكن حين رأى ازدهار الإسلام ورأى نتائج غزوة بدر خطر بباله أنه لن يتلاشى هكذا، فعقد العزم بعد بدر ليبذل كل قوته من أجل القضاء على الإسلام وإبادته. وحين أيقن كعب أن انتصار المسلمين في معركة بدر قد رزقَ الإسلامَ استحكاما لم يكن يتصوّره امتلأ ثورة وغضبا وأعدّ للسفر فورا وتوجّه إلى مكة، ونتيجة طلاقة لسانه وقوة شعره ألهب النار المضطرمة في قلوب قريش، وأثار في قلوبهم لهيب عطش لقتل المسلمين لا تبرد، وملأ صدورهم بعواطف الانتقام والعداوة، وحين توقدت عواطفهم للغاية نتيجة إثارته جمعهم في فناء الكعبة وجعلهم يمسكون بأستار الكعبة في أيديهم وحلّفهم على أنهم لن يهدؤوا ما لم يُبيدوا الإسلام ومؤسِّسه من صفحة الأرض. وبعد ذلك توجّه ذلك الشقي إلى قبائل العرب الأخرى وذهب من قبيلة إلى أخرى وأثارهم ضد المسلمين، ثم عاد إلى المدينة وشبّب بالنساء المسلمات، وذكر في أبياته المثيرة النساء المسلمات بأسلوب بذيء وفاحش، حتى لم يترك نساء بيت النبي r إلا وذكرهن في أبياته القبيحة، ونشر أبياته في البلاد.

في الأخير تآمرَ لاغتيال الرسول r، حيث خطّط أن يدعو النبي r إلى بيته بحجة استضافته فيقتله بعض الشباب، ولكن الله بفضله أطلع النبي r على المؤامرة قبل فوات الأوان، ففشلت. فلما بلغ الأمر هذا الحد، وثبتت جرائم كعب من نكث عهد، وتمرد وإثارة حرب وفتنة، وتشبيب ومؤامرة للقتل، أصدر النبي r قراره بأن كعب الأشرف يستوجب القتل على تصرفاته المجرمة هذه، وذلك بصفته رئيسا وحاكما أعلى للحكومة الديموقراطية القائمة نتيجة المعاهدة التي تمت بين مختلف شعوب المدينة بعد هجرته r إليها. ولما كانت المدينة مشحونة بالأخطار نتيجة الفتن التي أثارها كعب، فإن النبي r لو أصدر قرار قتله علنًا فكان هناك خطر كبير لنشوب حرب أهلية مدمرة في المدينة تؤدي إلى سفك الدماء بلا هوادة، وكان النبي r يريد بأية تضحية ممكنة ألا تراق دماء أقوام المدينة، فأمر ألا يقتل كعب علنًا، بل يجب أن يذهب إليه نفر من المسلمين سرًّا ويقتلوه. وعهد النبي r هذه المهمة إلى صحابي مخلص من قبيلة الأوس محمد بن مسلمة، وأوصاه أن يستشير سعد بن معاذ رئيس الأوس قبل اتخاذ أي أسلوب لقتل كعب. فقال محمد بن مسلمة، يا رسول الله، لا بد من قول شيء لكعب من استدراجه وقتله سرًا، أي لا بد أن أقدم حجّة ما لاستدراجه من البيت إلى مكان مناسب لقتله سرًا. فقال النبي r نعم، وذلك نظرًا لما في تنفيذ هذ العقوبة علنًا من نتائج مدمرة. ثم إن محمد بن مسلمة استشار سعد بن معاذ وأخذ معه أبو نائلة واثنين أو ثلاثة من الصحابة، ووصل إلى دار كعب، ودعاه إلى الخارج ثم قال له إن صاحبنا، أي محمدًا r، يطالبنا بالصدقات وقد ضيّق علينا، فنرجوك أن تعطينا بعض المال دَينًا. فقفز كعب فرحًا بسماع ذلك وقال: والله، ليس ببعيد ذلك اليوم الذي تملّون فيه صاحبكم وتخذلونه. قال محمد بن مسلمة: دعك من هذا، لأننا قد دخلنا في طاعته، وأخبرنا عما أتيناك من أجله، فهل ستعطينا بعض المال قرضًا أم لا؟ فقال كعب: نعم، ولكن لا بد من رهن. قال محمد: ماذا تريد؟ فقال ذلك الشقي: ارهنوني نساءكم. فقال محمد كاظمًا غيظه: كيف نترك نساءنا رهائن عند شخص مثلك ليعيّرنا بعد ذلك العرب كلهم؟ فخذ سلاحنا إن أردت. فرضي كعب بذلك. ورجع محمد بن مسلمة وأصحابه بعد أن وعدوه بأنهم سيرجعون بالسلاح ليلا. وعندما خيم الليل حضر هؤلاء النفر بسلاحهم إلى دار كعب، إذ كان جاز لهم عندها حمُل السلاح إليه علنًا ليعطوه إياها رهنًا بحسب المعاهدة. فاستدرجوا كعبًا من داره وأخذوه جانبًا، ثم بينما هم يمشون وضَع محمد بن مسلمة أو أحد أصحابه يده على رأس كعب ثم أمسك بشعر رأسه بسرعة وقوة وقال لأصحابه اقتلوه. وكان أصحابه مستعدين لذلك سلفًا، فضربوه بسيوفهم وأردوه قتيلا. ثم غادر محمد بن مسلمة وأصحابه المكان مسرعين إلى عند النبي r وأخبروه بقتل كعب.

ولما انتشر خبر قتله في البلدة سادها الصمت الممزوج بالخوف، وثار اليهود جدا، وجاء وفدهم في الصباح إلى النبي r واشتكوا إليه قتل رئيسهم كعب بن الأشرف. فقال النبي r بعد سماع كلامهم ألا تعلمون جرائمه؟ ثم إن النبي r عدّد لهم جرائمه المختلفة مِن نكثِ عهد، وتأجيج حرب، وإثارة فتن، وتشبيب فاحش، ومؤامرة قتل وغيرها. فسكت اليهود وخافوا ولم يثيروا المزيد من الضجة. ثم قال لهم النبي r عليكم أن تعيشوا معنا مسالمين ومتعاونين ولا تبذروا بذور الفتن. فرضي اليهود بقول النبي r وعُقدتْ معهم معاهدة جديدة وعدوا فيها من جديد بالتعايش السلمي متجنبين الفتنة والفساد. فلو لم يكن كعب مجرمًا لما عقد اليهود معاهدة جديدة بهذه السهولة ولما سكتوا على قتله. على كل حال، عقدوا المعاهدة الجديدة على العيش السلمي، ولم يرد في أي مصدر تاريخي أنهم ذكروا بعد ذلك قط قتل كعب بن الأشرف متهمين المسلمين على ذلك، لأنهم كانوا يدركون في قرارة نفوسهم أنه قد نال عقوبة كان يستوجبها.

لقد كتب بعض المؤرخين الغربيين كثيرًا حول اغتيال كعب بن الأشرف، مثيرين المطاعن الكثيرة ومعتبرين قتله وصمةَ عار في جبين النبي r. ولكن يجب على المرء أن يرى (أولاً): هل كان هذا القتل أمرًا مشينًا في حد ذاته أم لا؟ و(ثانيًا) هل الطريقة التي اتُّبعت لقتله كانت مسموحة أم لا؟

فأولاً، ليكن معلومًا أن كعب بن الأشرف كان قد دخل في معاهدة أمن وسلام مع النبي r، وكان قد عاهد المسلمين على نصرهم ضد كل عدو خارجي وعلى التعايشِ معهم كالأصدقاء، ناهيك أن يقوم بأية أعمال معادية للمسلمين. كما رضي، بحسب هذه المعاهدة، بالنبي r حاكمًا ورئيسًا في هذه الحكومة الديموقراطية التي أقيمت في المدينة، وبأنه سيقبل قراراته r في كل المنازعات. والثابت من التاريخ أنه وفقًا لهذه المعاهدة كان اليهود يرفعون قضاياهم للنبي r، فكان يحكم بينهم. فمادام كعب قد نقض كل هذه المواثيق والعهود وخان المسلمين بل حكومةَ المدينةِ، وبذَر بذورَ الفتنة والفساد في المدينة، وأجّج نيران الحرب في البلاد وحرّض قبائل العرب ضد المسلمين كثيرا، ونسج المؤمرات لاغتيال النبي r. ففي تلك الظروف لم تكن لكعب جريمة واحدة بل كانت مجموعة الجرائم التي استحال غض الطرف عن اتخاذ إجراءات تعزيرية عنها. وهل كانت هناك عقوبة أقل من القتل كان من شأنها أن تضع الحد على إثارة اليهود الفتن؟ ألا يعاقَب اليوم المجرمون المتمردون وناقضو العهد ومشعِلو فتيل الحرب وناسجو المؤامرات في بلاد تدّعي كونها متحضرة؟ يتابع مرزا بشير أحمد t: أما السؤال عن أسلوب قتل كعب بن الأشرف، هل كان أسلوب قتله جائزا أم لا؟ فليكن معلوما أيضا أنه لم تكن في الجزيرة العربية حينذاك سلطنة رسمية، بل كل شخص وكل قبيلة كانت حرة ومستقلة في حد ذاتها. ففي ظل تلك الظروف لم تكن هناك محكمة لتُرفع إليها قضية رسمية ضد كعب للحصول على حكم قتله. فهل كانت قضيته ستُرفع إلى اليهود الذين كان هو زعيمهم، والذين كانوا قد ارتكبوا بأنفسهم الخيانة ضد المسلمين وكانوا يثيرون الفتن في كل يوم جديد؟ أو كانت ستُرفع أمام قريش الذين كانوا عطاشى لدماء المسلمين؟ أو هل كان واجبا أن يُطلب العدل من قبائل سليم وغطفان الذين استعدوا للهجوم على المدينة ثلاث أو أربع مرات في بضعة أشهر ماضية؟ ففكّروا، أيّ سبيل كان مفتوحا على المسلمين حين كانت حياته خطرا على أنفسهم وعلى أمن بلادهم نتيجة إشعال هذا الشخص الفتن والتحريض على الحرب ومؤامرة الاغتيال إلا أن يقتلوه كلما وجدوا فرصة لذلك؟ لأن قتل شخص شرير ومثير الفتنة مثله أهون من أن تكون حياة كثير من المواطنين المسالمين في خطر وأن يُدمَّر أمن البلاد.

ليكن معلوما أيضا أنه بحسب الميثاق الذي أُبرم بعد الهجرة بين المسلمين واليهود لم يعُد النبي r مواطنا عاديا فحسب بل صار رئيس سلطنة ديمقراطية قامت في المدينة. وقد خُوِّل أيضا لأنْ يحكم بما يراه مناسبا في النـزاعات والأمور السياسية كلها. فرأى r قتل كعب واجبا لمصلحة أمن البلاد نظرا إلى افتتانه. فلا مجال للاعتراض على حكم قتله قط. وثابت من التاريخ أيضا أن اليهود التزموا الصمت نظرا إلى جواز قتل كعب نتيجة جرائمه، ولم يعترضوا عليه. أما إذا اعترض أحد أنه لماذا لم يُجمع اليهود ولماذا لم تُعرض عليهم قائمة جرائم كعب؟ إذ كان من الأفضل أن يُصدر الحكم الرسمي والعلني بقتله بعد إتمام الحجة عليهم، فجوابه أن الظروف آنذاك كانت حساسة جدا وكان هناك خطر لتفاقم الأمور على نطاق واسع، ولم يكن مستبعدا أن تبدأ في المدينة سلسلة خطيرة من المجازر والحرب الأهلية. ففي مثل الأمور التي يفيد القيام بها بسرعة وصمت رأى النبي r مناسبا لمصلحة الأمن العام أن يحكم بقتل كعب بصمت. ولكن لم يكن في هذا الحكم أدنى دخل للخديعة ولم يشأ النبي r أن يبقى حكم العقوبة هذا في الخفاء دائما، لأنه لما حضر وفد اليهود إلى النبي r صبيحة اليوم التالي سرد لهم النبي r الحكاية كلها بتفاصيلها دون تردد وأثبت بقبوله مسؤولية هذا الأمر أنه لم يكن أدنى إمكانية للخديعة، وأخبر اليهود بكل وضوح أنه قد حكم بقتل كعب نتيجة جرائمه الخطيرة كذا وكذا.

أما الاعتراض أن النبي r سمح لأصحابه بالكذب والتزوير بهذه المناسبة، فهذا خطأ تماما لأن الروايات الصحيحة تكذّب هذه الفكرة. لم يأذن النبي r الكذب والتزوير قط، بل قد ورد في رواية في صحيح البخاري أنه عندما سأل محمد بن مسلمة النبيَّ r ما معناه: إذا أُريد قتلُ كعب بصمت فلا بد أن نقول له شيئا، فلم يقل النبي r نظرا إلى مصالح عظيمة كانت وراء قتله بصمت إلا: نعم، ولم يُذكر أيّ شرح أو توضيح من قِبل محمد بن مسلمة قط حول هذا الموضوع. وكان النبي r يقصد من ذلك أن محمدا بن مسلمة ومن معه سيذهبون إلى بيته ويطلبون منه الخروج معهم فلا بد لهم من أن يقولوا ما من شأنه أن يرضي كعبا للخروج معهم بصمت، وهذا لا ضير فيه مطلقا. ففي ظروف الحرب يؤدي الجواسيس وغيرهم واجباتهم فيضطرون لقول كلام مماثل، ولا يعترض عليه عاقل.

إذًا، إن تصرف النبي r نزيه على أية حال، أما ما قاله محمد بن مسلمة ومن معه لكعب، فالحق أنه لم يكن في كلامهم أيضا ما يخالف الصدق والأخلاق، ولم يكذبوا قط بل استخدموا كلمات ذات معنيين نظرا إلى الغاية والهدف من مهمتهم، ولم يكن لهم بدٌّ منها. وليس محل اعتراض أبدا عند عاقل وأمين أن يقول أحد بمقتضى هدف نبيل وحسن كلاما بسيطا وصحيحا بشيء من التورية.

إضافة إلى ذلك، فقد أثار البعض اعتراضا أنه هل الكذب والخداع جائز في الحرب. فقد ورد في بعض الروايات أن النبي r كان يقول: “الحربُ خُدْعةٌ”. أي الحرب خديعةٌ بحد ذاتها. ويستنتجون من قوله r هذا أن النبي r قد أذن بالخداع في الحرب، بينما ليس معنى التعبير: “الحرب خُدْعة” أن الخداع في الحرب جائز بل المعنى حصرا هو أن الحرب خديعة بحد ذاتها. أي لا يمكن التنبؤ جزما بنتيجتها، فهناك أمور كثيرة يمكن أن تؤثر على نتائجها. ويؤيد هذا الموقف أن هذه الرواية واردة في الأحاديث بقراءتين: أحدهما: “الحربُ خُدْعة”. وفي رواية أخرى أن النبي r سمى “الحربُ خَدْعة”، وبربط القراءتين نتوصل إلى النتيجة أنه r لم يكن يقصد أن الخداع في الحرب جائز، بل كان مراده أن الحرب بحد ذاتها خداع، أما إذا أصرَّ أحد على أن المراد منه حصرا أن الخداع في الحرب جائز، فمن المحتم أن المراد من الخداع هنا التدبير الحربي والخطة الاستراتيجية. وليس المراد منه حتما الكذب والخداع، لأن خدعة هنا تعني الحيلة والتدبير الحربي. والمعنى أن السيطرة على العدو أو غلبته نتيجة إغفاله بحيلة أو تدبير ليست ممنوعة.

فلهذا التدبير أشكال مختلفة، فمثلا الثابت من الروايات الصحيحة أن النبي r عندما كان يخرج لمهمة ما لم يكن يصرح بمحطته الأخيرة عادة، وأحيانا إذا كان يقصد الوصول إلى الجنوب، يتوجه أولا إلى الشمال ثم بعد قطع مسافة يدور إلى الجنوب، أو إذا كان سأله أحد “من أين أتيت”؟ ذكر له المحطة القريبة أو البعيدة بدلا من التصريح باسم المدينة، أو اتخذ تدبيرا حربيا آخر من هذا القبيل، أو كما ورد في القرآن الكريم إشارةً أن الصحابة أحيانا في الحرب كانوا يتخلفون عن ميدان الحرب ليغفل عنهم العدو، ثم حين غفل وتشتت صفوفُه، أعادوا الكرة فجأة. فكل هذه الأفعال من الخدعة التي سمح بها في الحرب، وإلى الآن هذا يباح به. أما توظيف الكذب والغدر وغيرهما فقد نهى عن ذلك الإسلام بشدة متناهية. فكان النبي r عموما يقول إن الْكَبَائِر الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقولُ الزُّورِ. كما كان r يقول يمكن أن يجتمع الإيمان والجبن، لكن لا يمكن أن يجتمع الإيمان والكذب. وكان يقول عن الخداع والغدر أن الذي يغدر سيواجه عقاب الله الشديد يوم القيامة.

باختصار الخدعة التي سُمح بها في الحرب ليست خداعا حقيقيا أو كذبا، بل المراد منها الخطط للحرب، التي تُتخذ لإغفال العدو أو إحراز الغلبة عليه، وهي في الظاهر تعدّ شبيهة بالكذب والخداع لكنها ليست من الكذب في الحقيقة. يقول مرزا بشير أحمد t إن الحديث التالي يصدِّق تأويلي هذا، والحديث أن أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ليست في الحقيقة كذبا ويمكن أن يعدها الناس كذبا خطأً وهي الحرب، وأن يُصْلِحُ الرَّجُلُ بَيْنَ النَّاسِ وأن يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا إرضاء وإفراحا.

ينبغي أن تكون النية والأهداف أيضا حسنة في كل حال. هذا الحديث لا يترك مجالا لأي نوع من الشبهة في أن الخدعة التي سُمح بها في الحرب، ليس المراد منها الكذب والخداع حتما، بل المراد منها الأمور التي لا بد منها أحيانا كخطة حربية، وهي عُدت من المسموح بها في كل قوم ودين. بعد إيراد حدث كعب بن الأشرف أورد ابن هشام الروايةَ أن النبي r قال للصحابة بعد قتل كعب: مَنْ ظَفَرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ فَوَثَبَ مُحَيّصَةُ يهوديا فَقَتَلَهُ. والرواية نفسها أوردها أبو داود أيضا، والراوي في كلتا الروايتين ابن إسحاق.

يقول مرزا بشير أحمد المحترم إن هذه الرواية ضعيفة وغير جديرة بالثقة من حيث الرواية. إذ لم يقل النبي r ذلك قط، لأن ابن هشام قد كتبها بغير أي سند، أما السند الذي كتبه أبو داود فضعيف وناقص، حيث قال ابن إسحاق في هذا السند أنه سمع هذا القول من مَوْلًى لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وهو مجهول الاسم وهو كان سمِعها من ابنة محيصة ولم يصرح باسمها، وهي مجهولة وكانت سمعتْ عن أبيها. والآن يمكن أن يفهم كل إنسان أن الرواية التي اثنان من رواتها مجهولا الاسم والحال، لا تجدر القبول في حال من الأحوال.

حين نتدبر هذا الحدث لا يبدو صحيحا، لأن وتيرة منهج النبي r العامة تكذِّبه قطعا، أن يكون r قد أصدر بمثل هذا الأمر. إضافة إلى ذلك لو كان الحكم عامًّا لقُتل الكثير حتما نتيجة له. بينما ورد في الروايات قتلُ شخص واحد، مما يثبت أن الحكم لم يمكن عامّا. ثم ما دام ثبت من الروايات الصحيحة الأخرى أن النبي r عقد عهدا جديدا مع اليهود في اليوم التالي، لذا في هذه الحال لا يجدر القبول أن بوجود هذا العهد أصدر r هذا الحكم. ولو كان شيء من هذا القبيل لأثار اليهود ضجة حتما، لكنه لا يتبين من أي رواية من التاريخ أن اليهود رفعوا أي شكوى من هذا النوع.

إذن هذه القصة باطلة روايةً ودرايةً، وإذا كان فيها شيء من الحقيقة، أي أن بعد قتل كعب بن الأشرف أثيرت ضجة في المدينة وثار اليهود، فربما كان النبي r قال ذلك بعد أن أحسَّ خطرا من اليهود، وهذا أيضا احتمال وليس أمرا محتما، أنه إذا شعرتم أي خطر من أي يهودي فيمكن أن تقتلوه دفاعا عن أنفسكم. لكن يبدو أن هذا الوضع دام سويعات، لأنه بعد ذلك كُتب عهد جديد في اليوم التالي واستتبَّ الأمن.

ثم يقول مرزا بشير أحمد المحترم: هناك اختلاف في تاريخ قتل كعب بن الأشرف، حيث ذكر ابن سعد أنه حدث في ربيع الأول من العام الثالث للهجرة، أما ابن هشام فذكره بعد سرية زيد ابن حارثة، التي من المسلم أنها كانت في جمادى الآخرة، وأنها اتبعت ترتيب ابن هشام.

باختصار هناك حدث أو اثنان آخران سأتناولهما مستقبلا، إن شاء الله.

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز