خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 28/2/2020

في المسجد المبارك، إسلام آباد بالمملكة المتحدة

*********

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم ]الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين[

الصحابي الذي سأذكره اليوم هو مصعب بن عمير t. كان من قبيلة قريش من بني عبد الدار، كنيته أبو عبد الله، وقيل إنه يُكنى أبا محمد أيضا. والده عمير بن هاشم وأمُّه خُنَاس بنت مالك وكانت كثيرةَ المال، تكسوه أحسن الثياب. كان أعطر أهلِ مكة يلبس الحَضرمي من النعال (الذي كان يلبسه الأثرياء) المصنوع في منطقة حضر موت (وهي منطقة مترامية الأطراف قرب البحر شرقي عدن. فكان مصعب بن عمير يلبس لباسا فاخرا وعطرا فاخرا وحذاء مستوردا)

زوجته حمنة بنت جحش، أخت أمّ المؤمنين زينب بنت جحش، زوج رسول الله r. كان رسول الله r يذكره ويقول: “مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحَدًا أَحْسَنَ لِمَّةً، وَلَا أَرَقَّ حُلَّةً، وَلَا أَنعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ”.

كان مصعب t من الصحابة الأجلاء ومن السابقين إلى الإسلام، وقد أسلم حين كان النبي r يبلّغ الدعوة في دار الأرقم، ولكنه أخفى إسلامه خوفا من أمِّه وقومه، وكان يحضر عند النبي r سرّاً إلى أن أبصره عثمان بن طلحة يصلّي، فأخبر قومه وأمّه، فحبسه أبواه، فلم يزل محبوسا إلى أن هاجر إلى الحبشة. وبعد فترة رجع المسلمون من الحبشة إلى مكة، وكان مصعب بن عمير معهم. ولما رأت أمُّه حالته المزرية تخلّت عن معارضته وتركتْه وشأنه. وُفِّق مصعب للهجرتين، هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة.

يقول سعد ابن أبي وقاص، ما معناه: رأيت مصعباً في زمن الرخاء وبعد إسلامه، وقد جهد في الإسلام جهداً شديداً، حتى رأيت جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية.

أقول: هذه كانت معايير تضحيات الصحابة المحيرة للعقول.

ذات يوم جاء مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ إلى النبي r حين كان r جالسا مع أصحابه؛كانت على مصعب بُردَةٌ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ. (كان من قبل يلبس لباسا فاخرا، أما الآن، فقد آلت حالته إلى أن يلبس لباسا مرقوعا بفرو) حين رآه الصحابة خفضوا رؤوسهم إشفاقاً به، ولأنهم كانوا غير قادرين على تحسين حالته t. جاء مصعب بن عمير وألقى السلام فردّ عليه النبي r وأثنى عليه وقال ما معناه: الحمد لله، طوبى لأهل الدنيا دنياهم، ثم قال: مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحَدًا أَحْسَنَ لِمَّةً، وَلَا أَرَقَّ حُلَّةً، وَلَا أَنعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. كان أحب أولاد أبويه، ولكن حب الله ورسوله أوصله إلى هذا الحد إذ قد تخلى عن كل شيء في سبيل الله تعالى ولنيل رضاه.

يقول سعد بن أبي وقاص t ما مفاده: لما رأى النبي r مصعبا على حاله تلك بكى نظرا إلى حياة الترف والعز التي كان ينعم بها سابقاً. أي قد تذكّر كيف كان مصعب، وكيف أصبح يقدم التضحيات الآن.

عن عليّ t قال: إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي الْمَسْجِدِ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ مَا عَلَيْهِ إِلاَّ بُرةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ فلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ r بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ الْيوْمَ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r‏:‏ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى (أي تكون هناك أطعمة من شتى الأنواع، كما هو الحال اليوم) وَسَتَرْتُمْ بيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ‏. (أي تُستخدم أستار ثمينة، وهذا المشهد يماثل ما نشاهده اليوم، أو مشاهد زمن الرخاء الذي ناله المسلمون فيما بعد)‏،  قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيوْمَ نتفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ ‏.‏ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ‏”لأَنتُمُ الْيوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يوْمَئِذٍ. (أي أن مستوى عباداتكم اليوم أرفع وأعلى بكثير مقارنة مع الذي يكون عليه الذين يأتون فيما بعد بسبب نيلهم الرخاء وبحبوحة العيش)

قال مرزا بشير أحمد t في كتابه “سيرة خاتم النبيين” عن الهجرة إلى الحبشة، وقد ذكرت بعض الأحداث بهذا الشأن في بيان الصحابة الآخرين ولكني سأذكرها باختصار هنا، فيقول مرزا بشير أحمد t: بأمرٍ من النبي r هاجر أحد عشر رجلًا وأربع نساء إلى الحبشة في شهر رجب منهم مصعب بن عمير.

یتابع مرزا بشير أحمد t قائلا: من الغريب أن معظم المهاجرين الأوائل كانوا من القبائل القوية، والضعفاء بينهم قليلون، مما يدل على أمرين اثنين: الأول أنّ المسلمين الذين كانوا من القبائل القوية لم يكونوا محفوظين من مظالم قريش، والأمر الثاني هو أن الضعفاء مثل الموالي وغيرهم كانوا في حالة من الضعف والعجز إلى درجة أنهم ما كانوا يستطيعون حتى الهجرة.

على أية حال، حين علمت قريش بهجرتهم غضبوا غضبا شديدا لخروج الصيد من أيديهم عبثا، فأتْبعوهم ولكن لما وصلوا الساحل كانت السفينة قد ذهبت فعادوا خائبين.

نَعِم المسلمون بحياة الأمن بعد وصولهم الحبشة ونجوا من مظالم قريش بصعوبة.

وبعد ذلك أسلم على يد النبي r 12 شخصًا جاؤوا من المدينة وعرفت بيعتهم ببيعة العقبة الأولى، وعند عودتهم إلى المدينة أرسل النبي r معهم مصعب بن عمير ليعلمهم القرآن الكريم وتعاليم الإسلام. لقد عُرف مصعب في المدينة بلقب “مقرئ” أي معلم.

وجاء في رواية أخرى أن أنصار الأوس والخزرج التمسوا من النبي r أن يرسل إليهم مَن يعلمهم القرآن الكريم فبعث r مُصعباً t.

أقام مصعب t في المدينة في بيت أسعد بن زرارة، وكان يصلي بالناس إمامًا، وظل فترةً مقيمًا عند أسعد بن زرارة وبعد ذلك انتقل إلى بيت سعد بن معاذ.

عن البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا من المهاجرين من المدينة  مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِنا القرآن الكريم،  فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي بعض أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ r، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ r، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ r.

يتابع مرزا بشير أحمد t كلامه في كتابه سيرة خاتم النبيين عن مصعب بن عمير t فيقول:

الذين آمنوا من الصحابة في دار الأرقم هم السابقون وأشهرهم مصعب بن عمير t الذي كان غرّة الشباب وأوفاهم جمالا من بني عبد الدار. وكان معززًا ومحببًا عند عائلته، وهو ذلك الشاب الصالح الذي أُرسل كأول داعيةٍ إسلاميّ إلى يثرب قبل الهجرة والذي عن طريقه انتشر الإسلام في المدينة في تلك الفترة.

وورد في أحد كتب السيرة أن مُصعباً كان أول من صلى بالناس الجمعة قبل الهجرة. لقد استأذن مصعب t رسول الله r قبل بيعة العقبة الثانية لإقامة صلاة الجمعة في المدينة فأذن له النبي r فصلى مصعب بالناس أول جمعة في دار سعد بن الخيثمة وكانوا اثني عشر رجلا من المدينة، وذُبحت لهم شاة بهذه المناسبة. فكان مصعب بن عمير t أول من صلى بالناس الجمعة في الإسلام. ولكن هناك رواية أخرى تقول إن أبا عمامة أسعد بن زرارة أول من صلى بالناس الجمعة. على أية حال إن مصعب بن عمير هو أول داعية للإسلام.

كان مصعب بن عمير t يزور أحياء الأنصار في المدينة برفقة أسعد بن زرارة ويبلغهم الدعوة، ولقد أسلم عن طريق مصعب صحابة كثيرون منهم بعض كبار الصحابة كسعد بن معاذ وعباد بن بشر ومحمد بن مسلمة وأسيد بن حضير وغيرهم.

يذكر مرزا بشير أحمد مساعي مصعب الدعوية فيقول:

عند سفرهم من مكة التمس المسلمون الاثنا عشر الجدد من النبي r أن يُرسل معهم معلِّما ليعلّمهم الإسلام ويبلّغ دعوته إلى إخوتهم المشركين. فأرسل النبي r معهم مصعبَ بن عمير الذي كان شابا شديد الإخلاص من بني عبد الدار. كان الدعاة المسلمون في تلك الأيام يسمَّون قراء أو مقرئين لأن تلاوة القرآن الكريم على الناس كانت من أهم واجباتهم وكانت أفضل وسيلة لتبليغ الدعوة. فذهب مصعب إلى يثرب وعُرف فيها بلقب “مقرئ”.

لقد أقام مصعب t في المدينة بدار أسعد بن زرارة والذي كان أولَ من أسلم بالمدينة وكان مخلصًا وصالحًا وذا أثر ونفوذ، فجعل مصعبُ دارَ أسعد بن زرارة مركزًا لدعوته وانشغل في أداء واجباته بكل نشاط. ولما كان المسلمون ينعمون في المدينة بحياة اجتماعية آمنة نسبيًا لذلك بناء على اقتراح أسعد بن زرارة أمر النبي r مصعبَ بنَ عمير بإقامة صلاة الجمعة، وهكذا بدأت حياة المسلمين الاجتماعية ولقد منّ الله تعالى عليهم بحيث بلغت دعوة الإسلام إلى كل بيت خلال فترة وجيزة، وأخذ الناس من الأوس والخزرج يدخلون الإسلام بسرعة كبيرة. وأحيانًا كانت القبيلة كلها تُسلم في يوم واحد، فكان بنو عبد الأشهل قد أسلموا هكذا مرة واحدة وكانوا حلفاء الأوس أشهر قبائل الأنصار، وكان رئيسها سعد بن معاذ الذي لم يكن رئيسًا لبني عبد الأشهل فحسب، بل كان من زعماء الأوس أيضا. لما كثُر أتباع الإسلام في المدينة كرهَه سعد بن معاذ وأراد منعه، وكان قبل إسلامه معارضا شديدًا، ولكن كانت له قرابة مع أسعد بن زرارة بحيث كان ابن خالته، وكان قد أسلم، لذلك لم يكن سعد بن معاذ يتدخل مباشرة حتى لا تفسد العلاقة فيما بينهما، فأخبر قريبه الآخر أسيد بن حضير بأنني تمنعني قرابتي من التكلم مع أسعد بن زرارة الذي أسلم وشارك مُصعباً في تبليغ الدعوة، فاذهب أنتَ إلى مصعب وامنعْه من هذا. أي أنه قال له: بدلا من أن يمنع أسعد بن زرارة مصعبا من تسفيه قومنا؛ قل لأسعد بن زرارة أيضا أن هذا الطريق ليس جيدا. كان أُسيد من كبار سادة بني عبد الأشهل حتى كان والده سيد أوس كلها في حرب بعاث، وكان له تأثير كبير في قومه بعد سعد بن معاذ.

فبقول سعد توجَّه أسيد إلى مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة وخاطب مصعبا في لهجة غاضبة وقال له لماذا تسفه قومنا؟ اعتزلْنا وإلا لن يكون لك خير. وقبل أن يرد عليه مصعب t قال له أسعد بصوت خافت هذا سيد قبيلته فحدِّثه بلطف وحب. فقال مصعب لأسيد بأدب ولطف، أرجو ألا تغضب علينا واجلسْ معنا بلطف واسمع لنا بهدوء وبعد ذلك اتخذْ أي موقف. فلما كان أسيد سليم الفطرة وجد كلامه معقولا، فقرأ عليه مصعبٌ القرآنَ الكريم بحب وعلَّمه الإسلام بحكمة، فتأثر بذلك أسيدٌ تأثُّراً بالغاً، فأسلم من فوره. ثم قال إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، ثم انطلق من عندهما وأرسل إليهما سعدَ بن معاذ بحيلة.

فلما وصل إليهما سعد بن معاذ قال لأسعد بن زرارة بغضب: إنك تستغل قرابتي معك، وهذا لا يجوز. وأنا أمنع نفسي عنك بسبب القرابة فلا تستغل وضعي هذا. فهدَّأه مصعبٌ بلطف كما فعل مع من سبقه إليهما، وقال له أرجو أن تجلس معنا قليلا وتسمع كلامنا وإذا وجدت فيه شيئا قابلا للاعتراض فيمكنك أن تردّه، فقال سعد: نعم، هذا الطلب معقول، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فقرأ عليه مصعبٌ القرآن كما فعل سابقا، ثم شرح له تعاليم الإسلام بأسلوبه الخلاب، ولم يمض وقت طويل حتى اقتنع سعد أيضاً، فاغتسل بطريق مسنون وشهد شهادة الحق. بعد ذلك عاد سعد بن معاذ وأسيد بن حضير معا إلى قبيلتهما، فسألهم سعد بلهجة خاصة يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وابن سيدِنا، ونثق بقولك كل الثقة. فقال فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. ثم شرح لهم تعاليم الإسلام فما أمسى في دار بني عبد الاشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة. ثم أخرج سعد وأسيد رضي الله عنهما أوثانَ قومهما وكسراها بأيديهما.

سعد بن معاذ وأسيد بن حضير اللذان أسلما ذلك اليوم يُعدّان من أجلة الصحابة، ويقول حضرة مرزا بشير أحمد t أنه من المؤكد أن مكانتهما كانت عظيمة جدا، أما سعد فحظي في الأنصار بمكانة نالها سيدنا أبو بكر t في المهاجرين، كان هذا الشاب يكنّ أقصى درجة من الإخلاص والوفاء والحب للإسلام ومؤسسه r وكان فداء له. فلما كان سيدَ قومه وكان حادّ الذكاء، فقد نال في الإسلام مكانة لم يفُز بها غير الأجلاء من كبار الصحابة. ولا شك أن قول النبي r عند وفاة سعد بن معاذ في الشباب “إن عرش الرحمن اهتز بموته” مبني على حقيقة عميقة. باختصار ظل الإسلام ينتشر في الأوس والخزرج بهذه السرعة. وكان اليهود ينظرون إلى هذه المشاهد بخوف ويقولون في نفوسهم: الله أعلم ما الذي عساه أن يحدث.

لقد أسلم الكثير بدعوة سيدنا مصعب t.

في العام الثالث عشر من النبوة جاء مصعب بوفد يضم سبعين من الأنصار إلى مكة، فعن ذلك يقول مرزا بشير أحمد t في كتابه سيرة خاتم النبيين ملخِّصا ما جاء في شتى الروايات: في العام التالي أي في ذي الحجة من العام الثالث عشر من النبوة، جاء إلى مكة مئات من الأوس والخزرج وكان من بينهم سبعون رجلا إما قد أسلموا أو كانوا يريدون أن يسلموا. وجاؤوا إلى مكة قصد زيارة النبي r وكان مصعب بن عمير يصاحبهم. كانت أمُّه ما زالت على قيد الحياة، وكانت تحبه رغم كونها مشركة، وحين علمت بمجيئه أرسلت إليه رسالة ليزورها أولا ثم يخرج إلى أي عمل آخر، فردَّ عليها قائلا إني لم ألقَ النبي r إلى الآن وبعد زيارته سآتي إليك. ثم جاء إلى النبي r وبعد لقائه واطْلاعه على أمور هامة توجه إلى أمه، فكانت غاضبة جدا فلما رأتْه بكت واشتكت. فقال لها مصعب t: يا أمي، أنصتي إليّ، سأقول لك أمرا حسنا لعله يكون مفيداً لك، وينحسم به النزاع كله. فقالت: ما هو؟ فقال لها: عليكِ أن تتركي الوثنية وتُسلمي، وتؤمني بالنبي r. لكنها كانت مشركة عنيدة، فانفعلت وراحت تصرخ وتصيح، وقالت: أقسم بالنجوم أني لن أقبل دينك أبدًا، ثم أشارت إلى أقاربها لكي يمسكوا بمصعب ويعتقلوه، لكنه أفلت منهم وهرب.

هنا أنهي الحديث عن سيدنا مصعب بن عمير t وله بقية سأتناولها في الخطبة القادمة إن شاء الله، لأنني اليوم أريد أن أذكر مرحومَين وأصلي عليهما جنازة الغائب.

وأحد هذين المرحومَين السيد ملك منور أحمد جاويد المحترم ابن السيد ملك مظفر أحمد، وتوفي في الثاني والعشرين من فبراير الحالي عن عمر يناهز أربعة وثمانين عاماً، إنا لله وإنا إليه راجعون.

كان مصابا بمرض الكبد منذ فترة، فدخل مستشفى طاهر لأمراض القلب حيث انتقل إلى رحمة الله بعد عشرة أيام. كان المرحوم منخرطا بنظام الوصية، وترك وراءه زوجةً وأربعة أبناء وابنتَين. كان جَدُّه لأبيه الدكتور ظفر شودري t من “دهرم كوت رندهاوا”، وجدُّه من جهة أمه الشيخ عبد الكريم t من “غازي بور” بمحافظة غورداسبور. وكانا قد تشرّفا بالمبايعة على يد المسيح الموعود u وكان كلاهما صحابيَّيْن مخلصيْن. تزوّج ملك منور أحمد جاويد من السيدة سلمى جاويد ابنة الصوفي حامد في 1968. وهي حفيدةُ الحافظ الصوفي غلام محمد من أبيها الذي كان صحابيا للمسيح الموعود u والداعية في موريس، وحفيدةُ الدكتور ظفر حسين من أمها الذي كان صحابيا للمسيح الموعود u كما قلنا. كان الصوفي غلام محمد من موريس من 313 صحابيا للمسيح الموعود u. هكذا كان جدُّ المرحوم من أبيه وجدُّه من أمّه وجدُّ زوجتِه من أبيها وجدُّها من أمّها كلهم من صحابة المسيح الموعود u بفضل الله تعالى.

قال المرحومُ في مناسبة وهو يتحدث عن وقْف حياته: توجّهتُ إلى الوقف حين كنتُ أسمع خطاب الخليفة الرابع رحمه الله في الاجتماع السنوي لمجلس أنصار الله عام 1982، فبيَّن حضرته في خطابه أهمية الوقف وقال في نهاية خطابه قولا مفهومه: ألَا تريدون أن يخرج نفَسُكم الأخير في الوقف؟ بعد ذلك قرّر المرحوم أن يوقف حياتَه، فكتب إلى حضرة الخليفة الرابع رحمه الله للموافقة، فوافق حضرته على طلبه في الثامن عشر من آب/أغسطس 1983 وقال له: يمكنك أن تنهي عملك وتأتي. كان المرحوم رجل أعمال حينها. وعيَّنه الخليفة الرابع رحمه الله أوّلا في وكالة الصنعة والتجارة بعد عشرة أيام حيث بدأ المرحوم عمله من 1 تشرين الأول/أكتوبر 1983. وقبل وقف حياته كان يشتغل في الأمانة العامة لحكومة بنجاب لمدة 16 عاما، وبعد ذلك ظلّ يقوم بأعمال خاصة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1983 عُيّن مدير مجلة “ريفيو آف ريليجنز” (مقارنة الأديان)، وفي 1984 عُين معاونا لناظر الضيافة. ثم من 20 نيسان/ابريل 1983 إلى تموز/يوليو 2016 خدم بصفته نائب ناظر الضيافة. وفي 1990 حين شُكّلت لجنة كفالة مئة يتيم فعُين سكرتيرَها الأول وقام بهذه الخدمة عشرين عاما. وخدم في مجلس خدام الأحمدية باكستان بصفته قائدا لمحافظة لاهور وللمنطقة من 1968 إلى 1978 لعشر سنوات تقريبا. وخدم في مجلس أنصار الله باكستان من 1984 إلى 2014 لمدة واحد وعشرين عاما بصفته قائد التحريك الجديد وقائد التربية وقائد الإشاعة، وفي السنوات الخمس الأخيرة خدم بصفته نائب الرئيس لمجلس أنصار الله في باكستان.

ذكر المرحوم حادثا لأيام كان يعمل فيها كموظف حكومي، فقال: أثناء وظيفتي كان مسؤولي معارضًا جدًّا للجماعة وكان يدعو المشايخ ليباحثوني، وذات مرة جاء بالعلامة البروفيسور خالد محمود الذي كان شيخا كبيرا في تلك الأيام، وبدأ الحوار بيني وبينه، وحين وجد أنه لم يستطع أن يغلبني بالحجة بدأ بالسب والشتم، (وهذا هو دأب المشايخ عموما)، فخشي ذلك المسؤول من تفاقم الوضع ولكن الشيخ قال له – وكان اسمه عبد الرحمن- لجبر خاطره _ (وكلام الشيخ هذا جدير بالانتباه إذ كان يوقن من صميم قلبه أن الله تعالى مع الأحمديين، فقال): إن هؤلاء الناس (يعني الأحمديين) ظلموا الله والرسول والكتاب أي كلام الله لدرجة أنه كان لا بد أن يهلكهم الله تعالى ولكنه لم يهلكهم، لماذا؟ لأنهم كل مرة ينجون من الهلاك، لماذا ينجون؟ لأنهم يبكون كثيرا في صلواتهم. قال المرحوم ملك منور: قلتُ للشيخ، يا علامة، أرجو أن تكتب لي هذا. فقال الشيخ في اللغة البنجابية: لن أكتب، فلو كتبتُ اليوم نشرتموه غدا في الجريدة. هذا يعني أنه كان يسلّم بأن الأحمديين يتضرعون في الصلوات، وأن أدعيتهم تنفعهم دائماً والله تعالى يستجيب لهم. وبالرغم من يقينه هذا بأن الله معنا، إلا أنه يحسبنا على الباطل. فتح الله تعالى عيونهم إذ يجرّون الناسَ إلى طريق الضلال، وأنقذ الناسَ أيضا من دجل هؤلاء المشايخ وخداعهم.

هناك معاون لناظر الضيافة هو السيد أسامة أظهر، يقول: كان منور أحمد جاويد يملك قدرات عظيمة للإدارة، وكان يستيقظ في الليالي ويطوف بدار الضيافة ويسأل العاملين ويهيئ لهم الشاي والبيض المسلوق بحسب الطقس، وكان يعامل العاملين على دار الضيافة بحب ولطف وعطف، وكان يظل مطَّلعا على الظروف العائلية لكلٍّ منهم، وكان يساعدهم قدر المستطاع بصمت.

وقال السيد نديم الذي هو زوج ابنته وابن أخته: كان السيد ملك يوصيني دوما بالالتزام بالصلوات وبحب الخلافة وبخدمة الدين. وأخبرني ذات مرة أنه بعد التقاعد قرّر أن يقطع تبرعاته التطوُّعية إلى النصف لأن دخله كان قد قلّ بعد التقاعد. قال المرحوم: فكتبتُ جدول وعودي للتبرع ونمتُ. فرأيتُ في الرؤيا أن الله تعالى جاءني وقال لي إنني عالم الكون كله وعلمتُ أنك خفضتَ تبرعاتك إلى النصف. تعال أُريك ملكوتي. فأراني الله تعالى الجبال والأودية والأنهار والحدائق ثم قال I: لما كنتُ أنا مالكَ كل شيء فلماذا تقلق؟ قال المرحوم: سمعتُ هذا الكلام فاستيقظتُ وتخليتُ عن نيتي لخفض تبرعاتي إلى النصف، وبدأتُ أدفع تبرعاتي حسب ما كان في السابق.

وتقول زوجته المحترمة: عندما كان المرحوم يقوم بعمله الخاص قبل أن يقف حياته لخدمة الإسلام، كان يضع في جيبه مبلغًا كبيرا ويخرج من البيت إلى الشوارع ملتفًا برداء في ليالي الشتاء، وكان يقول إن المحتاج الذي سأجده في هذا الوقت سيكون محتاجًا حقيقيا. وذات مرة وجد شخصا واقفا في الشارع وهو في حزن شديد، وأخبره أن أمه مريضة جدا وليس عنده المال للعلاج، فأعطاه زوجي المبلغ كله ورجع إلى البيت.

ويقول الداعية آصف مجيد، المعاون لناظر الضيافة: كنا نواجه بعض المشاكل أحيانًا نتيجة كثرة الضيوف، وفي بعض المرات كان الضيوف يدخلون في مكتب المرحوم ويتكلمون معه بكلمات قاسية على الملأ، ولكنه كان يسمعها بكل هدوء وبشاشة، وكان يتوسل إليهم بأيدٍ معقودة طالبًا منهم العفو، مع أن بعضهم كانوا في سن أولاده. ذات مرة قلت لحضرة ملك المرحوم بعد ذهاب الضيوف من عنده: سيدي، لقد تألمت جدا على طلبك العفو من هذا الولد بهذه الضراعة بأيدٍ معقودة أمامه. فقال لي: لماذا تألمتْ، مع أنني أنا الذي قد طلبتُ منه العفو بأيد معقودة، ولستَ أنت. اعلم أن الذين هم ضيوفه، أي سيدنا المسيح الموعود عليه السلام، كان يجري وراءهم حافيًا ليسترضيهم ويرجع بهم.

ثم كتب السيد آصف المحترم: مرة كنت جالسًا في مكتب المرحوم فقص عليّ قصة وقال: دخل في مكتبي مرة ضيف كبير السن غاضبا، وقال لي بالبنجابية: هل أنت ملك منور جاويد؟ قلت: نعم أنا ملك منور جاويد. فقال بالبنجابية: هل دار الضيافة هذه مِلْكٌ لأبيك؟ قلت: لا يا سيدي، إنها مِلْكُ حضرة المسيح الموعود عليه السلام الذي هو أبوك وأبي أيضا. فلما سمع الضيف هذا الجواب اطمأن وقدّم قضيته بكل هدوء ومحبة، وذهب.

لا شك أن الضيوف أيضا يتصرفون تصرفًا خاطئا في بعض الأحيان. وأتلقى أيضا الشكاوى بأن رجال دار الضيافة تصرفوا هكذا وهكذا، ولكن بعد تحري الأمر يتبين أن الضيوف أيضا يفتقرون إلى الصبر. لا شك أن على قسم الضيافة إكرام الضيوف، لكن من واجب الضيوف أيضا أن يتحلّوا بأخلاق سامية، ويسعوا للتعاون مع المسؤولين في مثل هذه المواقف.

على كل حال، قد أدى مَلك المرحوم حق الوقف. عندما كنت أعمل ناظراً أعلى كنتُ ناظرَ الضيافة أيضا، وكان المرحوم نائبي، وقد وجدته حريصا جدًا جدًا على أموال الجماعة، وكان لا يتردد في قول الحق. ورغم أنه كان نائبا لي، لكنه لو ارتأى أن أمرًا هو أدعى إلى مصلحة الجماعة، فكان يقدم لي المشورة خلاف رأيي بلا تردد قائلا: لو فعلنا هكذا كان أفضل. وهذه هي الميزة التي يجب أن يتحلى بها كل واقف للحياة، أي أن يقدم ما يراه صحيحا مع مراعاة الأدب والاحترام.

أما علاقة وفائه مع الخلافة فكانت عالية جدا وكانت تتجلى في كل رسالة له وفي كل لقاء معي، وقد قابلني بعد الخلافة مرتين. رحم الله الفقيد وتغمده بمغفرته ورفع درجاته، وألهم زوجته وأولاده الصبر والسلوان والهمة، ووفقهم للاستمرار في فعل الخيرات والحسنات التي كان يعملها.

والجنازة الثانية هي للبروفيسور منور شميم خالد ابن الشيخ محبوب عالم خالد الذي توفي السادس عشر من فبراير 2020 في ربوة في سن يناهز 81 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون.  وكما قلت إن والده هو شيخ محبوب عالم خالد الذي عمل في البداية أستاذا في كلية تعليم الإسلام، ثم عيّنه حضرة الخليفة الثالث رحمه الله ناظرًا لبيت المال قِسْم الدخل، وظل يخدم الجماعة بهذا المنصب مدة طويلة. ثم عينه حضرة الخليفة الرابع رئيسا لمؤسسة صدر أنجمن أحمدية. وكان المرحوم شميم خالد أكبرَ أبنائه.

لقد ترك المرحوم خلفه أرملته شاهدة منور شميم، وهي زوجته الثانية، أما زوجته الأولى فهي متوفاة، وله منها ابن اسمه خالد أنور ويقيم في كندا.

في عام 1964 عندما كان الخليفة الثالث يعمل عميدا لكلية تعليم الإسلام ورئيسًا لمؤسسة صدر أنجمن أحمدية، أعلن عقد قرانِ المرحومِ منور شميم خالد في المسجد المبارك، وقد قال حضرة مرزا ناصر أحمد (الخليفة الثالث) في خطبة عقد قرانه: إن البروفيسور منور شميم خالد الذي هو ابن صديقي الحميم محبوب أحمد خالد، محبوبٌ إلي كأبنائي. بالفعل كانت أواصر حب قوية تربط الخليفةَ الثالث بوالده.

إن خدمات المرحوم في مجلس أنصار الله المركزية بباكستان ممتدة لثمانية وعشرين عاما. لقد عمل بروفيسورًا في كلية تعليم الإسلام بربوة قبل تأميمها، بل أظن أنه قضى معظم فترة التدريس في هذه الكلية بربوة بعد تأميمها أيضا.

لقد سبق أن أخبرتُ أن المرحوم كان ابنًا للسيد محبوب عالم خالد. وكان المولوي فرزند علي خان، إمام مسجد فضل بلندن الأسبق، وناظر بيت المال الأسبق، جَدًّا للمرحوم.

تقول السيدة شاهدة، الزوجة الثانية للمرحوم: كان السيد منور شميم خالد متحليًا بخصال حميدة كثيرة، أبرزها أنه كان شديد الحب والولاء والطاعة للخليفة. كان يستمع لخطب حضرة الخليفة بإنصات كبير، ثم كان يستخرج منها نكات مختلفة. كان مواظبًا على الصلوات والتهجد والصوم. ولأنه كان حريصا على حضور الصلاة جماعةً، ولما لم يستطع حضور المسجد للصلاة بسبب مرضه شعر بهذا الحرمان كثيرا، وكان يقول والرقّةُ غالبة عليه في معظم الأحيان: لا أستطيع الآن حضور المسجد أيضا.

قضى فترة مرضه بمنتهى الصبر والهمة، ولم يتأفف ولم يشتك قط، بل كان لسانه يقول دائما: الحمد لله. كانت خدمة الدين والإخلاص والوفاء وبذل الجهد من أبرز خصاله. كان يخدم بصمت. كان جِدَّ مشفقٍ ووفيٍّ ومحبٍّ.

عندما كان يدرّس في الكلية تعلمتُ على يده بعض الوقت، وعندما بدأتُ أعمل بصفتي الأميرَ المقامي والناظر الأعلى، عاملَني بمنتهى الأدب والاحترام ولم يُشعرني قط أنني كنت من تلاميذه. كان ملتزما بنظام الخلافة ونظام الجماعة ومطيعًا إلى أقصى الحدود. بعد أن صرت خليفة كان حبه وولاؤه لي غير عادي. غفر الله للفقيد ورحمه، وأسكنه قريبًا من أحبته سبحانه وتعالى، ووفق أقاربه للاستمرار في فعل الخيرات والحسنات التي كان يعملها.

بعد صلاة الجمعة سوف أصلي على المرحومينِ صلاة جنازة الغائب، إن شاء الله.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز