خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 25/9/2020م

في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

في الخطبة الماضية كنت أتحدث عن بلال رضي الله عنه.

عن عَبْد اللَّهِ بْن بُرَيْدَةَ عن أبيه قَالَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي. دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي! فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: بِهِمَا.

وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ.

رواه البخاري.

لكن هذا لا يعني أن بلالا سبق الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يعني هذا أن الله تعالى قد بوَأه نتيجة تطهره وعبادته الخفية هذه المكانة العالية، حيث إنه سيكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة أيضا كما كان في الدنيا. فقد سبق أن ذكرت رواية أن سيدنا بلالا رضي الله عنه كان يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد حاملا الرمح، ثم كان ينصبه جهة القبلة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هنالك. لقد حفظ الله تعالى لبلال هذا الشرف في الجنة أيضا بسبب تطهره وعبادته، حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم معه في الجنة في هذا المشهد.

وفي رواية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لَمَّا أُسْرِيَ بِي فِي الْجَنَّةِ سَمِعت خَشْخَشَة قدمٍ، فَقلت: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الْخَشْخَشَةُ؟ قَالَ: هَذَا بِلالٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْتَ أُمَّ بِلالٍ وَلَدَتْنِي وَأَبُو بِلالٍ، وَأَنَا مِثْلُ بِلالٍ.

ما أعظمَها من مكانة تبوأها بلال، ذلك الذي كان يُحتقر ويُجَرّ على الحجارة، حتى  تمنى سيدنا أبو بكر أن يكون هو بلالا.

وكتب حضرة مرزا بشير أحمد وهو يتحدث عن أوائل الصحابة: كان بلال بن رباح الذي كان عبدا حبشيا لأمية بن خلف، يؤذّن للصلاة بعد الهجرة إلى المدينة، ولكنه ترك رفع الأذان بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. وعند فتح الشام في خلافة عمر رفع بلال الأذان بعد إلحاح من عمر رضي الله عنهما، فتذكّرَ الجميع زمن الرسول صلى  الله عليه وسلم، فبكى بلال وعمر وكل الصحابة الموجودين بكاء شديدا حتى أخذهم النشيج.

كان سيدنا عمر رضي الله عنه يحب بلالا حبا شديدا حتى إذا توفي قال عمر لقد توفي سيد المسلمين اليوم.

هذا ما قاله ملكُ ذلك العصر في عبد حبشي فقير.

قال الخليفة الثاني رضي الله عنه ذات مرة مخاطبا السيدات الأحمديات في معرض تفسير قول الله تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، ومتحدثًا عن محاسن بلال رضي الله عنه: هناك شيء واحد يبقى وهو الباقيات الصالحات، أي الحسنات التي تكون خالصةً لوجه الله تعالى.

ثم قال رضي الله عنه: أين أولاد أبي هريرة اليوم؟ أين بيوته اليوم؟ لا أثر لعقاره ولا لأولاده اليوم، ولا نعلم أين ذريته اليوم أو هل هم موجودون أم لا؟ ولكننا نحن الذين لم نر أولاد أبي هريرة ولا بيوته ولا عقاره، عندما نذكر اسمه نقول: أبو هريرة رضي الله عنه.

ويتابع حضرته ويقول: قبل أيام جاءني أحد العرب وقال إني من ذرية بلال. ولا أدري هل كان هذا صادقا فيما قال أم لا، إلا أنني تمنيت عندها أن ألتصق به لأنه من نسل إنسان كان يؤذن في مسجد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أين أولاد بلال اليوم؟ لا ندري هل يوجد اليوم من أولاده أحد أم لا؟ وإنْ وُجد فأين؟ أين بيت بلال اليوم؟ ليس له أي عقارات، ولا نعلم أين هي؟ ولكن الأذان الذي رفعه بلال في مسجد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم باق حتى اليوم، وسيظل باقيا، وهذه هي الباقيات الصالحات.

هناك أربعون حديثا رواها سيدنا بلال رضي الله عنه، وقد وردت أربعة منها في الصحيحين.

وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اشتاقت الجنة، إلى ثلاثة: علي وعمار وبلال.

وذكر عمرُ ذات مرة فضلَ أبي بكر رضي الله عنهما، فجعل يصف ما فيه، ثم قال مشيرا إلى بلال رضي الله عنه: «وهذا سيدنا بلال حسنةٌ من حسنات أبي بكر».

أي قال عمر وهو يذكر فضائل أبي بكر رضي الله عنهما وكان سيدنا بلال جالسا هنالك مشيرا إلى بلال: إن سيدنا بلالاً هذا حسنة من حسنات سيدنا أبي بكر رضي الله عنه حيث كان اشتراه عبدًا وأعتقه.

عن عائذ بن عمرو قال مرَّ أبو سفيان ببلال وسلمان وصهيب، فقالوا ما أخذتْ سيوفُ الله مِن عُنقِ هذا بعدُ مأخذَها. فقال أبو بكر الصديق: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟! ثم ذهب أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا يعني أن سيدنا أبا بكر لما سمعهم يقولون إننا لم ننتقم بعدُ من هذا كما ينبغي لم يعجبه كلامُهم، فقال لهم لماذا تتكلمون هكذا في سيد قريش. ثم حضر أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم،

فأخبره بذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لعلك أغضبتَهم؟! لئنْ كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربك. فرجع أبو بكر إلى هؤلاء الصحابة فقال: يا إخوتي الأحبة لعلكم غضبتم مني.

هذا يعني أن أبا بكر رضي الله عنه ذهب يشكوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يمنعهم ويزجرهم على ما قالوا، ولكن حصل العكس حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك أغضبت هؤلاء.

وانظروا إلى عظمة أبي بكر رضي الله عنه حيث لم يلبث أن رجع إلى هؤلاء الذين كانوا من فقراء القوم وقال إخوتي الأحبة ربما أغضبتُكم. فقالوا يغفر الله لك يا أخانا أبا بكر، لا عليك، إنك لم تغضبنا.

وعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَال:َ أَلَا تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ أَبْشِرْ. فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ “أَبْشِرْ”. فَأَقْبَلَ (النبي صلى الله عليه وسلم) عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ ولم ينظر إلى البدوي فَقَالَ: رَدَّ هذا البدويُّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا. قَالَا: قَبِلْنَاها. ثُمَّ دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا، وَأَبْشِرَا. فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا (كما أمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم). فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ أَنْ أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا (أي نادتهما مِن وراء الحجاب أمُّ المؤمنين السيدة أم سلمى رضي الله عنها وقالت اتركا لي شيئا مما هو في إنائكما)، فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً .

وعن علي بن أبي طالب t قال:قال النبي ﷺ: “إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ قَبْلِي إِلا قَدْ أُعْطِيَ سَبْعَةَ رُفَقَاءَ نُجَبَاءَ وَوُزَرَاءَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ أَرْبعَةَ عَشَرَ: حَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَعَلِيٌّ، وَحَسَنٌ، وَحُسَيْنٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَحُذَيفَةُ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَبِلالٌ”

عن زيد بن أرقم t قال: قال رسول الله r: نعم المرء بلال، هو سيد المؤذنين، ولا يتبعه إلا مؤذن، والمؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة.

وعن زيد بن أرقم t قال، قال رسول الله r: نعم المرء بلال، هو سيد الشهداء والمؤذنين وهو أطول الناس عنقا يوم القيامة. (أي ستوهب له مكانة عِزة كبيرة)

وفي رواية: يُبعَثُ بِلالٌ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ.

عن امْرَأَة بلال: أن النَّبِيّ r أتاها فسلم فقال: “أَثَمَّ بلال؟ ” فقالت: لا. فقال: “لعلَّك غضبى على بلال؟ ” فقالت: إنه يجِيئُني كثيراً فيقول: قال رسول الله، قال رسول الله. فقال لها رسول الله r: “ما حدّثكِ عنّي فقد صدقكِ، بلالُ لا يكذب، لا تُغضبي بلالاً، فلا يُقبلُ منكِ عملٌ ما غضب عليك بلال ”

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r، قَالَ:”مَثَلُ بِلالٍ كَمَثَلِ نَحْلَةٍ غَدَتْ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ، ثُمَّ هُوَ حُلْوٌ كُلُّهُ”.

عَنْ هِنْدٍ امْرَأَةِ بِلالٍ ، قَالَتْ: كَانَ بِلالٌ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ تَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِي وَاعْذُرْنِي بِعِلاتِي.

عَنْ بِلالٍ t، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r: يَا بِلالُ ، مُتْ فَقِيرًا وَلا تَمُتْ غَنِيًّا، قلْتُ: وَكَيْفَ بِذَاكَ؟ قَالَ: مَا رُزِقْتَ فَلا تَخْبَأْ، وَمَا سُئِلَتَ فَلا تَمْنَعْ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَاكَ؟ فقَالَ: هُوَ ذَاكَ أَوِ النَّارُ. (أي لا تنهر السائل ولا تكنز المال بل يجب إنفاقُه أيضا)

توفي سيدنا بلال t بدمشق في عهد عمر t في العشرين من الهجرة ودُفن بباب الصغير وهو ابن بضعة وستين وسنة، وقيل مات بحلب، وقيل أنه مات في الثمانية عشر من الهجرة، ودُفن قرب باب الصغير بدمشق.

يقول سيدنا الخليفة الثاني t في بيان مكانة بلال t ومرتبته، وقد ذكرتُ بعض الأمور من قبل أيضا بهذا الشأن وقد تُعاد هنا بعضها في سياق الحديث.

فيقول t: كان بلال حبشيا ولم يتقن العربية جيدا، فكان يخطئ كثيرا عند الحديث بها. فمثلا إن الأحباش لا يقدرون على نطق “ش” بل ينطقونه: “س”. فكان بلال يقول عند الأذان: “أسهد” بدلا من “أشهد” وكان العرب يضحكون عليه لشعورهم بتفوُّقهم القومي، مع أنهم أيضا لا يقدرون على نطق بعض الأحرف من لغات أخرى. فمثلاً هناك كلمة في اللغة الأردية “روٹی” أي الخبز. فهم لا يقدرون على نطقها نطقاً صحيحا بل ينطقون “روتي” أي لا يستطيعون أن ينطقوا حرفا أرديا “ٹ” على ما يرام فينطقونه “ت”. كذلك لا يقدرون على نطق حرف أردي “چُوری” (الخبز المفروم) نطقا سليما بل ينطقونه “جوري” أي لا يستطيعون نطق حرف أردي: “چ” بل ينطقونه “ج”.

باختصار، كما لا يستطيع غير العرب أن ينطقوا بعض الأحرف العربية نطقا سليما كذلك لا يقدر العرب أيضا على نطق بعض الأحرف من لغات أخرى نطقا سليما، ولكنهم لا يفكرون- بسبب نشوتهم في الشعور بالتفوّق – أنهم أيضا لا يقدرون على نطق بعض الأحرف من لغات أخرى. فلما رأى النبي r الناس يضحكون على نطق بلال t “أسهد” بدلا من “أشهد”، قال: إنكم تضحكون على أذان بلال بينما يفرح الله تعالى على العرش بأذانه، وأن قوله “أسهد” أحب إليه من نطقكم “أشهد”.

كان بلال حبشيا، وكان الأحباش يُتخَّذون عبيدا في تلك الأيام بل إلى قرون قريبة من الزمن الراهن وحتى إلى يومنا هذا، ولكن النبي r لم يكن من الذين يحسبون بعض الأقوام مقهورين أو أذلاء بل كانت الأقوام كلها في نظره سواسية لكونهم خلق الله، فكان يحب الإغريق والأحباش والعرب على قدم المساواة. كان r يحب الأفارقة والإغريق أيضا كحبه العربَ. هذا الحب أدى إلى خلق حبه r في قلوب أقوام أخرى بقدر لم يعرفه كثير من العرب أيضا. فقد نشأ حبه r في قلوب الأقوام الأجنبية لم يعرف سببَه من كانوا محرومين من الفراسة والإدراك، ومن لم يعرفوا أسرارا كامنة وراء الحب والإخلاص.

لقد وُلد رسول الله r في مكة في العرب، وفي قبيلة قريش العربية، وكانت هذه القبيلة تحسب أقوام العرب الأخرى أيضا أذلاء ومحتقرين. إذًا، كانت قبيلة النبي r أشرف القبائل، فماذا كان يربطه بالأحباش؟ بل كان من المفروض أنه لو كانت له علاقة حب مع قبيلة لكانت مع بني هاشم أو مع العرب بوجه عام لأنهم من قومه. أما الأقوام الأخرى التي هزمت جيوشُه حكوماتهم، وقضت سلطنةٌ إسلامية على سيادتهم القومية، أنّى كان أن ينشأ حبه r في قلوبهم؟ لقد نشبت الحروب بينه r وبين أقوام أخرى وهُزمت وقُضي على حكوماتهم فكيف كان ممكنا أن ينشأ حبه r في قلوب هؤلاء الأقوام؟ بل كان من المفروض أن تنشأ في قلوبهم عداوته. ولكن ما الذي توحي به الأحداث؟ نفحص أولا حبَّ قوم المسيح الناصري u لسيدهم، فنجد أنه عندما ألقِي القبض عليه قال رجال الشرطة لحوارِيّه u الخاص- الذي عيّنه خليفة أيضا بعده- لماذا تمشي معه، فكأنك أيضا معه؟ قال مذعورا: لست مريدا له بل ألعنه. إذًا، لم يكتف بإنكاره فقط، بل لعنه أيضا. لا شك أن حوارييه u كانوا يحبونه، وقد شُنِق بطرس بعد ذلك في روما وعانق الموت بكل شجاعة ولم يرفض حبّه ولا طاعته للمسيح u، ولكن عندما علِّق المسيح u نفسُه على الصليب لم يكن إيمان بطرس حينذاك قويا لذا خاف عندئذ حتى عقوبة بسيطة ولكنه قبِل الشنق بعد ذلك بكل سرور.

باختصار، كان هذا مثالاً عن الحبِّ الذي يُكنه للمسيح عليه السلام أتباعُه، ومقابل ذلك نرى خدام رسول الله r الذين آمنوا به وصاروا له قلبا وقالبا. كان بلال عبدًا حبشيًا، ونريد أن نرى فيه تأثير حب النبي الكريم r له؟ بعض الناس يظهرون لمحبوبهم في الظاهر حبًّا عميقًا إلا أنّ حبّهم في الحقيقة يكون محدودًا ضمن دائرة معينة. ونريد أن نرى ما إذا كان حب النبي r لبلال – الذي ليست قريش فحسب، بل العرب كلهم كانوا يكرهونه لأنه كان عبدًا حبشيًّا – حبًّا نابعًا عن دافع التسامح  أو بهدف جبر خاطره فحسب؛ أم كان حبًّا حقيقيًا نابعاً من القلب ؟ فهل كان ذلك الحب للرياء أم كان حبًّا حقيقيا؟ إنّ بلالا وحده يستطيع أن يختبر ذلك الحب، ولا نستطيع ذلك. وإذا أردنا أن نستعرض هذا الأمر فلا بد أن نتوجه إلى بلال لأنه ليس أحدٌ أكفأ منه ليقوم بالاستعراض الصحيح. وأنّى لنا أن نختبر ذلك من واقعة مضى عليها أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان. نريد أن نعرف ماذا فهم بلال من إظهار حب النبي r له؟ هل أدرك أنه حبٌ حقيقيٌّ أم ماذا؟

ليس السؤال هنا ما الذي فهمتُه؟ أو ما الذي فهمه الناس من قرن سابق، أو ما فهمه أهل القرن الذي كان قبله، وليس السؤال هنا ما الذي فهمه الصحابة؛ اتركوا ما فهمه الآخرون بل اتركوا ما فهمه الصحابة أنفسهم من زمن النبي r، إنما نريد أن نعرف ما الذي فهمه بلال نفسه؟ ولمعرفة ذلك لا بد من التركيز على هذه الجملة الصغيرة التي قالها النبي r، وقد ذُكرت سابقا، وهي قوله r للناس: “تضحكون على نطق بلال كلمة “أسهد”، ولكن الله تعالى على عرشه يفرح بأذان بلال. فإن “أسهد” لبلال أثمن عند الله تعالى من “أشهد” لكثير منكم.” هل كانت هذه الجملة لجبر خاطر بلال أم كانت مبنية على الحب العميق؟ هل قوله r: إن “أسهد” لبلال أثمن عند الله تعالى من “أشهد” للآخرين، كان لتدارك الوضع بشكل مؤقت أم كان ينم عن حبه العميق؟ لنر ما الذي فهم منه بلال؟ لقد استنتج بلال من هذه الجملة بأنه رغم انتمائه إلى أمة غير عربية ورغم كونه من قوم يعدّون خارج دائرة الإنسانية، لأنهم يُتّخذون عبيدا، مع كل ذلك كان قلب النبي r يفيض بحبه وبالمودة له. لقد فهم بلال بأن النبي r أحبّه حبًّا كبيرًا رغم كونه من قوم غير عربي يُتخذون عبيدًا. والآن دعونا نرجع إلى الوراء فترة قصيرة حيث توفي هذا الشخص الذي يقول: (مماتي لله رب العالمين). يشير المصلح الموعود t إلى قول الله تعالى عن النبي r بأنه يقول: (مماتي لله رب العالمين)، فلقد توفي r وظهرت حكومات جديدة وحل رجال جدد محل القدامى وحدثت تغييرات ومستجدات. لقد مضت سنوات تغيرت فيها حكومات وحدثت تغييرات كثيرة، وخرج بعض الصحابة من الجزيرة العربية إلى مئات الأميال وكان منهم بلال الذي سافر إلى الشام بعد وفاة النبي r وبعد هذه التغييرات المذكورة وصل إلى دمشق. فاجتمع بعض المسلمين في دمشق يومًا وكان بلال موجودًا بينهم فقالوا فيما بينهم: كان بلال t يؤذّن في حياة النبي r ونحب أن يؤذن بلال مرة أخرى، فلما أعربوا لبلال عن رغبتهم رفض وقال لا يسعني الآن رفع الأذان، ولن أؤذن بعد النبي r لأنني كلما أريد رفع الأذان تتراءى لي أيام عهد النبي r المباركة، فلا أتمالك نفسي، لذلك لا أستطيع أن أرفع الأذان الآن، لأن الأمر يخرج من نطاق تحملي. وكان عمر t نازلاً في دمشق في تلك الأيام، أي كان في جولة هناك بالمصادفة، فالتمسوا إليه أن يأمر بلالاً برفع الأذان وقالوا: بيننا قوم قد رأوا النبي r ويتلهفون لسماع أذان بلال مرة أخرى، إذ لا يزال يتراءى لهم عهد رسول الله r ولازال في تصورهم مشهد الأذان الذي كان يرفعه بلال، فإنهم يرغبون في أن يسمعوا أذان بلال في الحقيقة ليدور أمام أعينهم ذلك العهد مرة أخرى؛ وبيننا قوم آخرون لم يروا عهد النبي r وإنما سمعوا عنه فقط، أي كان فيهم من كانوا يتمنون أن يسمعوا الأذان من هذا الإنسان الذي كان النبي r يسمع أذانه وكان أذانه أحب إليه r. فدعاه عمر t وقال: يا بلال، إن الناس يرجونك أن تؤذن من أجلهم. فقال: يا أميرَ المؤمنين، أنت خليفتنا فما دمت تريد أن أؤذن فلا خيار أمامي، ولكني أخبرك بأن قلبي لا يقدر على رفع الأذان. فقام بلال t وأخذ يرفع الأذان كما كان يرفعه في عهد النبي r، فلما انطلق صوته في الجو تذكر الصحابة العربُ العهدَ النبوي المبارك، ففاضت عيونهم بالدموع وانطلقت من البعض صرخات البكاء عالية، أما بلال t فظل يواصل الأذان وأخذ الناس يتذكرون عهد النبي r فينفعلون، ولكن لنر كيف كانت حالة قلب بلال الحبشي الذي كان العرب يسخّرونه لخدمتهم، والذي لم تربطه بالعرب قرابة ولا أُخوّة؟

لاحظتم تأثير أذانه في العرب الذين عاشوا في زمن النبي r فتذكروا ذلك العهد المبارك، والذين لم يكونوا موجودين في ذلك العهد فقد تذكّروا أحاديثه فرقّت قلوبهم أو ربما رقت قلوبهم برؤية حالة بعضهم بعضا. ولكن كيف كان تأثير هذا الأذان على بلال t الذي لم يكن عربيا وكان من العبيد؟ فما أن ختم الأذان حتى سقط مغشيًا عليه وفاضت روحه بعد دقائق معدودة.

لقد كانت هذه شهادةً من قبل الشعوب غير العربية على صدق ما ادعاه النبي r بأنه لا فرق عنده بين عربي وعجمي. وكانت هي شهادة عظيمة على حب الشعوب غير العربية للنبي r، وكانت هي شهادة عملية على ما قاله النبي r بأنه لا فرق بين عربي وأعجمي. لقد كانت شهادةً من أجانب سمعوا من صوت النبي r الحنون ورأوا من آثار صدق هذا الصوت ما ملأهم باليقين بأن شعوبهم أيضًا لا يمكن أن تحبهم كما أحبهم النبي r.

هذا كان سيدنا بلال الذي أرى نماذج حبّه ووفائه بسيده ومطاعه، وأرى نماذج عملية لرسوخ توحيد الله تعالى في قلبه بحيث إنها أسوة طيبة لنا. ثم هناك قصص عديمة النظير لحب النبي r وشفقته على خادمه هذا ولا يمكن أن يُرى مثيله في العالم كله، وهذا هو الأمر الذي من شأنه أن يخلق الآن أيضا أجواء الحب والوداد والأخوة، ومن شأنه أن يكسر سلاسل العبودية. إن نجاتنا تكمن في هذا الأمر نفسه وهو أن نكون نموذجا في إقامة التوحيد ونموذجا في حب الرسول العربي r، وفقنا الله تعالى لذلك، آمين.

وهنا ينتهي اليوم ذكر بلال t.

والآن أتناول ذكر بعض المرحومين وسأصلي صلاة الغائب عليهم. وأولهم مولانا طالب يعقوب ابن السيد طيب يعقوب داعية الجماعة في دنتوباغو في ترينيداد الذي وافته المنية في 8 سبتمبر الفائت عن عمر يناهز 63 عامًا. إنا لله وإنا إليه راجعون.

كان ينتمي إلى ترينيداد. وكان طبعه ميالا إلى الدين منذ صغره. كان شغوفًا منذ صغره بالصلوات الخمس وتلاوة القرآن الكريم ومطالعة الكتب الإسلامية. بعد إكمال التعليم الابتدائي تلقى وظيفة في شركة التأمين البريطانية إلا أنه بعد إكمال الثانوية وقف حياته في 13 يناير عام 1979، وسجل في الجامعة الأحمدية بربوة وتخرج منها في 1989 بعد أن تحصّل على شهادة “شاهد”. لقد تزوج في عام 1987 من السيدة ساجدة شاهين بنت الدرويش مرزا منور أحمد نائب الناظر الأعلى الأسبق بقاديان. إن زوجته حفيدةٌ لِــ”بهائي مرزا بركت علي t” أحد صحابة المسيح الموعود u.

بعد التخرج في الجامعة الأحمدية عُين أولا داعية في بلد زاير الأفريقي فخدم الجماعة هناك من عام 1989 إلى 1992 أي ثلاث سنوات تقريبا، ثم خدم الجماعة بصفته داعية في جماعة غينيا من 1993 إلى 1997 ومن هناك نُقل إلى منطقة كوهوريدوا ثم كماسي في غانا فخدم الجماعة في هذين المركزين من 1997 إلى 2004. في غانا مرض مرضاً شديدا وبعد أن استعاد صحته نُقل إلى تريني داد حيث خدم الجماعة في فري بورت إلى آخر لحظة من حياته. علاوة إلى خدمة الجماعة بمنتهى الإخلاص في شتى بلاد العالم ظل ينشر تعليم الإسلام في الناس بعلمه وخبرته. كانت له علاقةٌ خاصة بكل فرد من أبناء الجماعة، فحيثما عُين أحبَّه أبناء الجماعة بكل إخلاص وهو أحبَّهم أيضاً. كان يعاني من المشاكل في الكلْية منذ سنوات عديدة، الأمر الذي يفرض عليه الذهاب إلى المستشفى للغسيل الكلوي ثلاث مرات في الأسبوع، ومع ذلك لم تتعطل أنشطتُه. كان متقيا جدا ومتواضعا وهادئ الطبع، وليِّنا وصابرا ومطيعا وحليما. وكان يقابل كل واحد باسمَ الثغر، وكان إضافة إلى الصلوات المكتوبة يداوم على التهجد وتلاوة القرآن الكريم، وكان من دأبه أداء ثماني ركعات نفلا قبل النوم. كان يلتزم نظام الجماعة بصرامة، وكان ينصح أفراد أسرته أيضا بكل هذه الحسنات، وكان حائزا على شعبية كبيرة في عائلته. ترك وراءه إضافة إلى زوجته ابنًا اسمه ناصر يعقوب، وابنتين أمينة يعقوب وعديلة يعقوب. وله أخوان وثلاث أخوات أيضا، بعضهم في تريني داد وبعضهم في أستراليا.

تقول زوجة أخيه السيدة هيلن يعقوب: لقد بايعت قبل ثلاثين سنة، وحين عاد مولانا المحترم إلى تريني داد كان يعلِّمني دوما بلطف أمورا جديدة من الدين، وبذلك ازداد حماسي لتلقِّي علوم الدين أكثر، وكان بذلك يفرح كثيرا، ومتأثرا بسلوكه قرر ابني طيب يعقوب بفضل الله I أن يكون داعية وهو الآن يدرس في السنة الثانية بالجامعة الأحمدية في كندا.

تقول طبيبة أحمدية هناك أن المرحوم كان خلوقا جدا، وتأثر بأخلاقه السامية كل طبيب وممرضة عالجوه في المستشفى خلال مرضه. إذا كان المرحوم جالسا في مكان في المستشفى وجاء شخص آخر قام فورا وقدم له المكان. فكان قدوة للمرضى والأطباء.

يقول الداعية المسؤول في تريني داد تويغو: كان المرحوم يملك مزايا الداعية والمربي وخصاله في الحقيقة، كان متقدما دوما في الطاعة، ويستجيب لمسؤوليه في كل أمر، وكان يبذل قصارى جهوده لإنجاز المهام المعهودة إليه على خير ما يرام، كان يحب الله I ورسولَه r والمسيحَ الموعود u حبا كبيرا، وكان يداوم على تلاوة القرآن الكريم وقيام الليل.

يقول السيد قاصد ورايج الذي تخرج في الجامعة الأحمدية في كندا قبل سنتين أو ثلاث وعُين داعية أحمديا في تريني داد: حين عُينتُ في تريني داد كانت صحة مولانا المرحوم ضعيفة، وكان كبير السن. مع ذلك جاء بعد بضعة أيام من وصولي إلى هناك لزيارتي مع زوجته وابنه بسفر استغرق خمسين دقيقة، وقابلني بمنتهى اللطف. ثم بعد كل يومين أو ثلاثة كان يطمئن عليّ عبر الرسائل أو المكالمات الهاتفية، تحسبا أني قد أحتاج إلى شيء لكوني حديث الورود إلى البلاد. (وبعده ربما كان ينصحه أيضا ويشرح له بعض الأمور.) كان يقابل كل صغير وكبير بحب ولطف، وكان دوما ينصح يتوطيد العلاقة بالخلافة وطلبِ الدعاء من الخليفة.

كتبتْ ابنة المرحوم أيضا أنه كان دوما ينصحها بطلب الدعاء من الخليفة قبل الامتحانات وغيرها من الأمور.

يقول أحمدي هناك اسمه منير إبراهيم: عندما كنا نخرج إلى مكان لنشر الدعوة، كان مولانا المرحوم يرافقنا دوما، ثم يوزع العمل قائلا اذهب إلى الشمال وأنا أذهب إلى الجنوب لكي تصل رسالة الجماعة إلى أكبر عدد ممكن، وكان دوما بساما.

لقد كتب الدعاة الشباب الآخرون الذين كانوا يعملون معه وغيرهم أيضا أن المرحوم كان يفرح كثيرا إذا أنجز أحدٌ عملا لتقدم الجماعة ونشرِ الدعوة وكان يشجعه كثيرا، وكتب الجميع أنه كان يبتسم دوما. وكان مسالما ويحب السلام، حتى في أيام الدراسة إذا تشاجر اثنان أصلح بينهما، وكان يقول إنكما أحمديان لذا يجب أن لا يكون في قلب أحدكم أي حقد تجاه الآخر.

فقد لاحظتُه أنا أيضا باسم الثغر دوما. وكانت له علاقة الوفاء بالخلافة، وكما قلت سابقا قد كتب أولاده أيضا أنه كان ينصحهم دوما بتوثيق العلاقة بالخليفة ومراسلتِه.

يقول أحمدي جديد السيد ناريش المحترم: كنت أَنشد الإسلام الحقيقي في شتى مساجد غير الأحمديين وحين قابلت مولانا “طالبا” المحترم وقع في قلبي انطباع حسن عنه قبل الاستماع إلى الأدلة. مما أدى إلى مبايعته لاحقا.

باختصار قد أدى المرحوم “طالب يعقوب” جميع مقتضيات الوقف بانشراح الصدر التام، ولم يقدم أي عذر قط، وكان دوما يقول سوف أعمل حيثما يعيِّنني خليفة الوقت، وإذا طلب مني أن أبقى في باكستان وأعمل هنا ولا أعود إلى بلدي فأنا جاهز لذلك. ثم عمليا ظل يتعلم اللغة البنجابية أيضا لكي تساعده إذا تم تعيينه في باكستان. تغمَّده الله بواسع رحمته وغفر له ورفع درجاته، وحفظ زوجته وأولاده ووفقهم لمواصلة حسناته.

الجنازة الثانية للمهندس المحترم افتخار علي القريشي، الوكيل الثالث للمال سابقا، ونائب رئيس مجلس التحريك الجديد. عمَّره الله طويلا، حيث توفي في الثالث من يونيو عن عمر يناهز 99 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان اسم والده ممتاز علي القريشي وكان طبيبا بيطريا. وكان افتخار علي المحترم وُلد في مدينة ميرثْ الهندية، وتلقى الدراسة الثانوية والثانوية العليا في ميرث نفسها. ثم سجل في كلية تهامبسون للهندسة في رُركْي التي صارت الآن جامعةً، وتخرج فيها مهندسا مدنيا في 1944، وتشرف بالانضمام إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية أثناء الدراسة. لم يكن والده قد بايع بعدُ، إلا أن افتخار القريشي المحترم قرأ كتب سيدنا المسيح الموعود u شخصيا وبحث وتشرف بقبول الأحمدية. كانت رسالة الأحمدية قد وصلته عن طريق زوج عمته السيد مختار القريشي المحترم ووالدِه المنشي فياض علي المحترم. كان المرحوم افتخار يقيم أيام الدراسة عند عمه تراب علي، ولم يكن تراب علي أحمديا، وكان مختار القريشي عادة يزور عمَّ افتخار علي في بلدة سرابة في ميرث في صحبة أبيه. وكان افتخار علي يتلقى كتب الجماعة من هؤلاء الكبار، كما كانت الجماعة في دلهي أيضا تنشر نشرات صغيرة وكانت تصل إلى افتخار علي فيقرأها، كان افتخار علي يقرأ كل هذه الأدبيات خلال السفر ثم يعطيها لوالده. كان السيد افتخار حين سجل في كلية تهامبسون بدأ عمُّه مختار علي يبلغه الأحمدية بانتظام عبر رسائل مفصلة، وكان افتخار علي يردّ عليها بالتفصيل. وكان قد وُفّق في ذلك الوقت إلى قيام الليل والدعاء الكثير، إلا أنه كان في قلبه اضطراب وقلق، فعبر عن ذلك ذات يوم لسيدنا الخليفة الثاني، وطرح عليه بعض الأسئلة فردّ عليه حضرته t قائلا: إن أسئلتك وجيزة ولكنها شاملة ومن الصعب الرد عليها في رسالة واحدة، لذا عليك قراءة كتابي الفلاني. وحصل السيد افتخار علي على هذا الكتاب من زوج عمته السيد مختار وبدأ قراءته وكلما قرأه وجد الإجابات على أسئلته، فبايع في 1941 خطيا بإرسال رسالة. وفي 1942 جاء إلى الجلسة السنوية في قاديان فتأثّر كثيرا من جوّها واستمع بإمعان إلى خطابات حضرة خليفة المسيح الثاني t وبايع هناك مجددا على يد حضرته. كان يذهب إلى قاديان كل سنة للجلسة السنوية وكان يحظى بفرصة اللقاء مع الخليفة الثاني t ويسأله أسئلته ويأخذ منه الإجابات ويعود مفعما بالإيمان والإيقان. كان المرحوم بدأ الخدمة الحكومية في الهند وظل يعمل هناك حتى بعد تأسيس باكستان، ثم هاجر إلى باكستان في 1951، وتوظف في قسم المياه والطاقة. ولكونه موظفا حكوميا انتقل إلى عدة مدن وعمل بكل أمانة، وترقى من مرتبة المهندس الصغير إلى مرتبة رئيس المهندسين، بل في مناسبة عُيِّن سكرتير المياه والطاقة للحكومة في إقليم بنجاب. وقد حصل أثناء خدمته لوطنه على مراتب محترمة وكبيرة. تقاعد في 1983 وبعد ذلك وقف حياته ولكن قبل ذلك في 1980 حين عاد خليفة المسيح الثالث -رحمه الله- إلى ربوة من زيارته لإسبانيا أسّس المؤسسة العالمية للمهندسين الأحمديين فعيَّن السيد افتخار علي قريشي رئيسَها الأول، وكان يعمل حينها في منصب رئيس المهندسين، ثم تقاعد ووقف حياته، وقبِل خليفة المسيح الثالث -رحمه الله- وقْفَه وعيّنه وكيلَ المال الثالث في مؤسسة التحريك الجديد في 1983، وبجانب ذلك عمل بصفته رئيس المؤسسة العالمية للمهندسين الأحمديين مدة خمس وعشرين سنة تقريبًا. في 1980 عُيّن رئيسَها الأول ثم ظلّ يُنتخب رئيسًا لها طول هذه السنوات. خدم كثيرا في عهد خليفة المسيح الرابع -رحمه الله- أيضا. وجد فرصة بناء شقق “بيوت الحمد” ومباني أخرى في ربوة. كان مسؤول “قسم البناءات” ثم عُيّن مشرفا على أعمال البناء مثل مستشفى “فضل عمر” والجامعة الأحمدية ومكتبة الخلافة وغيرها. كذلك خدم بصفته مدير مشفى “فضل عمر”. وفي 2007 عيّنتُه نائب الرئيس لمجلس التحريك الجديد. كان يخدم بغاية الأمانة والشوق والجهد. عاصَر زمنَ أربعة خلفاء وأبدى في كل مكانٍ طاعة وإخلاصا. كان هادئا يهتم بعمله فقط، وجد فرصة الخدمة كواقف الحياة 37 عاما، وكان يعمل ناكرًا ذاته وأنا أيضًا عملتُ معه. رزقه الله تعالى ابنَين وثلاث بنات، أحد أبنائه مهندس معماري وإحدى بناته طبيبة. رحمه الله وغفر له ووفق أولاده أيضا لمواصلة حسناته.

الجنازة الثالثة للسيدة رضية سلطانة التي كانت زوجة الحكيم المولوي خورشيد أحمد. توفيت عن عمر يناهز 81 عاما، كانت المرحومة ابنةَ “شيخ الله بخش” t الصحابي للمسيح الموعود u. كانت ملتزمة جدا بالصلوات والصيام منذ الصغر، وعاشت حياتها كلها ببساطة وتواضع، كانت جد مضيافة. كان زوجها الحكيم المولوي خورشيد أحمد يخدم الجماعة بصفته الرئيس العمومي[1] وفي تلك الفترة كانت الاجتماعات تُعقد في بيته فكانت المرحومة تُحسن استقبال الضيوف وإكرامَهم ، وحظي زوجها بشرف الأسْر في سبيل الله عام 1984 لمدة سنتين ونصف فقضت المرحومة هذه الفترة أيضا بغاية الصبر والجلد، وإضافة إلى ذلك كانت يوميا تُحضر الطعام لعدة أشخاص وترسله إلى السجن. وكانت تقوم بالحسنات سرًّا، وزوّجت عديدا من البنات الفقيرات وأعالت عديدا من البنات الفقيرات، والجميع يصرحون بأنها كانت إنسانة مُحبّة جدا. كانت منخرطة بنظام الوصية وتركت في ذويها ابنة. غفر الله تعالى لها ورحمها.

والجنازة التالية للسيد محمد طاهر أحمد بن السيد محمد منصور أحمد النائب لناظر بيت المال بقاديان. توفي في 28 أيار في مشفى نور بقاديان نتيجة سرطان الكبد عن عمر يناهز 57 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم من مدينة “حَيْدَرْ آباد” وتخرج من الجامعة الأحمدية بقاديان وخدم الجماعة في مختلف المكاتب منذ سبتمبر/أيلول 1989 إلى مايو/أيار 2020 حتى نفسه الأخير، وخدم كل هذه الفترة في قسم المال، في بيت المال قسم الإيرادات سبع سنوات وفي نظامة المال بالوقف الجديد خدم بصفته المدقق لمدة تسع سنوات، ثم بصفته نائب ناظم المال بالوقف الجديد لمدة ثلاث سنوات، وبصفته ناظم المال بالوقف الجديد لمدة ثماني سنوات، ثم بصفته نائب ناظر المال لمدة سنتَين. كان جد مخلص وبسيطا وخلوقا ومواسيا وخادما للجماعة. وزار الهند كلها ليعلم أبناء الجماعة بالنظام المالي وضمهم إليه، وبسبب زياراته وجهوده ازدادت ميزانية الوقف الجديد بشكل ملحوظ بفضل الله تعالى. كان منخرطا بنظام الوصية وترك في ذويه الأبوين الـمُسنَّين وزوجة وابنَين. كان المرحوم زوجَ ابنةِ مولانا محمد كريم شاهد رئيس لجنة القضاة بقاديان، وابنَ خال السيد إنعام غوري الناظر الأعلى في قاديان. أحد إخوته داعية الجماعة في قاديان. غفر له الله تعالى ورحمه وحفظ أولاده.

والجنازة التالية للعزيز عقيل أحمد ابن السيد مرزا خليل أحمد بيك أستاذ الجامعة الأحمدية العالمية في غانا. كان عقيل أحمد قد جاء إلى باكستان حيث تبين أنه مصاب بورم كيس الصفار، وبعد مرضه القصير توفي عن عمر يناهز 13 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان ملتزما بالصلاة جماعة وكان يهتم بأولاد أصغر منه، وكان ابنا صالحا ومطيعا. وحفظ ستة أجزاء من القرآن الكريم في مدرسة التحفيظ في غانا. وفي ذويه أبواه وأختاه العزيزة عديلة والعزيزة شكيلة، وكلاهما في مشروع “وقف نو”. أبوه السيد مرزا خليل أحمد بيك يخدم الجماعة بصفته أستاذ الجامعة الأحمدية العالمية بغانا. كتب أحد أساتذة الجامعة الأحمدية بغانا السيد نصير الله: كان عقيل أحمد ولدا طيبا ومحبوبا لدى الجميع، سنتذكر وجهه البشوش والطليق دوما، كان ولدا بريئا ومطيعا للغاية، وملتزما بالصلاة جماعة ومحبا للقرآن الكريم، كان بالإضافة إلى دراسته في المدرسة الرسمية يحفظ القرآن الكريم منذ فترة. كان بعد صلاة المغرب يتناول العشاء ثم يعود إلى المسجد ليراجع ما حفظ من القرآن، وكان بعد إنهاء وظيفة البيت للمدرسة يحفظ بعض آيات القرآن قبل النوم يوميا، وكان يقول سأصبح داعية الجماعة وأخدم الجماعة. رفع الله تعالى درجاته ووفق أبويه وأختَيه لتحمل هذه الصدمة.

لا تحضر الجنائز هنا في هذه الأيام، كثير من الناس يقدمون طلبات لأصلي صلاة الجنازة على أحبابهم ولكن لا يمكن الصلاة عليها يوم الجمعة لأن ذلك يتطلب وقتا، وحتى إذا اقتصرتُ على مجرد ذِكرِ أسمائهم لاستغرق ذلك وقتا كثيرا، لذا أصلي على البعض غائبا، وأما الآخرون الذين يقدمون الطلبات فأخبرهم دون أن أذكر اسماء أحبابهم أنني أضمّهم إلى الذين أصلي عليهم هنا. غفر الله تعالى للجميع ورحمهم والذين قدموا طلبات أن أصلي الجنازة على أحبابهم أدعو لهم أن يلهمهم الصبر والسلوان ويوفقهم لمواصلة حسنات المرحومين. سأصلي على جميع المرحومين صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة إن شاء الله.

*****

 

[1]  في مركز الجماعة بربوة كلُّ حارة تحسب فرعا للجماعة يكون فيه رئيسُ الجماعة وهيئته، وفوق كل هذه الفروع رئيسٌ لربوة كلِّها، وهو يُسمى الرئيس العمومي. (المتـرجم)

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز