خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 2/10/2020

في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

الصحابي الذي سأذكره ضمن أصحاب بدر هو أبو عبيدة بن الجراح t، اسمه عامر ووالده عبد الله بن الجراح، وكان أبو عبيدة مشهورا بكنيته بنسبته إلى جده الجراح، ووالدته أميمة بنت غنم وكان قرشيا من بني حارث بن فهر. وكان رجلًا طويلا نحيفًا، معروقَ الوجه، أثْرَمَ الثّنِيّتَيْن لأنه أخرج بهما خوذة النبي r من وجهه يوم أُحد، وكانت لحيته خفيفة، وكان يستخدم خضابا، تعدد في الزيجات ولكن لم يُنجب إلا من زوجتين، فكان له ابنَين يزيد وعمير.

كان أبو عبيدة من الصحابة العشرة الذين بشرهم النبي r بالجنة في حياته وهم معروفون بالعشرة المبشرين بالجنة، وكان من كرام قريش وذا خُلق وحياء. بايع بدعوة أبي بكر t قَبل دخولِ المسلمين دارَ الأرقم، وهو التاسع في الإسلام.

عن أنس رضي الله عنه قال، قال النبي r: “‏لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمينٌ، وَأَمِينُ أُمَّتِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.” (صحيح البخاري) وكما ورد في روايات صحيح البخاري وصحيح مسلم أنّ أناسًا من أهل نَجْران أتوا النبيّ r، فقالوا: ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وفي رواية: ابْعَثْ معنا رجُلًا أمينًا، فقال: “لأَبْعَثَنَّ إليكم رجلًا أمينًا، حَقَّ أمين”. فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ r: “نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ.” أي مدحهم النبي r.

مرة سُئلت عائشة مَنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ r مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ قَالَتْ أَبُو بَكْرٍ.‏ فَقِيلَ لَهَا ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ عُمَر. ثُمَّ قِيلَ لَهَا مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ أَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. هذه الرواية من صحيح مسلم. وفي رواية أخرى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ قلْتُ لِعَائِشَةَ أَيّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ r كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ r قَالَتْ أَبُو بَكْرٍ‏.‏ قلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ عُمَرُ‏.‏ قلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ ثُمَّ أَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ‏.‏ قلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ فَسَكَتَتْ‏.

كتب مرزا بشير أحمد t في سيرة خاتم النبيين r قال: كانت مكانة أبي عبيدة عظيمة جدا في نظر عائشة رضي الله عنها إذ كانت تقول لو كان أبو عبيدة حيا عند وفاة عمر t لأصبح خليفة. وفي رواية قال عمر بن الخطاب عند وفاته: إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَأَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيٌّ اسْتَخْلَفْتُهُ فَإِنْ سَأَلَنِي اللهُ لِمَ اسْتَخْلَفْتَهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ r قلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَكَ r يقُولُ: أمين أمتي أَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.

لما أسلم أبو عبيدة t اضطهده أبوه كثيرا، كان أبو عبيدة من المهاجرين إلى الحبشة، وحين هاجر أبو عبيدة للمدينة أشرق وجه النبي r لرؤيته، وعانقه عمر t، ونزل أبو عبيدة في بيت كلثوم بن الهدم، (ليس أم كلثوم بل كلثوم بن الهدم) وتعددت الروايات عن مؤاخاة أبي عبيدة، عند البعض آخى النبي r بينه وبين سالم مولى أبي حذيفة، وقال البعض الآخر بل آخى بينه وبين محمد بن مسلمة وبعضهم يقول بينه وبين سعد بن معاذ.

شارك أبو عبيدة في بدر وأحد وسائر الغزوات مع رسول الله r، وشهد بدرًا وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وكان قد خرج مع المسلمين في بدر بينما كان والده في جيش الكفار فتقابل الابن والوالد، أراد الوالد قتل الابن ولكن أبا عبيدة كان يفر إلى هنا وهناك حتى لا يواجه أباه ولكن والده لم يكف عن ملاحقته وسعى كل السعي لقتله، وكان أبو عبيدة أيضا يستطيع قتله ولكنه ظل يتحاشى ويتجنب قتل الوالد، ولما رأى أن والده يأبى ترْكه فغلبت عاطفة وحدانية الله على علاقة النسب ولم يعبأ بالقرابة، فحين رأى أن والده عازم على قتله فقط لأنه أسلم وآمن بوحدانية الله غلب إيمانُه على قرابة النسب. قُتل عبد الله بيد ابنه أبي عبيدة بن الجراح، أيْ قتله مضطرا.

يوم أحد رمى عبد الله بن قمئة رسول الله r بحجر بقوة فَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ، وَكَسَرَ رباعيتَه، وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ قَمِئَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ r وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ: “مَا لَكَ، أَقْمَأَكَ اللهُ”، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِ تيْسَ جَبَلٍ، لا تيْسَ، فلَمْ يزَلْ ينْطَحُهُ حَتَّى قَطَعَهُ قِطْعَةً قِطْعَةً.

وروت عائشة رضي الله عنها هذه الواقعة وقالت: سمعت أبا بكر يقول: رُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه بحجر يوم أحد حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المِغْفَر. قال أبو بكر فأقبلتُ أسعى إلى رسول الله r وإنسان قد أقبل إلى رسول الله r يطير طيرانا، فقلت اللهم اجعله فرحة، (أي اجعل هذا الساعي مدعاةَ فرحة للنبي r ولنا)، حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو عبيدة بن الجراح، فبدرني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني فأنزعه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي أنزع حلقتي المغفر اللتين قد دخلتا في وجهه r). قال أبو بكر فتركته. فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقةَ المغفر فنزعها، وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى، فسقطت ثنيته الأخرى.

وكان أبو عبيدة رضي الله عنه من الذين تثبتوا يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما تشتت الناس.

عندما كُتب عقد صلح الحديبية في ذي القعدة من العام السادس الهجري، وجُعلت منه نسختان، ووقع عليهما كبار القوم من الطرفين كشهود، وكان الذين وقعوا عليه من طرف المسلمين: أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين.

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في سرايا كثيرة. (والسرايا جمع سرية وهي مهمة قتالية أرسل فيها النبي r أصحابه)

ومن هذه السرايا سرية ذي القصة التي كانت في ربيع الآخر من العام السابع الهجري.

وكتب حضرة صاحبزاده مرزا بشير أحمد ايم اي في كتابه “سيرة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم” عن هذه السرية وقال: في شهر ربيع الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى ذي القصة (وكانت تقع على بعد 24 ميلا من المدينة وكانت بنو ثعلبة مقيمة فيها في تلك الأيام).

وصل محمد بن مسلمة وعشرة من أصحابه إلى هنالك ليلا، فوجدوا مئة من فتيان تلك القبيلة مستعدين للقتال. كان هؤلاء عشرة أضعاف هذه الفئة الصغيرة من المسلمين، فلم يلبث محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن اصطفّ بأصحابه أمام العدو. (لو كان هؤلاء المسلمون ذهبوا بنية القتال لما ذهبوا بهذا العدد القليل) وظل الفريقان يطلقان السهام في ظلمة الليل، ثم شن الكفار هجمة على هذه الحفنة من المسلمين. ولأنهم كانوا قليلي العدد، فكان هؤلاء العشرة من عشاق الإسلام على التراب بعد قليل، أي استُشهدوا كلهم، إلا محمد بن مسلمة إذ ظنه الكفار ميتا فتركوه وأخذوا ثيابه. وربما مات محمد بن مسلمة رضي الله عنه وهو ملقى هناك لولا أن أحدا من المسلمين مرّ من هنالك من حسن حظه، وعرف محمدا بن مسلمة، فحمله إلى المدينة.

ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح، وكان من قريش ومن كبار الصحابة، إلى ذي القصة لينتقم منهم. وفي هذه الأثناء بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن بني ثعلبة ينوون الهجوم على ضواحي المدينة، فبعث أربعين من أصحابه النشطين تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنهم، وأمرهم بالمسير ليلا ليداهموا القوم في الصباح الباكر. فخرج أبو عبيدة رضي الله عنه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وداهم القوم عند صلاة الفجر، فسُقط في أيدي الأعداء بسبب الهجوم المباغت ولاذوا بالفرار واختفوا في الجبال القريبة بعد صمود بسيط. فأخذ أبو عبيدة بن الجراح الغنائم ورجع إلى المدينة.

وهذا الهجوم قد شُن من أجل الانتقام من الظالمين ومعاقبتهم. وكانت هذه السرية الثانية.

وهناك سرية أخرى اسمها ذات السلاسل. وقد سميت بذلك لأن الأعداء ربط بعضهم ببعض بالسلاسل لكي يحاربوا معًا في صفوف ولا يستطيع أحدهم الهروب. ويقال إن سبب هذه التسمية هو أنه كانت هنالك عين باسم السلسل.

وفي السنة الثامنة الهجرية، أو السابعة عند البعض، بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن بني قضاعة يخططون للهجوم على المدينة. فبعث صلى الله عليه وسلم لمعاقبتهم عمرو بن العاص مع كتيبة من المهاجرين والأنصار قوامها ثلاثمئة، وكان معهم ثلاثون فرسا. وكانت مساكن بني قضاعة على مسافة عشرة أيام من المدينة. لما وصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ديار بني قضاعة أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العدو كثير العدد فليبعث إليه بالمدد.

فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث مئتين من المهاجرين والأنصار تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وأمره أن ينضم إلى عمرو ولا يختلف معه (أي يجب أن يتخذا أي قرار بالاتفاق معًا). لما التقت هذه الكتيبة مع باقي الجيش قيل مَن سيكون أمير الجيش؟ ومع أن أبا عبيدة كان أحقَّ بالإمارة لمكانته العظيمة، إلا أن عمرو بن العاص أصر على أن يكون هو أمير الجيش كله، فقبِل أبو عبيدة إمارته ببشاشة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أمره بعدم الاختلاف. وحارب أبو عبيدة تحت إمرة عمرو بن العاص الأعداء بكل بسالة حتى تحقق لهم النصر عليهم. ولما رجع الجيش إلى المدينة بعد الانتصار وسمع النبي صلى الله عليه وسلم قصة طاعة أبي عبيدة لعمرو بن العاص قال: رحم الله أبا عبيدة، حيث ضرب مثالا رائعا على الطاعة.

ثم هناك سرية اسمها سرية سيف البحر. وكما قلت إن السرايا هي المهمات الحربية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشارك فيها بنفسه. وسرية سيف البحر توجهت نحو الساحل في السنة الثامنة الهجرية، حيث كانت تقيم قبيلة من بني جهينة.

وهذه السرية تسمى أيضا جيش الخبط، وهذه التسمية راجعة إلى أن الصحابة اضطروا من قلة الطعام لأكل أوراق شجر تسمى الخبط. ومن معاني الخبط إسقاط أوراق الشجر.

لقد ورد ذكر هذه السرية في صحيح البخاري كما يلي برواية جابر t: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ r ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ (أي لم ننو القتال) فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ (أي في بعض الأحيان كانت السرايا تُرسل بغير قصد القتال بل لأهداف أخرى وإن كانوا يضطرون للقتال أحيانا. والبعثة التي لم يشترك فيها النبي r تُسمى سرية)

فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ وَأَخَذَ رَجُلًا وَبَعِيرًا فَمَرَّ تَحْتَهُ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ وَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِأَبِيهِ كُنْتُ فِي الْجَيْشِ فَجَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نُهِيتُ.

وفي رواية أخرى رواها جابر بن عبد الله t، قال: غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ r فَقَالَ: كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَكَلَهُ. (أي قد جاؤوا معهم ببعضه إلى المدينة)

يقول السيد زين العابدين شارحا سرية سيف البحر التي تسمّى جيش الخبط أيضا، وهي من السرايا التي لم يُقصَد فيها القتال بل أرسلت هذه البعثة لحماية القافلة التجارية، فيقول:

كانت هذه البعثة بحسب قول ابن سعد تتضمن ثلاثة مئة رجل من الأنصار والمهاجرين، وأُمّر عليها أبو عبيدة بن الجراح، وهي معروفة باسم غزوة سيف البحر. كانت القوافل تسافر على طريق قريب من البحر الأحمر. وقد بُني على شاطئ البحر الأحمر مرصد لحماية القوافل التي تمر منه هنالك لذلك سميت هذه المهمة بغزوة سيف البحر. وكان الهدف من إرسال الجيش إلى هناك ليُبنى مرصدٌ بهدف الحماية. من معاني السيف، الشاطئ أيضا. وقد ذكر ابن سعد ذلك بإيجاز تحت عنوان سرية الخبط. ومن معاني الخبط أوراق الشجر. كان الجنود يضطرون لأكل أوراق الشجر عند نفاد الزاد. وقال ابن سعد أنها وقعت في شهر رجب في العام الثامن من الهجرة. وهذا هو زمن صلح الحديبية. وقد عمل النبي r بحكمة بالغة وأرسل بعثة للحراسة على سبيل الحذر والحيطة إلى منطقة سيف البحر فبُني مرصد لئلا تتم المواجهة مع قافلة قريش القادمة من الشام، ولكيلا تجد قريش عذرا لنقض العهد. علما أن صلح الحديبية كان قد عُقد سلفا فكان من مقتضى الحذر ألا يحدث أي عراك ومشاحنات لتتخذها قريش عذرا لنقض الميثاق قائلين إن المسلمين هاجمونا لذا فقد انتهى ميثاق الحديبية. لذلك أرسل النبي r بعثةً إلى هناك وبُني المرصد لحماية قافلة قريش.

ثم يقول: المكان المذكور يبعد عن المدينة بمسافة خمسة أيام بحسب قول ابن سعد. فلم تُرسل البعثة المذكورة للقتال بل لحماية الكفار، كما قلت من قبل. وكان ذلك سعياً لإقامة الأمن إذ تم تدبير حماية العدو أيضا لئلا يجد العدو حجة لنقض الميثاق بعد أن كان قد أُبرم من قبل. ولكن كان مقدرا أن يعمل قدرُ الله عمله، وقد نقض الكفار الميثاق مما أدى إلى فتح مكة.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ… فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ قَالَ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ r فَدَخَلَ مَكَّةَ قَالَ فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ.

وفي رواية: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ r فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ r حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ. أي لا أخاف عليكم الفاقة بل أخاف أن تنهمكوا في الدنيا وتطمعوا فيها فتهلكوا أنفسكم.

فينبغي على الجميع أن يضعوا هذا التنبيه نصب أعينهم، ولكن لعدم مراعاة هذا التنبيه نرى اليوم أكثرية أولئك المسلمين الذين تأتيهم الأموال -بمن فيهم زعماؤهم أيضا- سباقون في هذه الأطماع، وقد تفاقم طمعهم في الدنيا إلى أقصى الحدود، يذكرون الله تعالى ولكنهم يفضلون الأموال الدنيوية وعزتها. فينبغي أن نستعرض حالتنا من هذا المنطلق ونتذكر دوما أن الأموال ستأتي وفق نبوءة النبي r ولكن ينبغي ألا نتغافل بسببها عن ديننا وننساه.

لقد حج أبو عبيدة حجة الوداع مع رسول الله r في 10 للهجرة، فلما توفي رسول الله r اختلفوا في الشق واللحد للنبي r فبعث العباس إلى أبي عبيدة وإلى أبي طلحة وتقرر أن أيهما جاء قبل الآخر فليعمل عمله، وكان أبو عبيدة يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة يحفر لأهل المدينة وكان يلحد، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة ولم يجد صاحب أبي عبيدة أبا عبيدة، فجاء أبو طلحة فألحد لرسول الله r.

أما الاختلاف الحاصل بين الأنصار والمهاجرين حول الخلافة بعد وفاة رسول الله r فقد ورد ذكره في صحيح البخاري، وذكرتُ ذلك من قبل أيضا في ذكر أحد الصحابة، وأرى الأنسب أن يُذكر مرة أخرى في ذكر أبي عبيدة أيضا.

اجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ بعد وفاة رسول الله r إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالُوا مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ أي من المهاجرين فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ فَقَالَ فِي كَلَامِهِ نَحْنُ (أي المهاجرون) الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ (أي الأنصار) الْوُزَرَاءُ فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ، هُمْ (أي قريش) أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ (أي قدّم أبو بكر اسمين ليستخلفوا أحدهما) فَقَالَ عُمَرُ (لأبي بكر) بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ. (صحيح البخاري، كتاب المناقب)

على أية حال، هذه كانت مكانة أبي عبيدة في نظر أبي بكر بحيث رشّح اسمه للخلافة. وقد مرّ أنّ

عمر t قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، لأنه -وفق أمر النبي r- كان أمينَ أمة النبي r.

ولما اختلفوا في أمر الخلافة خطب فيهم أبو عبيدة وقال: يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدّل وغيّر.

ولما تولى أبو بكر t الخلافة عهد إلى أبي عبيدة إدارة أمور بيت المال. وأرسله أبوبكر في 13 للهجرة إلى الشام أميرًا لجيوش المسلمين.

ولما استخلف عمر عزل خالد بن الوليد وعيّن أبا عبيدة أميرًا على جيوش المسلمين.

أما فتح الشام فقد ورد أنه في 13 للهجرة تقدّمت جيوش المسلمين إلى الروم من أطراف شتى، وكان قائد أحد الجيوش يزيد بن أبو سفيان -وكان يزيد أحد أبناء أبي سفيان وتوفي في تلك الفترة- فهاجم من ناحية الأردن، وقائد الجيش الثاني كان شرحبيل بن حسنة وقد تقدم من ناحية البلقاء، وقائد الجيش الثالث كان عمرو بن العاص الذي دخل الشام من ناحية فلسطين. أما قائد الجيش الرابع فكان أبو عبيدة بن الجراح الذي تقدم من ناحية حمص.

وقد أمر أبو بكر أنه عند اجتماع الجيوش الأربعة في مكان واحد سيكون أميرهم أبو عبيدة بن الجراح. وكان كل جيش يضم أربعة آلاف جندي بينما كان جيش أبي عبيدة يحتوي على ثمانية آلاف جندي.

فلما أوشكت الجيوش على المغادرة قال أبو بكر لقادة الجيوش: إذا سرتم فلا تضيقوا على أنفسكم ولا على أصحابكم في مسيركم، ولا تغضبوا على قومكم، ولا على أصحابكم، وشاوروهم في الأمر، واستعملوا العدل، وباعدوا عنكم الظلم والجور، فإنه لا أفلح قوم ظلموا، وإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. (وهذا ما ورد في القرآن الكريم في سورة الأنفال الآية السابعة عشرة) ثم قال: وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولدا ولا شيخا ولا امرأة ولا طفلا، ولا تعقروا بهيمة، ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا.

لقد فتح أبو عبيدة “مآب” وهي إحدى مدن الشام، فطلب أهل مآب الصلح على دفع الجزية، ثم سار أبو عبيدة إلى الجابية، ودنا منها فرأى أن جيشًا كبيرًا من الروم يتأهب لمجابهتهم، فالتمس مددًا من أبي بكر فأمر أبو بكر خالداً بن الوليد -الذي كان على مهمة في العراق- بالسير بنصف جيشه إلى أبي عبيدة وبأن يستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة. وكتب أبو بكر إلى أبي عبيدة: فإني قد وليت خالدًا وأعلم جيدًا أنك خيرٌ منه. وها هو نص الرسالة: كتاب عتيق بن أبي قحافة (“عتيق” اسم أبي بكر، وأبو قحافة اسم والده)، كتاب عتيق بن أبي قحافة إلى أبي عبيدة بن الجراح: “سلام الله عليك، فإني قد وليت خالد بن الوليد القيادة في بلاد الشام فلا تخالفه، واسمع له وأطع، فإني قد وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبل الرشاد”.

هذا ما كتبه أبو بكر. أما خالد بن الوليد فكان في الحيرة إحدى مدن العراق، فكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: “سلام الله عليك لقد أمرني أبو بكر بالمسير إلى الشام، والتولّي لأمر جنودها. ووالله ما طلبتُ ذلك ولا أردْتُه، وأنت رحمك الله، على حالك التي كنتَ بها، لا يُعصى أمرُك ولا يُخالف رأيُك، ولا يُقطعُ أمرٌ دونَك، فأنت سيدٌ من سادات المسلمين، لا يُنكر فضلُك ولا يُستغنى عن رأيك.”

لاحظوا! هذه هي شيمة المؤمنين، بحيث أبدى الطرفان طاعتهما بكل تواضع.

حصلت معركة أجنادين، وهي اسم قرية في ضواحي فلسطين، في جمادى الأولى عام 13 الهجري. وكان عدد أفراد جيش العدو مئة ألف وكان يقوده أخو هرقل ثيودور وكان عدد المسلمين 35 ألف شخص ومع ذلك هزموا جيشا قوامه مائة ألف جندي، وفتحوا أجنادين. وبعد فتح أجنادين حاصر المسلمون العدو وتفصيل ذلك أن المسلمين حاصروا عاصمة الشام دمشق وهي من أقدم المدن العامرة في محرم من عام 14 الهجري، واستمر الحصار لستة أشهر، وتحصن الخصوم لأنهم كانوا في بلادهم. وكان قواد الجيش الإسلامي الخمسة قد حاصروا المدينة حيث كان سيدنا أبو عبيدة مع جيشه على الباب الشرقي وكان سيدنا خالد بن الوليد على الباب الغربي والقواد الثلاثة الآخرون أيضا معيَّنين على الأبواب المختلفة. وكان الرومان يخرجون بين حين وآخر ليقاتلوا ثم يعودون إلى حصونهم ويتحصنون، وكانوا يتوقعون أن هرقل سوف يرسل النجدة، لكن نشاط الجيش الإسلامي خيَّب آمالهم. في إحدى الليالي كان هناك احتفال وكان حراس أسوار المدينة غافلين حيث كانوا يشاركون في أفراح الاحتفالات، فاقتحم سيدنا خالد بن الوليد مع عدد من جنوده السورَ، ودخلوا المدينة، وفتحوا الباب وبذلك دخل الجيش الإسلامي الحصن. وحين رأى ذلك أهلُ المدينة تصالحوا مع سيدنا أبي عبيدة الذي كان في الطرف الآخر من المدينة، ولم يعرف بذلك سيدُنا خالد لذا واصل القتال. عندها جاء الناس إلى سيدنا أبي عبيدة والتمسوا منه أن ينقذهم من سيدنا خالد. فتقابل القائدان في وسط المدينة فعُقد الصلح مع أهل المدينة، لأن سيدنا أبا عبيدة كان قد عقد الصلح سلفا.

بعد فتح دمشق تقدم المسلمون إلى فحل وهي مدينة في الشام وعرفوا أن الرومان يجتمعون في بيسان ويستعدون للهجوم على المسلمين، نزل المسلمون مقابلهم في فحل. فطلب قائد الجيش الرومي الصلح فأرسل سفيره إلى سيدنا أبي عبيدة، فلما وصل عنده رأى في الجيش الإسلامي أن الجنود كلهم سواء أكانوا قوادا أو جنودا يجلسون على الأرض ولم يجد فيهم أي امتياز. فسأل أحدَهم من هو قائدهم، فأشار الناس إلى رجل بسيط جالس على الأرض. فلما دنا منه السفيرُ سأله أأنت قائدهم؟ فقال سيدنا أبو عبيدة نعم. فعرض عليه السفير أن ينسحب من هناك مع جيشه، وهم سوف يقدمون لكلِّ جندي درهمين من ذهب، أما القائد فيجد ألف دينار، وأما الخليفة فينال ألفي دينار. فرفض سيدنا أبو عبيدة قائلا لم نأت هنا طمعا في المال، وكسب الثروة والغنائم، وإنما خرجنا لإعلاء كلمة الله. فانصرف السفير مهددا. فلما لاحظ ذلك سيدنا أبو عبيدة أمر الجيش بالاستعداد للهجوم، فاندلعت المعركة صباح اليوم التالي، وكان سيدنا أبو عبيدة في قلب الجيش أي وسطه، وكان يقود الجيش بمنتهى الحكمة، حتى هَزم المسلمون رغم قلة عددهم الرومان، مما أدى إلى أن المسلمين ظفروا بمنطقة الأردن كلها.

بعد فتح فحل توجه سيدنا أبو عبيدة إلى حمص، وهي مدينة مشهورة في الشام، وكانت لها أهمية جغرافياً واستراتيجياً، وفي الطريق مر بمدينة بعلبك اللبنانية المشهورة الواقعة على مسافة ثلاث ليال من دمشق، وكانت في الماضي مركزا كبيرا لعبادة الصنم بعل، وسكانها تصالحوا مع سيدنا أبي عبيدة بدفع الجزية. فلم تحدث أي معركة معهم، حيث عرضوا الجزية وقبِلها سيدنا أبو عبيدة وسمح لهم أن يبقوا على دينهم.

بعده وصل إلى حمص فحاصرها، وكان معه سيدنا خالد بن الوليد أيضا، وكان سكان المدينة يتوقعون النجدة من قيصر، لذا استعدوا للمواجهة، لكنهم حين لم يجدوا أي نجدة استسلموا، وعرضوا الصلح فقُبل عرضهم. ومع الصلح قُدم لهم الضمان بحماية نفوسهم وأموالهم، وصدر الإعلان بأن معابدهم وبيوتهم محفوظة، والذين بقوا على دينهم فُرضت عليهم الجزية والخراج بمعنى أنهم يمكن أن يبقوا على دينهم لكنه لا بد من دفع الجزية والخراج وهو الضريبة.

ثم أتى الجيش الإسلامي إلى اللاذقية، وهي مدينة ساحلية للشام، وتعدّ من ضواحي حمص، فحاصرها. وكانت محكمة الحراسة، وكانت عند أهل المدينة ذخائر كثيرة للغذاء لذا لم يبالوا بالحصار. فخطر ببال سيدنا أبي عبيدة فكرة جديدة لفتحها حيث أمر بحفر حُفر كبيرة وسترها بأعشاب، وصباحا ترك المسلمون الحصار كأنهم عائدون عنها إلى حمص ورحلوا. حيث أظهروا أنهم عائدون بعد حَفر الحفر وتغطيتها بأعشاب. فلما رأى أهل المدينة وجيوشُهم رفع الحصار فرحوا، وفتحوا الأبواب باطمئنان. وفي الطرف الآخر عاد سيدنا أبو عبيدة مع الجيش ليلا، واختفوا في تلك الحفر، وصباحا حين فتحت أبواب المدينة هاجمهم بغتة، ودخلوا المدينة وفتحوها. وللحديث عن سيدنا أبي عبيدة بقيةٌ أتناولها مستقبلا.

اُدعوا الله في هذه الأيام لأفراد الجماعة في باكستان، أن يحفظهم الله من شر المشايخ ورجال الحكومة، فهناك موجة قوية للمعارضة من جديد. حماة القانون لا يعرفون العدل فحسب بل يمزقونه، ويتبعون كلَّ ما يقوله المشايخ. وأعتقد أنهم يفعلون ذلك حرصا على حياتهم، والاستقرار السياسي، لكن ذلك خطأ منهم، وليتذكروا دوما، أن هذا ما يؤدي بهم إلى الهلاك. فقد ظللنا نحن الأحمديين نواجه هذه المظالم في الماضي أيضا، والآن أيضا سنمر بها إن شاء الله وبنصر منه. أما هؤلاء إذا لم يكفُّوا عن تصرفاتهم الغاشمة تلك، فهلاكهم مؤكد. فعلى الأحمديين أن يُكثروا الدعاء في هذه الأيام، أن يصرف الله عنهم هذا الاضطهاد، وليقوُّوا علاقتهم بالله ولا سيما الأحمديين المقيمين في باكستان والمهاجرين منها إلى الخارج، لكي يأتي نصرُ الله وتأييدُه عاجلا، ويتخلص الأحمديون المقيمون هناك من هذه المشاكل.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز