خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 11/9/2020م

في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

الصحابي البدري الذي أتناول ذكره اليوم هو بلال بن رباح. اسم والده رباح ووالدتِه حمامة. كان بلال مولى لأمية بن خلف، وكان يكنى بأبي عبد الله، وورد في بعض الروايات أنه كان يكنى بأبي عبد الرحمن وأبي عبد الكريم وأبي عمرو أيضا. كانت أمه من سكان الحبشة، أما أبوه فكان من الجزيرة العربية. كتب المحققون أنه كان ينتمي إلى القوم الحبشي السامي، أي أن بعض القبائل السامية أو العربية توجهت إلى إفريقيا واستوطنوا فيها فتغيرت ألوانهم حتى صاروا كأقوام أخرى من أفريقيا غير أن عادات تلك المناطق وعلاماتهم الأخرى لم تظهر فيهم. وبعد ذلك عاد بعض منهم إلى المناطق العربية عبيدًا. ولما كان لونهم أسود؛ لذلك اعتبرهم العرب من أهل الحبشة. وفي رواية أن بلالا ولد في مكة وكان من “المولدين”، وهم الذين ليسوا عربًا أقحاح. وفي رواية أخرى إنه ولد في السراة، والسراة أقرب إلى اليمن والحبشة، ويكثر فيها أقوام مختلطة. كان بلال آدم شديد الأدمة نحيفًا طوالًا كثير الشعر خفيف العارضين.

تزوج بلال غير مرة، وبعض زوجاته من عائلات أشراف العرب وكِرامهم، إحدى زوجاته هالة بنت عوف كانت شقيقة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، كما كانت له زوجة تدعى هندًا الخولانية، كما أن النبي r زوّجه في عائلة بني بكير. وقد صاهر بلال إلى عائلة أبي الدرداء t أيضا غير أنه لم يعقب من أية زوجة. كان لبلال أخ يسمى خالدًا، وكانت له أخت تسمى غفرة. قال رسول الله r: إن بلالا سابق الحبشة أي أنه أول من آمن من أهل الحبشة. عن أنس أن النبي r قال: السباق أربعة: أنا سابق العرب، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم .

عن عروة بن الزبير قال: كان بلال بن رباح ممن كان يعذَّب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون (أي إنكار الله تعالى). وكان الذي يعذبه أمية بن خلف.

لما أسلم بلال كان يتعرض لصنوف من التعذيب، وكان بلال إذا اشتدوا عليه في العذاب قال: أحد أحد. فيقولون له: قلْ كما نقول، فيقول إن لساني لا يحسنه. وكان يعذَّب؛ فإذا أراد منه المشركون أن يقاربهم قال: الله الله.

وفي رواية أن بلالا لما أسلم أخذه أهله فمطوه، وألقوا عليه البطحاء وجلدَ بقرة، فجعلوا يقولون: ربك اللات والعزى، وهو يقول: أحد أحد، فأتى عليه أبو بكر فقال: إلامَ تعذبون هذا الانسان؟ قال فاشتراه بسبع أواق (أي بمئتين وثمانين درهمًا) فأعتقه فذكر ذلك للنبي r فقال: الشركة يا أبا بكر، فقال: قد أعتقته يا رسول الله.

فإن أبا بكر قد اشترى بلالا وأعتقه في سبيل الله، وكما ذُكر أنه اشتراه بمئتين وثمانين درهمًا. وفي بعض الروايات اشتراه أبو بكر بخمس أواق (أي بمئتي درهمًا)، وفي بعضها بسبع أواق (أي بمئتين وثمانين درهمًا) وفي رواية بتسع أواق (أي بثلاثمئة وستين درهما). وفي رواية أن أبا بكر اشترى بلالا وهو مطمور بالأحجار فاشتراه بخمس أواق من الذهب. فقالوا له: لو أبيت إلا أوقية (أي أربعين درهمًا) لبعناك! فقال أبو بكر t: لو أبيتم إلا مائة (أي أربعة آلاف درهم) لاشتريته.

عن عائشة قالت: أعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة.

عن جابر بن عبد الله قال: كان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا يعني بلالا t.

ذكر الخليفة الثاني t الاضطهاد الذي كان بلال t يتعرض له وعتقه على يد أبي بكر فقال:

لقد جاء العبيد الذين آمنوا بالإسلام من أقوام مختلفة. فكان بلال t حبشيًا، وكان صُهيْب t روميًا، وكان منهم من ينتمي إلى المسيحية كجبير وصهيب، ومنهم من كان وثنيًا كبلال وعمّار. كان سيدُ بلالٍ يلقيه على الرمال الحارقة، ويضع على بدنه أحجاراً ثقيلة، ثم يأمر الشباب ليتقافزوا على صدره.

كان بلال عبدًا حبشيًا مملوكًا لأمية بن خلف أحد رؤساء مكة. وكان أمية يأخذه خارج مكة عند منتصف النهار في الجوّ الحارّ؛ فيلقيه على الرمال الحارقة ويضع على صدره أحجارًا ثقيلة وساخنة، ثم كان يأمره أن يؤمن باللات والعُزّى ربًّا ويتبرأ من محمد r. وكان بلال لا يزيد عن قوله: “أَحدٌ، أَحدٌ”. كان أمية يستشيط غضبًا عند سماعه المتكرر لجواب بلال فيضع في عنقه حبلا ويسلمه إلى الأشرار طالبًا منهم أن يجرّوه على أديم طرقات البلدة، فكان يتدفّق الدم من جسد بلال، ولكنه يظل يتمتم: “أَحدٌ، أَحدٌ”. وفيما بعد، عندما استقر المسلمون في المدينة المنوّرة، واستطاعوا العيش وعبادة الله في أمان نسبي، عيّن الرسول r بلالاً مؤذّنًا، فلما كان هذا العبد الحبشي ينطق في الأذان أسهد ألا إله إلا الله بدلا من أشهد ألا إله إلا الله، أخذ يضحك عليه بعض الناس من المدينة الذين لم يكونوا يعرفون حقيقة أمره، فلما وجد النبي r الناس يضحكون على أذان بلال التفت إليهم وقال: إنكم تضحكون على أذان بلال ولكن الله تعالى على عرشه يفرح بأذان بلال. وكان r يشير إلى أنكم تنظرون فقط إلى أنه لا يستطيع نطق حرف الشين، ولكن لا قيمة لهذا الفرق بين الشين والسين عند الله تعالى الذي يعلم أنه لما كان يُلقى على الرمال الحارقة عاري الظهر وكان الظالمون يتقافزون على صدره بأحذيتهم وكانوا يسألونه: هل تلقنت درسًا أم لا؟ فكان يرد عليهم بلغته المكسرة: أحد أحد، وبذلك كان يظل يعلن عن وحدانية الله تعالى وكان يبرهن على وفائه وتشبثه بعقيدة التوحيد ورباطة جأشه. فكان “أسهد” لبلال أثمن من “أشهد” لكثير من الناس. لما رأى أبو بكر t الاضطهاد الذي تعرض له بلال اشتراه من سيده وأعتقه، كما حرّر أبوبكر t بأمواله عبيدًا آخرين.

يعد بلال من السابقين الأولين وقد أعلن عن إسلامه لما كان عدد الذين أظهروا إسلامهم سبعة فقط.

عن عبد الله بن مسعود t قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله r، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله r فمنعه الله بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، (لقد ذكرت في إحدى الخطب الماضية أنه لم يسلم النبي r من أذى الأعداء ولم يمنع أبابكر قومُه من إيقاع الظلم، فقد تعرض كلاهما لظلم شديد، لقد كانت الأمور خفيفة نوعًا ما في البداية ولكن بعد ذلك مورست عليهما شدائد كثيرة. على أية حال هذا بيان الراوي الذي يريد أن يقو إن هناك من كان يدعمهما أو يرفع صوته من أجلهما) وأما سائرهم (الذين كانوا مستضعفين أو عبيدًا،) فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالًا فإنَّه قد هانت عليه نفسه في الله، (أي ظل ثابتًا دومًا) وهان على قومه؛ فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. وهذه رواية ابن ماجه.

يقول سيدنا الخليفة الثاني t عن كون سيدنا بلال t من أوائل المؤمنين إن سيدنا خباب t الذي كان من السابقين الأولين، وهناك اختلاف هل كان قد بايع أولا أو بلال؟ إذ قد قال النبي r لقد آمَن بي أولا حرٌّ وعبدٌ، وعن ذلك يقول البعض أن المراد منهما سيدنا أبو بكر t وسيدنا بلال t والبعض الآخر يقول إن المراد منهما سيدنا أبو بكر t وسيدنا خباب t.

يقول سيدنا مرزا بشير أحمد t في كتابه سيرة خاتم النبيين عما لقي بلالاً t من الأذى: كان بلال بن رباح t عبدا حبشيا لأمية بن الخلف، وكان أمية يخرج معه في منتصف النهار- حيث كانت النار تهطل من فوق وكان ميدان مكة الصخري تتلظى كالكير- ليجرده عن الثياب ويطرحه على الأرض ويضع على صدره أحجارا كبيرة ويطلب منه عبادة اللات والعزى والانفصال عن محمد، وإذا أبى فسوف يستمر في تعذيبه على هذا المنوال حتى يموت. وسيدنا بلال لم يكن يُحسن العربية كثيرا بسبب عُجمته، لذا كان يكتفي بالقول أحد أحد أي الله أحد. وكان يثور أمية أكثر بعد سماع هذا الجواب. ومن ثم كان يلقي الحبل في رقبة سيدنا بلال ويسلِّمه للشباب الأشرار ليجُرّوه في أزقة مكة الصخرية وبذلك كان جسم بلال يتضرج دما، ومع ذلك لم يكن يجري على لسانه سوى: أحد أحد. وحين رأى سيدنا أبو بكر t هذا التعذيب والاضطهاد اشتراه بثمن كبير وحرَّره. وحين هاجر سيدنا بلال إلى المدينة أقام في بيت سيدنا سعد بن خيثمة، وآخى النبي r بينه وبين سيدنا عبيدة بن الحارث، وفي رواية أخرى أن مؤاخاة سيدنا بلال كانت مع سيدنا أبي رويحة الخيثمي.

بعد هجرة النبي r إلى المدينة مرض الصحابة ومنهم سيدنا أبو بكر t وسيدنا بلال t وسيدنا عامر بن فهيرة t. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مجَنَّةٍ  وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ (مجنة موضع على عدد من الأميال من مكة قرب مرّ الزهران، ففي الجاهلية كانت تقام هناك سوق مشهورة بعد عكاظ، وكان الناس ينتقلون من عكاظ إلى مجنة ويقيمون هناك عشرين يوما)

وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ (وهما جبلان على مسافة عشرة أميال من مكة)

قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ (ولما سمع النبي r كلام بلال وأبي بكر رضي الله عنهما) قَالَ r اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ قَالَتْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا. هذه رواية صحيح البخاري.

حين هاجر الأحمديون من قاديان نصحهم سيدنا المصلح الموعود t ذاكرا هجرة المدينة وكلامَ سيدنا بلال t هذا وقول النبي r بوجه خاص، وعليهم أن لا يتضايقوا من الهجرة، وقال أنا لا أعرف الآخرين ولا أستطيع أن أوجه كلامي إليهم، أي المسلمين غير الأحمديين، وإنما أقول للأحمديين أن ينبذوا فكرةَ أنهم هاجروا منهوبين مشردين، لأن رسول الله r كان يبدي الأسف على المهاجرين الذين كانوا يأسفون على ترك وطنهم وعقارهم. فحين هاجر النبي r إلى المدينة كانت تسمى يثرب؛ وكان وباء الملاريا ينتشر فيها بكثرة، فأصيب بها المهاجرون أيضا. فهم سلفا كان يشق عليهم فراقُ وطنهم، فبدأ البعض يتذمرون ويتأوهون: وا مكة وا مكة. ذات يوم أصيب سيدنا بلال أيضا وبدأ يتذمر بنظم الشعر. فلما لاحظ ذلك النبيُّ r أبدى إزعاجه من ذلك، وقال: أمن أجل هذا أتيتم إلى هنا؟ هذه التصرفات لا تليق بالهجرة. يقول سيدنا المصلح الموعود t ناصحا الأحمديين المهاجرين من الهند إلى باكستان: أنا الآخر أقول لكم أن افرحوا ولا تنظروا إلى ما فقدتم بل انظروا مِن أجل مَن فقدتم، وإذا فقدتم ما فقدتم في سبيل الله ومن أجل رقي الإسلام، فأبشروا ولا تستكينوا في أيّ مناسبة، يجب ألّا تبدي وجوهُكم أسفاً بل يجب أن تنبسط وتستبشر.

فكنا نحن الأحمديون نفكر في هذا الاتجاه وهذا ما نصحنا به الخليفة يومذاك، أنّ هجرتنا لله ولخدمة الإسلام. أما الذين كانوا يعارضون تأسيس باكستان فهم يدَّعون اليوم أنهم أسسوا باكستان، وبكذبهم وزورهم يحرمون الأحمديين من الحقوق المدنية الأساسية في ذلك البلد، الذي من أجله قدم الأحمديون التضحيات أكثر من غيرهم. فالدين الذي من أجل رفعته وخدمته قد هاجرنا قد حظر علينا برلمانُ باكستان ذكرَ اسمه وذلك لنيله الأهداف السياسية، لكننا لسنا بحاجة إلى أي شهادة من هؤلاء. لكننا نأسف في الوقت نفسه على هؤلاء الذين يحتكرون باكستان بممارسة المظالم على الأحمديين، فإنهم هم الذين ظلموا باكستان ولا يزالون. فهم لم يظلموا الأحمديين فحسب بل ظلموا ولا يزالون يظلمون باكستان ويشوهون سمعته في العالم ويعرقلون تقدمه. فلو لم يكن هؤلاء لأحرز البلد تقدما عظيما. فهم يأكلون البلد كما تأكل الأرضة الخشب. ومع ذلك يجب علينا نحن الباكستانيين ولا سيما الذين يقيمون هناك، أن يستمروا في بذل الجهود لرقي البلد بتوظيف جميع كفاءاتهم ويدعوا الله I أن يطهِّر هذا البلد من الظالمين. على كل حال قد تطرقتُ إلى هذا التعليق عند ذكر الهجرة. والآن أعود إلى سرد سوانح سيدنا بلال t من الروايات.

لقد ورد في الطبقات الكبرى أن سيدنا بلالاً t قد شهد مع النبي r بدرا وأُحداً والخندق وسائر الغزوات. في بدر قَتل سيدنا بلال أمية بن خلَف الذي كان سيده في مكة، ومن كبار أعداء الإسلام، وكان يعذِّبه على إسلامه.

لقد وردت واقعةُ قتل أمية بن خلف في البخاري، وذكرتُ لكم تفصيلها من قبل ضمن ذكر سيدنا خبيب بن إساف. ولما كانت لها علاقة مباشرة بسيدنا بلال لذا أتناولها هنا أيضا بإيجاز.

فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ (التي كانت يومذاك دار الحرب) وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ. (فكانت لسيدنا عبد الرحمن بن عوف علاقة قديمة بأمية، فلما جاء الأخير يوم بدر مع جيش الكفار وكان عبد الرحمن بن عوف قد علم بذلك لذا كان يريد أن يحسن إليه بإنقاذه ليلا بمقتضى العلاقات القديمة، فعن ذلك يقول:) فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ (فكان يعرف أن أمية قد خرج إلى مكان فتبعه ليحفظه) فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ هذا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ. فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ (لم تنجح حيلتي) ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا وَكَانَ أمية رَجُلًا ثَقِيلًا (لم يكن يستطيع التحرك بسرعة) فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ. (صحيح البخاري)

وفي رواية أخرى وردت هذه القصة كالتالي وأبين بعضها: قال عبد الرحمن بن عوف t: إني لأمشي معهما إذ رآهما معي بلال، (كان أمية يعذب بلالا في مكة ليرده عن الإسلام، فحين رأى بلال أميةَ) قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت: أي بلال، أبأسيري؟ فقال بلال مرارا: لا نجوت إن نجا، فقلت كل مرة: إنه أسيري. ثم صرخ بلال بأعلى صوته: يا معشر الأنصار، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال عبد الرحمن: حين سمع الأنصار ذلك أحاطوا بنا. ونال سيف بلالٍ من أمية، فصاح أمية صيحة والله ما سمعتُ صيحة مثلها، ثم هبرهما الأنصار بأسيافهم. (دلائل النبوة للبيهقي)

يثبت من رواية أن بلالا كان سكرتير النبي r أو أمين الصندوق، قال رجلٌ لابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ لَهُ: رَجُلٌ شَهِدْتَ الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ r؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُهْوِي بِيَدِهَا إِلَى حَلْقِهَا تُلْقِي فِي ثَوْبِ بِلَالٍ ثُمَّ أَتَى هُوَ وَبِلَالٌ الْبَيْتَ. (صحيح البخاري)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا وَارَى إِبِطُ بِلَالٍ. (سنن ابن ماجة) يعني كان الطعام قليلا جدا.

حظي بلال t شرف كونه أول مؤذن. وكان مؤذن الرسول r في حياته في السفر والحضر وكان أول من أذن في الإسلام.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ r قَدْ هَمَّ بِالْبُوقِ وَأَمَرَ بِالنَّاقُوسِ فَنُحِتَ. (وبحسب رواية صحيح البخاري اقترح الصحابة استخدام البوق والناقوس) فَأُرِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ فِي الْمَنَامِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فَقُلْتُ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ تَبِيعُ النَّاقُوسَ قَالَ وَمَا تَصْنَعُ بِهِ قُلْتُ أُنَادِي بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ قُلْتُ وَمَا هُوَ قَالَ تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ r فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فَاخْرُجْ مَعَ بِلَالٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ وَلْيُنَادِ بِلَالٌ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ بِلَالٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنَادِي بِهَا فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t بِالصَّوْتِ فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى.

كتب حضرة مرزا بشير أحمد t في ذلك: لم يكن هناك ترتيب حتى الآن لأي إعلان عن حلول موعد الصلاة، فكان الصحابة يجتمعون للصلاة حسب تقديراتهم الخاصة لوقت الصلاة، ولكن هذا لم يكن مرضيًّا، والآن بعد بناء المسجد النبوي طرأ السؤال بشدة أكثر كيف يمكن جمع المسلمين في الوقت. اقترح بعض الصحابة استخدام الناقوس مثل النصارى ورأى البعض الآخر استخدام البوق مثل اليهود ولكن سيدنا عمر t أشار إلى تعيين شخص ليعلن عن حلول وقت الصلاة، فوافق النبي r على هذا الاقتراح وطلب من حضرة بلال أداء هذه المهمة، بعد ذلك بدأ حضرة بلال ينادي بصوتٍ عالٍ أن الصلاة جامعة، وكان المصلون يجتمعون، بل كلما كانت هناك حاجة لجمع المسلمين لأغراض أخرى أيضا كان يُستخدم الطريق نفسه.

وبعد فترة قصيرة عُلّم الصحابي عبد الله بن زيد الأنصاري رفع الأذان للصلاة في الرؤيا، فجاء إلى النبي r وذكر أنه رأى في الرؤيا شخصا ينادي بهذه الكلمات على طريق الأذان، فقال النبي r: إن هذا توجيه إلهي وقال لعبد الله أن يلقن طريقة الأذان لبلال. ومن العجيب أنه عندما رفع بلال t الأذان أول مرة وسمعه سيدنا عمر t سارع إلى النبي r وقال له إنه سمع هذه الكلمات نفسها أيضًا في منامه. وفي رواية أن النبي r حين سمع كلمات الأذان قال: قد نزل الوحي بحسبها أيضا.

وهكذا جرى طريق الأذان الحالي. وكان هذا الطريق مباركا وجذاباً لدرجة لا يوازيه أي طريق آخر. وكأن نداء وحدانية الله ورسالة محمد r يُرفع خمس مرات في اليوم من جميع المساجد في كل مدينة وفي كل قرية يسكنها المسلمون، ويتم تبليغ الناس خلاصة تعاليم الإسلام بأجمل كلمات وأشملها. (سيرة خاتم النبيين r)

عن موسى بن محمد عن أبيه قال: كان بلال إذا فرغ من الأذان فأراد أن يعلم النبي r أنه قد أذن وقف على الباب وقال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا رسول الله. قال محمد بن عمر: فإذا خرج رسول الله r فرآه بلال ابتدأ في الإقامة. (الطبقات الكبرى) هذا ليس واضحا، لأنه لا يمكن رفع الإقامة إلا إذا وصل الإمام المصلّى، ربما هناك خطأ في الترجمة، ولكن الطريق الصحيح هو أن الإمام حين يأتي المصلى تُرفع الإقامة.

وفي سنن ابن ماجة عَنْ بِلَالٍ t أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ r يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَقِيلَ هُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ، فَأُقِرَّتْ فِي تَأْذِينِ الْفَجْرِ فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. (سنن ابن ماجة) وفي رواية قَالَ النَّبِيُّ r: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلالُ اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ. (المعجم الكبير)

كان للرسول r ثلاثة مؤذّنِين بلال وأبو محذورة وعمرو بن أم مكتوم.

لقد ذكرنا شيئا من سيرة بلال وبقيت أشياء نذكرها لاحقا إن شاء الله. والآن أريد أن أذكر بعض المرحومين وسأصلي عليهم أيضا لذا سأتناول ما بقي من ذكر بلال t لاحقا إن شاء الله.

أول من أذكره من هؤلاء هو العزيز رؤوف بن مقصود الأصغر من بلجيكا. كان يدرس في الجامعة الأحمدية بالمملكة المتحدة. لقد توفي في 4 سبتمبر، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان من جماعتنا في هاسلد ببلجيكا. التحق بالجامعة الأحمدية في 2018. لقد جاء هنا بعد إكمال الثانوية في بلجيكا.

كان المرحوم شخصية محببة جدا لدى الطلاب والأساتذة جميعًا لإخلاصه وحماسه لخدمة الخلق ولبذل الجهد والمشقة. قبل فترة أصيب بالورم في مخه، وظل مريضا لستة أو سبعة أشهر، وكافح المرض بصبر وهمة بالغين، والتحق بالرفيق الأعلى في النهاية.

دخلت الأحمدية في أسرته بواسطة جده في عام 1950 على الأغلب. كان جده ذا نفوذ في المنطقة، فلم يعارضه أقاربه عندها، ولكن بعد وفاته تعرضت أسرته لمعارضة شديدة. كان والدُ جده من أُمّه السيدُ عبد العلي وزوجتُه قد بايعا على يد حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه.

ترك المرحوم رؤوف بن مقصود وراءه والديه وثلاث أخوات وأخوين. والده هو السيد همايون مقصود، واسم والدته السيدة محسنة بيغم، وبنتهما العزيزة نشاط تبلغ من العمر 18 عاما، وابنهما العزيز صالح 14 عاما، وابنتاهما العزيزتان تثنية وعنيزة تسعَ سنوات، وابنهما العزيز فاتح مقصود 7 سنوات، ثم العزيزة جنة السامعة عمرها 4 سنوات.

كتب أمير الجماعة ببلجيكا: لقد رأيت العزيز المرحوم منذ صغره، فوجدته طفلاً غيرَ عادي. كلما زرتُ فرع الجماعة التي كان منها المرحوم وجدتُه متعلقًا بالمسجد دائما، وألفيتُه طيّبَ الأخلاق. بعد وفاته أقمنا في مسجدنا بيت الرحيم في مدينة “آلكن” مكانًا لاستقبال القادمين من أجل العزاء، فحضر عدد كبير من أبناء الجماعة، ووجدنا كثيرا منهم يبكون، وقد ذكروا جميعاً واقعات كثيرة للمرحوم.

كان الأطباء قد أخبروه من بداية المرض أنه مصاب بسرطان المخ الذي قد يكون خطرا على حياته، ومع ذلك لم يظهر على وجه العزيز المرحوم آثار اليأس ولم يفقد الهمة. لقد قال أحد أطبائه: عندما كان العزيز يستطيع الكلام حاورته مرة خلال جلسة مع باقي الأطباء فألفيته فتى غير عادي ومستنير العقل. وأيضا قال الأطباء لم يشتكِ المرحوم قط رغم شدة الآلام بسبب مرضه. ومع أن المريض في هذه الحالة يصاب بغضب شديد أحيانا، ولكن المرحوم ظل عالي الهمة وصبورا.

ويتابع أمير الجماعة ويقول: كان العزيز المرحوم شديد الحب للخلافة وكامل الطاعة للخليفة. كانت البسمة تعلو وجهه دائما، وكان يقابل الجميع صغارا وكبارا بوجه بشوش باستمرار.

وكتب داعيتنا في مدينة هاسل: قبل أن يشخَّص أنه مصاب بهذا المرض طلبتُ منه أن يعطي دروسا للأطفال عبر الإنترنت في رمضان، فكان يعطيها بانتظام، حتى إنه ظل يعطيها بعد دخوله المشفى أيضا بسبب مرضه هذا، بل كان يصاب أحيانا بحالة شبيهة بالإغماء خلال هذه الدروس، ولكنه عندما كان يتحسن يستأنف في إعطاء الدروس . ولم يقل قط إني لا أستطيع إعطاء الدروس لأني أقاسي الآلام. لقد قال هؤلاء الأطفال أيضا إننا كلما قلنا له: لا ترهق نفسك بهذه الدروس لأنك تعاني بسبب المرض، كان يردّ علينا دائما: عندما تُفتَح الجامعة ثانية بعد الإجازة وأذهب إليها فماذا يكون جوابي لخليفة المسيح، وما هي الخدمة التي أقول إني قمت بها من أجل الجماعة خلال الإجازة. كان عنده شوق وحماس وولع لذلك.

وكتب داعية آخر: عمل العزيز الوقفَ المؤقت لأسبوع في عام 2010، فجاء به والده وترَكه عندي وقال إنه سيمكث عندك لأنه سيدرس بالجامعة الأحمدية، فعليكم تربيته وتدريبه.

ويقول الداعية: لقد وجدته في ذلك الوقت أيضا مواظبا على الصلوات، بل كان يستيقظ مبكرا ويصلي التهجد. عندما كان مسجدنا في “آلكن” قيد البناء أو الترميم فكان العزيز يساهم في أعمال “وقار العمل”. وقال سكرتير العقارات: كان المرحوم يطالب أن يُعهَد إليه عمل صعب وشاق كحمل الأحجار والحصی وغيرها، ثم كان ينجزه بمنتهى البشاشة. ومن محاسنه أنه كان يسبق الجميع في إلقاء السلام.

تقول والدته كان العزيز يؤثر الآخرين على نفسه. كان الأطفال يذهبون بطعامهم إلى المدرسة ويأكلون هنالك، ولكن ذات مرة رجع إلى البيت وقال لي: أعطني الطعام. فقلت له: كنتَ قد أخذتَ طعامك معك؟! قال: لم يحضر أحدُ الأطفال طعامه؛ فقدمت له طعامي وقلت سوف آكل بعد ما أعود إلى البيت. كما كان قلقًا على أصدقائه وكان يقول لأصدقائه القريبين إني قلق على مستقبلكم، فاختاروا لكم أصدقاء ذوي أخلاق طيبة واسعوا لمستقبل باهر.

كان يؤدي الخدمات في اجتماعات الجماعة وجلساتها وغيرها من المناسبات بشوق وحماس. لقد قال أحد مسؤوليه في إحدى الليالي كان المرحوم يؤدي خدمة الحراسة، فقدّمت له شيئًا للأكل، فقال عليك أن تعطيه لزملائي أولا.

كان العزيز المرحوم يسأل الآباء والأمهات الذين نذروا أولادهم في مشروع “وقف نو” عن أحوال أولادهم كثيرا، ورغم صغر سنه كان ينصحهم أن يسعوا لإرسال أولادهم هؤلاء للدراسة في الجامعة الأحمدية.

لقد قضت والدة المرحوم، بل والدُه أيضا، فترة مرض ابنهما بهمة وصبر. كان الأطباء قد عبروا عن يأسهم ولم يكن هناك أمل في شفائه، فكانت أمه تقول له بمنتهى الهمة والصبر: لقد نذرناك في سبيل الله تعالى، والمكان الذي ستذهب إليه خير أيضا. كانت توصيه بالرضا برضا الله تعالى. وكان العزيز راضيا برضا الله تعالى. وبعد ذلك وضع المرحوم صورةً له معي أمام سريره في المشفى، فصارت هذه الصورة سببًا لنشر الدعوة في أحيان كثيرة، حيث كان الأطباء يسألونه: إلى أي جماعة تنتمي؟ فكان يخبرهم إننا من الجماعة الإسلامية الأحمدية، وإننا نؤمن أن المسيح الموعود قد جاء، وهكذا كانت تتهيأ له فرصة الدعوة.

قال أمير الجماعة هنالك: كنت أقول له: لا شك أنك مريض، ومع ذلك تتسبب في نشر الدعوة، فكان المرحوم يفرح بذلك كثيرا.

وكتب رئيس خدام الأحمدية في بلجيكا: كان المرحوم يحب الخلافة حتى درجة العشق. ذات مرة نصحتُ الأطفال المنخرطين في نظام “وقف نو” أثناء درس بكتابة الرسائل إلى خليفة المسيح، وساعدتهم على كتابتها، فجاء المرحوم إليّ وقال: حضرةَ الداعية، إني لا أقدر على كتابة الرسالة بالأردية، فاكتبْها لي، وسوف أنسخها بيدي بعد ذلك. فقلت له: إن الأطفال الآخرين يكتبون باللغة الهولندية فاكتبها أنت أيضا بالهولندية. (علمًا أن هذا كان قبل التحاق المرحوم بالجامعة الأحمدية) فأجابني وقال: إني أريد أن تصل رسالتي إلى خليفة المسيح مباشرة بدون ترجمة، وأن يدعو لي.

ثم يقول الداعية: لقد وفّى العزيز رؤوف بن مقصود إلى آخر نفَسه بالعهد الذي كان يردده قائما وهو: سأكون مستعدا كل حين لبذل نفسي ومالي ووقتي وعزتي.

جاء للعزاء عدد كبير من البلجيك غير الأحمديين وقد رأيتهم بأم عيني يبكون كالصغار. وعندما سألت أحدهم عن العزيز المرحوم رؤوف بن مقصود قال باكيا لقد فارقنا اليوم صديقنا الحبيب الذي كان يعتني بنا كثيرا. متى يجد المرء صديقا مواسيا مثله.

ويقول الداعية أيضا: كان العزيز المرحوم شغوفا بالدعوة والتبليغ. كان يتقدم للدعوة حين تردد الآخرون أحيانا. ذات مرة بدأنا حملة التبليغ تحت شعار “جاء المسيح”، فكان المرحوم يذهب ويأتي بالناس ويوزع عليهم المنشورات الدعوية، ويجعلهم يتحاورون معنا، ويعرّفهم علينا. كان يأتي بالضيوف في كل لقاء دعوي.

باختصار، كان المرحوم خير داعية ومبلغ حتى قبل أن يتخرج من الجامعة. والله أعلم بما في قضائه وقدره من حكمة، حيث يستأثر ببعض خير الناس عنده عاجلا أحيانا. تغمده الله بمغفرته ورحمته، ورفع درجاته، وألهم والديه الصبر والهمة والسلوان.

والجنازة الثانية هي للسيد ظفر إقبال قريشي الذي كان نائب أمير جماعتنا بمحافظة إسلام آباد سابقا، حيث توفي في 3 ديسمبر وسنه 87 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان ينحدر من عائلة أحمدية مخلصة. جده حضرة عبيد الله قريشي من أصحاب المسيح الموعود عليه السلام، حيث بايع في عام 1904. كان جدُّ السيدة أمة الحميد، زوجةِ المرحوم ظفر إقبال أيضا من صحابة المسيح الموعود عليه السلام، وكان اسم هذا الصحابي خليفة نور الدين. هذا اسمه وهو ليس حضرةَ الخليفة الأول مولانا نور الدين رضي الله عنهما. لقد ذكر حضرة المسيح الموعود عليه السلام في كتاب العظيم “التحفة الغولروية” خدمات هذا الصحابي خصيصا بشأن البحث الذي قام به عليه السلام عن وجود قبر المسيح الناصري عليه السلام في كشمير في سرينغر بحي خانيار.

تلقى المرحوم ظفر إقبال قريشي تعليمه الابتدائي في أمرتسار، وعند انقسام الهند وباكستان هاجر إلى راولبندي، وأكمل الثانوية هنالك، ثم نال الشهادة في الهندسة من جامعة الهندسة. ثم توظف عند الحكومة. ثم نال شهادة الماجستير في العلوم في اليونان، ثم ظل يعمل موظفًا عند الحكومة بصفته مهندسا حتى عام 1994م في مدينة “تَيْكسلا” (بباكستان) ككبير المهندسين حيث تقاعد في عام 1994م من هذا المنصب. ثم انتقل إلى إسلام آباد (باكستان) وظل يخدم الجماعة على مختلف الأصعدة، وفي عام 1998م عُيِّن نائب أمير الجماعة، وفي أثناء ذلك خدم في أوقات مختلفة قائما بأعمال أمير الجماعة أيضا. وخدم نائبا لأمير الجماعة 21 عاما وذلك إلى عام 2019م. وعلى الرغم من المرض والتقدم في السن كان يأتي إلى المسجد وينجز أعماله اليومية بالتزام. كان قليل الكلام وصائب الرأي، وخبيرا جدا في الأمور الإدارية. كان يعمل بجدية وحذر، ويحرص على توفير أموال الجماعة والحفاظ عليها.

عندما كنتُ أعمل ناظرا أعلى في ربوة رأيتُه عن كثب، ووجدته أنه يعمل بتواضع كبير بفضل الله تعالى، وكان يطيع المسؤلين الذين يرأسونه طاعة كاملة وإن كانوا أصغر منه كثيرا في السِّن.

ترك وراءه أرملته السيدة أمة الحميد ظفر، وأربع بنات، هن: أمة الرشيد، الدكتورة صدف ظفر، شازية شودهري وعائشة طارق. إحداهن تسكن في كندا والأخريات في لاهور. تقول بنته السيدة عائشة ظفر: عندما بدأتُ المدرسة في الصغر كان المرحوم قرب الامتحان يكتب الرسائل إلى خليفة الوقت للدعاء نيابة عني، وعندما كنت أنجح فيه بامتياز كان يكتب إلى الخليفة مرة أخرى وحين كنا نستلم الجواب كان يقرأه عليّ. ثم عندما كبرتُ قليلا، كان ينصحني أن أكتبها بنفسي ويكتب لي رؤوس الأقلام. وهكذا رسّخ في ذهني بأسلوب جميل حبَّ الخليفة وطاعته. ندعو الله تعالى أن يرحمه ويغفر له ويرفع درجاته، ويلهم ذويه الصبر والسلوان.

الجنازة الثالثة هي للسيد كابيني كاجاوا كاتا من سنغال الذي توفي بتاريخ 24/8/2020م عن عمر يناهز 85 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. من صفات المرحوم البارزة أنه كان رجلا شجاعا ومخلصا جدا ومحبا للخلافة وغيورا على الجماعة، ويتحلى بروح الخدمة والتضحية، وكان مضيافا، فكان يقدم ضيافة فاخرة دائما لوفود الجماعة، ويصر دائما على أن يسكن وفد الجماعة في منطقته ليستضيفه بنفسه. وإذا أكل الضيف من الخارج كان يسخط من ذلك لعدم حيازته فرصة الخدمة. كان يوفّر غرفته للضيوف مع كل نوع من الراحة لهم. اشترك في الانتخاب من قِبَل الحزب الاشتراكي، وعمل عضو البرلمان إلى 18 عاما. كان أحمديا مخلصا ووفيا. كانت أملاك الجماعة في البلد مسجلة باسمه ما لم تُسجَّل الجماعة رسميا.

يقول الداعية المسؤول في سنغال أنه جاء إلى سنغال في عام 1912م، وبعد فترة وجيزة سُجِّلت الجماعة رسميا في البلد وقال المرحوم: لا نعرف متى تصيبني المنية لذا يجب أن تسجَّل الأملاك باسم الجماعة فورا. وكلما واجهت الجماعة موقفا صعبا كان المرحوم في الصف الأول للدفاع عنها. كان يخدم الجماعة أكثر من الدعاة. خدم رئيس الجماعة إلى فترة طويلة في منطقة “تمبا كاندا”، كما خدم في الهيئة الإدارية المركزية بصفة سكرتير الأمور الخارجية. قبل وفاته تبرع للجماعة بثلاثة دونمات من أرضه لبناء المدرسة عليها. كذلك كان قد وفر ثلاثة دونمات أخرى من أرضه لبناء مركز الجماعة عليها، ولكن قبل وفاته سلّم أوراق أرض مساحتها ستة دونمات إلى داعية الجماعة السيد ديكومير، وقال له إنها أمانة الجماعة فاحتفظ بها. ثم قال: أنا مسافر إلى غنييا كوناكري ولا أخال أني سأعود منها. كان يحضر الجلسات السنوية هنا بين حين وآخر. وقد حضرها في عهد الخليفة الرابع رحمه الله أيضا. وحضرها للمرة الأخيرة في عام 2019م، ولقيني. وقال لأمير الجماعة المحلية: لا أدري متى يصيبني الموتُ فأتمنى أن أجلس أمام خليفة الوقت لأراه لأطول وقت ممكن. ثم قال له بعد اللقاء: لقد تحققت أمنيتي.

يقول السيد منور أحمد خورشيد: كان المرحوم مقبولا جدا في مجال السياسة والإدارة. كان من مدينة “تانبا كوندا” المعروفة في السنغال وينحدر من عائلة سياسية. كان مرتبطا مبدئيا بمجال التعليم ثم دخل السياسة في عام 1995م. وصلته دعوة الجماعة بواسطة السيد “جَغْ جَين” نائب المتحدث باسم البرلمان، ثم فتح الله تعالى عقدة قلبه عاجلا فبايع ودخل الجماعة ببشاشة القلب وانشراح الصدر. كان المبايعون الأوئل في السنغال من فئة العمال أو الفلاحين وكانوا يقدمون التضحيات المالية بقدر استطاعتهم، ولكن عندما بايع المرحوم وفقه الله تعالى لتقديم التضحيات المالية بسخاء دائما. كان أحمديا شجاعا وغير هياب. كان مولعا بتبليغ الدعوة إلى حد الجنون. كانت دائرة معارفه واسعة جدا، فكان يسعى جاهدا لتبليغ الدعوة إلى كل من يلتقي به. كانت كتب الجماعة واستمارة البيعة موجودة في سيارته دائما. رحمه الله وغفر له ورفع درجاته، وجعل الإخلاص والوفاء على هذا النحو مستمرين في أجياله أيضا ووفّق الذين ليسوا أحمديين منهم أن يدخلوها.

الجنازة الأخيرة هي للسيد مبشر لطيف الذي كان محاميا في المحكمة العليا في باكستان. كان يسكن في مدينة لاهور ثم انتقل إلى كندا في الفترة الأخيرة. وقد توفي في 5/5/2020م عن عمر يناهز 85 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان يحب الله U ورسوله r والمسيح الموعود u والخلافة حبا كبيرا. كان جده من الأمّ، شيخ مِهْرْ علي صديقا حميما لسيدنا المسيح الموعود u. وقد اعتكف u في بيته في مدينة هوشيار بور، وفي أثناء ذلك بشّره الله تعالى بنبأ عظيم عن المصلح الموعود t. خدم المرحوم مبشر لطيف رئيس الجماعة في “حارة فيصل” بلاهور إلى 17 عاما. وكان ضمن نقابة المحامين للجماعة ومعتزا بعضويته لها. وُفِّق لخدمة كثير من الأسرى ومساعدتهم. وكان ضمن المحامين الثلاثة الذين وُفّقوا لتمثيل الجماعة في عام 1974م. وعمل أستاذا في جامعة البنجاب إلى 46 عاما، أي كان أستاذا في كلية المحاماة في جامعة البنجاب. عندما هوجم مسجد الجماعة في “مادل تاؤن” في لاهور كان المرحوم موجودا فيه. لقد حماه الله تعالى بفضله في الحادث غير أن أخاه الصغير السيد نعيم ساجد استُشهد فيه. بعد ذلك هاجر المرحوم إلى كندا. كان ملتزما بالصلاة والصيام، وصلاة التهجد. كان يحب القرآن الكريم كثيرا، وكان مشتركا بفضل الله تعالى في نظام الوصية. ترك وراءه أرملة وست بنات وعديدا من الأحفاد والحفيدات وأولادهم.

يقول السيد مَلِك طاهر أمير الجماعة في لاهور أن المحامي مبشر لطيف كان محاميا حاذقا ومثقفا جدا. حاز على شهادة المحاماة في باكستان في زمن كانت السلطة القضائية تحظى باحترام كبير. بعد عام 1984م رُفعت القضايا الزائفة ضد شباب الجماعة بسبب نطقهم الشهادتين، فمثُل السيد مبشر لطيف في محكمة قاضي التحقيق. مع أنه ما كان يمثل في محكمة أدنى من المحكمة العليا ولكنه ظل يفعل ذلك مراعيا مصلحة الجماعة. فكان يقوم بخدمات عفيفة في القضايا المتعلقة بالجماعة، وكان يقدم مشورات قانونية صائبة جدا. كثير من قضاة التحقيق وغيرهم كانوا من تلاميذه؛ ولكنه لم ير بأسا في المثول أمامهم كمحامٍ، مع أن العادة السائدة في باكستان هي أن المحامين الذين يمثلون في المحاكم العليا لا يمثلون في محكمة قاضي التحقيق.

يقول السيد مبارك طاهر، المستشار القانوني للجماعة أن سلسلة خدمات المرحوم مبشر لطيف بدأت من عام 1974م، حين ساعد محاميا غير أحمديٍّ “إعجاز بتالوي” للمثول أمام محكمة القاضي “صمداني” لصالح الجماعة. استأنفت الجماعة في المحكمة الشرعية في باكستان ضد قانون سُنّ ضد الجماعة في عام 1984م، وكان المرحوم مبشر لطيف ضمن لجنة المحامي في القضية.

كان معلوما سلفا أن القضية لن تسفر عن نتيجة لصالح الجماعة ومع ذلك أعدّ المرحوم وزملاؤه القضية بجهد كبير. رحمه الله وغفر له ورفع درجاته، ووفق ذويه للاستمرار في حسناته وألهمهم الصبر والسلوان. بعد الصلاة سأصلي على هؤلاء المرحومين صلاة الغائب بإذن الله.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز