خطبة  الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 5/6/2020م

في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا

******

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

سوف أتناول مرة أخرى ذكر الصحابة البدريين. والصحابي الذي أذكره هو صهيب بن سنان t. اسم والده سنان بن مالك، واسم أمِّه سلمى بنت قعيد. كان موطن صهيب “الموصل”. كان أبوه أو عمّه عاملا لكسرى على “الأبلة” وهي كانت مدينة على شاطئ دجلة ودُعيت لاحقا بـ “بُصرَى”. لقد أغار الروم على هذه المنطقة فسبوا صهيبًا وهو غلام صغير.

يقول أبو القاسم المغربي: كان اسم صهيب: عميرة بن سنان وسماه الروم صهيبا. وكان صهيب رجلا أحمر شديد الحمرة ليس بالطويل ولا بالقصير وكان كثير شعر الرأس. لقد نشأ صُهَيْبٌ بالروم، فصار ألكن. فابتاعه رجل من “كلب”، فقدم به إلى مكة، فاشتراه عَبْد اللهِ بْن جدعان، ثم أعتقه. فأقام صهيب مع عبد الله بن جدعان بِمَكَّةَ إلى أن مات. ثم لم يزل صهيب هناك إلى أن بُعث رَسُول اللهِ r.

وهناك رواية عن أهل صهيب فيقولون: لما ترعرع صهيب وعقل، هرب من الروم، فسقط إلى مكة، فحالف عبد الله بن جدعان وأقام معه إلى أن مات.

يقول عنه المصلح الموعود t: وكان من هؤلاء العبيد صهيب، وكان قد جيء به من بلاد الروم، كان عبدًا مملوكاً لعبد الله بن جدعان الذي أعتقه فيما بعد. لقد تعرّض صهيب لبلاء شديد بسبب إيمانه بالرسول r.

ولقد ذكر المصلح الموعود t هذا الأمر في سياق الرد على اعتراض الكفار المذكور في القرآن الكريم أنه r قد اخترع القرآنَ بإعانة من الآخرين من العبيد وغيرهم، فأحد الردود عليه هو أن هؤلاء العبيد قد تعرضوا بعد إسلامهم للمصائب والظلم الشديد، فهل أعان هؤلاء العبيد النبي r ليتعرضوا مقابل ذلك لمثل هذه المصائب والشدائد؟ فلم يعينوا في الخفاء بل علنًا، ثم ظلوا ثابتين مع تحملهم المصائب والظلم. فبذكر المصلح الموعود t هذا الأمر استدل على هشاشة ذلك الاعتراض.

هذه كانت حالة أولئك الذين آمنوا بالله وبرسوله r وإن إيمانهم هذا جعلهم ثابتين، وإنهم تعلموا الإسلام على يد النبي r وآمنوا بوحي الله تعالى. على أية حال، كان هذا هو سياق هذا البيان المذكور.

قال عمار بن ياسر: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله r فيها، فقلت له: ما تريد؟ فقال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمد، فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك؛ فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون.

وكان إسلام عمار وصهيب بعد أن أسلم بضعة وثلاثون رجلاً.

روى أنس أن رسول الله r قال: السّبّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الرّوم،  وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة.

قال عبد الله بن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة؛ النبي  rوقد نزلت عليه الشريعة، وأبو بكر، وعمار بن ياسر وسمية أم عمار وصهيب وبلال والمقداد رضي الله عنهم أجمعين. فأما النبي r فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. ولقد وضحت هذا الأمر في خطبة ماضية أن هذا هو رأي الراوي، وإلا فإن النبي r وأبا بكر t قد تعرضا للظلم. مع أنه في أول الأمر لم يتعرضا له ولكنهما لاحقا تعرضا للظلم والاضطهاد.

يقول الراوي: وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وآتاهم على ما أرادوا، إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

على أية حال، فإن جميعهم قد تحملوا الشدائد كما ذكرت ولكن كل واحد منهم ظل ثابتًا على إيمانه إلا أن ما ورد في الرواية عن بلال فهو أنه تعرض لأشد أنواع الظلم.

ثم قيل عن صهيب إنه كان من المؤمنين المستضعفين فكانوا يُعذّبون في سبيل الله في مكة، وهو أيضا قد تعرّض لأشد أنواع الاضطهاد. وورد في رواية: كان عمار بن ياسر يُعذّب حتى لا يدري ما يفعل، وكانت الحالة نفسها لصهيب وأبي فكيهة وعامر بن فهيرة والصحابة الآخرين. وقد نزلت فيهم آية:] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[ (النحل 111).

في رواية: ومن الآخرين الذين هاجروا إلى المدينة كان علي بن أبي طالب وصهيب بن سنان، فقدِما في نصف ربيع الأول، وكان النبي r لا يزال في قباء ولم يكن قد سافر إلى المدينة.

وفي رواية: لما خرج صهيب مهاجرًا إلى المدينة تبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ﻭﺍﺳﺘﺨﺮﺝ ما كان في ﻛﻨﺎﻧﺘﻪ من السهام ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي. فقالوا “نعم”، ففعل. فقدم المدينة، فقال له النبي r: ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع، وهنا نزلت فيه آية من القرآن الكريم وهي قول الله تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[ (البقرة 208)

وفي رواية: هاجر صهيب من مكة إلى المدينة وقدم على رسول الله r وهو بقباء، ومعه (أيْ مع النبي r) أبو بكر وعمر وبين أيديهم رُطَب قد جاءهم به كلثوم بن الهِدْم أمهات جرادين، وصهيب قد رمد بالطريق، وأصابته مجاعة شديدة، (وكان قد تعب أيضا بسبب السفر) وقع في الرطب، فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمِد؟! فقال رسول الله r: تأكل الرطب وأنت رَمِد؟! فقال صهيب: إنما آكله بشق عيني الصحيحة، فتبسم رسول الله r وجعل صهيب يقول لأبي بكر: وعدتني أن نصطحب في الهجرة، فخرجت وتركتني، ويقول: وعدتني يا رسول الله أن تصاحبني، فانطلقت وتركتني فأخذتني قريش، فحبسوني، ويقول: فاشتريت نفسي وأهلي بمالي، فقال رسول الله r: “ربح البيع”. فأنزل الله عزّ وجلّ: ]وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِيْ نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[ (البقرة 208). وقال صهيب: يا رسول الله، ما تزودت إلا مدّا من دقيق (وهو نصف كيلو تقريبا) عجنته بالأبواء حتى قدمت عليك. يعني أكل هذا القدر القليل من الطعام فقط أثناء السفر. (مختصر تاريخ دمشق)

قال المصلح الموعود t: كان صُهيْب رجلا ثريا وكان يشتغل بالتجارة، وكان يُحسب من أثرياء مكة، ومع أنه كان ثريا، وكان قد أُعتِقَ ولم يعد عبدا رقيقاً حينئذ إلا أنه بالرغم من ذلك فإن قريشاً كانوا يضربونه حتى كان يُغمى عليه. وعندما هاجر الرسول r إلى المدينة أراد صهيب أن يلحقه، ولكن أهل مكة منعوه قائلين: كيف تستطيع أن تغادر مكة مع الثروة التي كسبتها في مكة، لن نسمح لك بالمغادرة. فقال لهم: لو تخليت لكم عنها جميعًا فهل تدَعونني أمضي؟ فقبِل أهل مكة هذا العرض. وعلى هذا، سلّم صهيبٌ أهلَ مكة جميع ثروته وبلغ المدينة خالي الوفاض، ولقي رسول الله r الذي هنّأه وقال: يا صهيب، هذه أربحُ صفقة قمتَ بها في حياتك. يعني كنتَ تأخذ المال مقابل البضاعة والآن أحرزتَ الإيمان مقابل المال. (التفسير الوسيط)

وبعد هجرة صهيب t من مكة إلى المدينة آخى النبي r بينه وبين الحارث بن الصمة، وشهد صهيب مع النبي r بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها.

وعن عائذ بن عمرو أن سلمانَ وصهيبًا وبلالًا كانوا قعودًا في أناس فمرّ بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا: ما أخذتْ سيوفُ الله تبارك وتعالى من عنق عدو الله مأخذَها بعد، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟! قال: فأُخبر بذلك النبي r فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، فلئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك تبارك وتعالى. فرجع إليهم فقال: أي إخوتنا، لعلكم غضبتم، فقالوا: لا يا أبا بكر. يغفر الله لك.

وعن صهيب t قال: لم يشهد رسول الله r مشهدًا قط إلا كنت حاضره. ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يُسيّر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة قط أول الزمان وآخره إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله. وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم. وما جعلت رسول الله r بيني وبين العدو قط، حتى توفي رسول الله r. وكان صهيب في شيخوخته يجمع الناس ويُسمعهم بغاية المتعة أحداثَه الممتعة التي حدثت في الحروب التي كان قد شارك فيها.

كان في لسان صهيب عجمة، أيْ لم يكن فصيحا مثل العرب، روى زيد بن أسلم عن أبيه، قال: خرجت مع عمر حتى دخل على صهيب حائطًا له بالعالية، فلما رآه صهيب قال: ينّاس ينّاس، فظن عمرُ أنه يقول “يا ناسُ”، فقال: ماله، لا أباله، يدعو بالناس؟ فقلت: إنما يدعو غلامًا له اسمه يحنّس، وإنما قال ذلك لعقدة في لسانه. فقال له عمر بعد بعض الأحاديث: يا صهيب، ما فيك شيء أعيبه إلا ثلاث خصال، لولاهن ما قدّمتُ عليك أحدًا: أراك تنتسب عربيًّا ولسانك أعجمي، وتكتني بأبي يحيى اسم نبي، وتبذّر مالك. فقال صهيب: أما تبذيري مالي فما أنفقه إلا في حقه أيْ لا أبذّره، وأما اكتنائي بأبي يحيى فإن رسول الله r كناني بأبي يحيى، فلن أتركها، وأما انتمائي إلى العرب فإن الروم سبتني صغيرًا، فأخذتُ لسانَهم، وأنا رجل من النّمر بن قاسط.

وكان عمر بن الخطاب t محبًّا لصهيب، حسن الظن فيه، حتى إنه لما ضُرب أوصي أن يصلي عليه صهيب، وأن يصلي بجماعة المسلمين ثلاثًا، حتى يتفق أهل الشورى على من يُستخلف. وتوفي صهيب بالمدينة سنة ثمانٍ وثلاثين في شوال، وقيل: سنة تسع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقيل: ابن سبعين سنة، ودفن بالمدينة.

والصحابي التالي الذي أتناول ذكره هو سعد بن الربيع t. كان أنصاريا من بني الحارث بن الخزرج. وكان أبوه الربيع بن عمرو وأمه هُزيلة بنت عِنَبَة، وكان لسعد زوجان إحداهما عمرة بنت حزم والأخرى حبيبة بنت زيد. وكان لسعد ابنتان، إحداهما أم سعد، وقيل أم سعيد واسمها جميلة.

كان سعد بن الربیع من بين القليلين الذين كانوا یعرفون القراءة والكتابة في الجاهلية. وكان نقيبًا لبني الحارث الذين كان عبد الله بن رواحة أيضا من نقبائهم. شهد سعد بن الربيع رضي الله عنه بيعتَيْ العقبةِ الأولى والثانية. في رواية البخاري: قال عبد الرحمن بن عوف: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد بن الربيع: إني أكثرُ الأنصار مالا، فأعطيك نصف مالي، ولي زوجتان، وأيَّ زوجتَيَّ هويتَ نزلتُ لك عنها، فإذا حلّتْ (أي اكتملتْ عدّتُها) تزوجتَها. فقال له عبد الرحمن بن عوف: لا حاجة لي في ذلك، ولكن هل مِن سوق فيه تجارة؟ قال: سوقُ قَيْنُقاع. فغدا إليه عبد الرحمن، فأَتَى بأَقَطٍ (أي جُبن) وسمنٍ، قال: ثم تابعَ الغدَ (أي ظل يذهب إلى السوق كل يوم ويعمل هكذا). فما لبث أن جاء وعليه أثرُ صفرة (أي على ثوبه أثر لون الزعفران، وكانت هذه علامة الزواج عند العرب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بزواجه)، فقال له: تزوجتَ؟  قال: نعم. قال: « ومن؟ » قال: امرأة من الأنصار؟ قال: « وكم سُقْتَ إليها (أي كم دفعت لها من المهر)؟ قال : زنةَ نواةٍ من ذهبٍ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أَوْلِمْ ولو بشاةٍ. أي رغّبه النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الوليمة بقدر سعته. وشهد سعد بن الربيع رضي الله عنه بدرًا وأحدا، واستُشهد في غزوة أحد.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: مَن يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟ فقال رجل: أنا. فذهب يطوف بين القتلى ويبحث عنه، فوجده. فقال له سعد بن الربيع: ما شأنك؟ فقال الرجل: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك. قال سعد: فاذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقرئْه مني السلامَ، وأخبرْه أني قد طُعنت اثنتي عشرة طعنةً وأني قد أوصلت مقاتليّ إلى الجحيم (أي قد قتلتُهم). وأخبرْ قومي أنهم لا عذر لهم عند الله إنْ قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحدٌ منهم حيٌّ.

وقيل أَنّ الرّجُلَ الّذِي الْتَمَسَ سَعْدًا فِي الْقَتْلَى هُوَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنهما.

وفي رواية: قال سعد لأبيّ بن كعب: قل لقومك: يقول لكم سعد بن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ العقبة. فوالله ما لكم عند الله عذرٌ إن خُلِصَ إلى نبيّكم وفيكم عينٌ تَطْرِفُ ((أي إنْ وصل الكفارُ إليه r وواحدٌ منكم حيٌّ).

وقال أبيّ بن كعب: فلم أبرح حتى مات (أي كان سعد منهَكًا من شدة الجروح حينئذ، فمات بعد ذلك فورًا) فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بحال سعد وأنه قد استُشهد. فقال: رحمه الله، نصَح لله ولرسوله حيّاً وميّتاً.

ودُفن سعد بن الربيع وخارجة بن زيد رضي الله عنهما في قبر واحد.

و كتب حضرة صاحبزاده مرزا بشير أحمد وهو يسرد واقعة استشهاد سعد بن الربيع رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل إلى ساحة المعركة ليتفقد جثث الشهداء، وكان المشهد الماثل أمام أعين المسلمين يبكي دمًا. أي أن النبي صلى الله عليه وسلم رغم كونه جريحًا إلا أنه نزل إلى ساحة المعركة بعد انتهائها، وبدأ يبحث عن جثث الشهداء ليرى كيف يدفنها، وأخذ يعتني بالجرحى، وكان هذا المشهد الماثل أمام المسلمين مخيفًا جدا يبكي المرء دمًا لرؤيته. كانت جثث سبعين من المسلمين ملقاة في ساحة القتال مضرجة بالدماء وملطخة بالتراب، وكانت تقدِّم مشهدًا مروّعا للعادة العربية الوحشية التي اسمها الـمُثْلة، يعني أن جثث هؤلاء الشهداء كانت قد تعرضت للمثلة وشُوهت وجوههم بقطع بعض أعضائهم. يقول حضرته: وكان بين هؤلاء الشهداء 6 مهاجرين فقط، أما الباقون فكلهم كانوا من الأنصار. وكان عدد قتلى كفار قريش 23.

عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جثة عمه وأخيه بالرضاعة حمزة بن عبد المطلب وقف مذهولا إذ كانت هند زوجة أبي سفيان قد شوهت جثته بكل وحشية وظلم. ظل النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا عند جثته في صمت تام بعض الوقت وآثارُ الهم والغيظ بادية في وجهه، وفكّر –في أول وهلة- أن يردّ على هؤلاء الوحوش من أهل مكة بنفس الوحشية والعدوان لعلّهم يعودون إلى صوابهم ويتلقون درسًا، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن امتنع عن تنفيذ هذه الفكرة وصبر، بل أعلن أن المثلة (أي قطع أعضاء القتيل وتشويه صورته) حرام في الإسلام للأبد، ومهما اعتدى العدو فلا ترتكبوا هذه العملية الوحشية في أي حال، بل عليكم البر والإحسان.

وكانت عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب تحبّ أخاها حمزة بن عبد المطلب حبًا شديدا، وكانت قد خرجت من المدينة عند سماع خبر هزيمة المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام لا تُرِ أُمَّك جثة خالك. ولكن متى كانت الأخت لترتاح بدون رؤية جثة أخيها، فلما نهاها ابنها عن رؤية جثة حمزة المشوهة المجدوعة، قالت بإلحاح: دعوني أرَ جثة حمزة، وإني أعدكم أني سأصبر ولن أتفوه بكلمة جزع ولا فزع. فذهبتُ بها، ورأت جثة أخيها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وصمتت.

ثم يكتب المؤلف: وكان كفار قريش قد مثّلوا بجثث الصحابة الآخرين أيضا، ومنهم جثة عبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث شوهوها تشويها شديدا. وكلما مر النبي صلى الله عليه وسلم بجثة بدت على وجهه آثار الحزن والألم أكثر فأكثر.

لعلّ النبي r قال حينداك: مَن يأتيني بخبر سعد بن الربيع لأني رأيته في أثناء الحرب محاطا بسهام العدو فذهب أُبَيُّ بن كعب وبحث عنه هنا وهناك ولم يجده، ثم ناداه باسمه بصوت عال ولم يعثر عليه في أي مكان حتى يئس منه وأوشك على العودة، لكن خطر بباله قبل العودة أن يناديه باسم النبي r لعله يعثر عليه بهذه الطريقة. فكان أبي بن كعب ينادي سعدا من قبل باسمه ولكنه بعد هذه الفكرة فقال: يا سعد أين أنت؟ أمرني رسول الله r أن أبحث عنك. فنفخ هذا الصوتُ روح الحياة في جسد سعد إذ كان بين الجثث وكأنه شبه ميت. فلما سمع سعدٌ اسم النبي r عاد إليه رمق الحياة فرد بصوت منخفض جدا: من الباحث عني؟ فها أنا هنا. فأجال أُبَـيّ بن كعب النظر فيما حوله ووجد سعدًا على بُعد قليل في كومة من القتلى وهو موشك على لفظ أنفاسه الأخيرة، فقال أُبي بن كعب: قد أرسلني النبي لأخبره عن حالتك، فقال سعد: بلِّغْ رسولَ الله r سلامي وقل له إن سعدا يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلِغ قومَك مني السلام وقل لهم: إن سعدا يقول لكم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم توفي.

كذلك ذكر سيدنا المصلح الموعود t الحادث نفسه بكلماته كما يلي: لقد بعث النبي r يوم أُحدٍ أُبيّ بن كعب ليبحث عن الجرحى ويتفقد حالهم. فوصل إلى سعد بن الربيع الذي كان قد أصيب بجراح بالغة وكان يلفظ آخر أنفاسه، فقال له: هل عندك رسالة تريد أن أبلّغها أقاربك؟ فتبسمَ سعد وقال: كنت أنتظر أن يأتيني مسلم لأحمّله رسالتي، ولكني أرجوك أولاً أن تعِدني واضعا يدك في يدي بتبليغ رسالتي إلى أهلي، ثم قال: أرجوك أن تبلِّغ إخواني المسلمين سلامي، وتقول لقومي وأهلي: إن رسول الله r أمانة ربانية عندنا، وقد دافعْنا عنه بمُهَجنا وأرواحنا، وها نحن نرحل الآن من الدنيا واضعين هذه الأمانة في أيديكم، فلا تقصّرُنّ في حفظها.

ثم قال سيدنا المصلح الموعود t معلقا على الحادث:

عندما يحين أجل المرء تخطر بباله أفكار شتى عن أهله وأولاده، فيقول: ماذا ستفعل زوجتي بعدي، ومَن سيرعى أولادي، ولكنك ترى أن ذلك الصحابي لم يترك أي رسالة كهذه، وإنما قال: يا قوم، ها نحن نغادر الدنيا مدافعين عن رسول الله r فسِيروا وراءنا على الطريق نفسه. والحق أن هذه القوة الإيمانية في هؤلاء القوم هي التي جعلتهم يقلبون العالم رأسًا على عقب، ويطيحون بعروش قيصر وكسرى. كان قيصر الروم وكسرى الفرس مذهولين من أمر هؤلاء القوم، حتى كتب كسرى إلى قائده وقال: إذا كنت لا تستطيع أن تهزم هؤلاء العرب فارجِعْ واجلِسْ في بيتك كالنساء. ألا تقدر على صدّ هؤلاء القوم الذين يأكلون الضب؟ فأجابه قائده: إنهم ليسوا أناسًا بل هم عفاريت حيث يتقدمون قافزين على حدّ السيوف وأسِنّة الرماح فأنّى لنا أن نهزمهم؟

عن أمِّ سعد بنت سعد بن الربيع أنها دخلت على أبي بكر الصديق فألقى لها ثوبه حتى جلست عليه فدخل عمر فسأله، فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك قال: ومن هو يا خليفة رسول الله r؟ قال: رجل قُبض على عهد رسول الله r وتبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت.

عن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد ابن الربيع بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله! هاتان بنتا سعد، قُتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمّهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: “يقضي الله في ذلك” فأنزلت آية المواريث. فبعث r إلى عمهما فقال: “أعط بنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك”.

يقول مرزا بشير أحمد t في كتابه “سيرة خاتم النبيين” بيان هذا الحادث: كان سعدٌ من أثرياء الناس ويملك مكانة مرموقة في قبيلته، ولم يكن له أولاد ذكور بل ترك وراءه أرملة وبنتين. ولما لم تكن أحكام جديدة عن الوارثة قد نزلت على النبي r إلى ذلك الحين فكان الإرث يوزَّع على الورثة أيضا بحسب قوانين قديمة سائدة في العرب. فإن لم يترك المتوفَّى وراءه أولادا ذكورا استولى على تركته أقاربه من طرف والده وبقيت أرملته وبناته صفر اليدين. فبعد استشهاد سعد بن الربيع استولى على تركته كلها أخوه وبقيت أرملة سعد وبنتاه دون سند. ففي هذه الحالة من الحزن والألم جاءت زوجة سعد بن الربيع إلى النبي r مع بنتَيها وذكرت له القصة كلها وأبدت قلقها تجاه ما حصل، فهزّت هذه القصةُ المؤلمة فطرةَ النبي r الطيبة، ولكن لما لم تكن الأحكام بهذا الشأن قد نزلت عليه r من الله U إلى ذلك الحين، فقال r لها أن تنتظر وهو صلى الله عليه وسلم سوف يحكم في الموضوع بحسب الأحكام التي ستنـزل من الله تعالى. فتوجه النبي I إلى الله تعالى ولم تمض مدة طویلة حتى نزلت عليه بعض الآيات الواردة في سورة النساء عن مسائل الميراث، فدعا أخا سعد وقال له أن يسلِّم ثُلثي ما تركه سعدٌ لابنتيه وثمنه لزوجة المرحوم ويأخذ البقية. ومن ذلك الوقت بدأت أحكام جديدة عن تقسيم الإرث، وبموجبها تنال الزوجة ثُمن تركة زوجها صاحبِ الأولاد، ورُبعها إن لم يكن له أولادٌ، والبنات ينلن نصف ما يأخذه إخوتهن من تركة أبيهم، وإن لم يكن للمرحوم أولادٌ ذكور فلهن ثُلثا تركة والدهن أو نصفُها بحسب اختلاف الأوضاع، والأمُّ ستنال سُدس ما تركه ابنُها إن كان له أولادٌ، وثُلثه إن لم يكن له أولادٌ، وكذلك تقرر نصيبُ الوَرثة الآخرين، واستعادت المرأة نصيبها الفطري الذي كان قد غُصب منها.

لقد كتب حضرة مرزا بشير أحمد المحترم ملحوظة بعد هذا فقال: لا أرى من غير الضروري القول هنا أن الميزة البارزة من خصائص النبي r أنه حمى حقوق النسوة الواجبة والجائزة كلَّها حماية تامة، بل الحق أنه في تاريخ العالم لم يخلُ قبل النبي r ولا بعده أحدٌ حمى حقوق المرأة كما حماها حضرته r. فقد سلَّم النبي r بجميع حقوقها الواجبة في مجال الوراثة والزواج وعلاقات الزوج والزوجة والطلاق والخلع واقتناء العقار الشخصي، واستخدامِ هذا العقار الشخصي وتلقي العلم وولاية الأولاد وتربيتهم والاشتراك في القضايا القومية والوطنية والحرية الشخصية والحقوق والمسؤوليات الدينية. باختصار قد أقر النبي r بحق المرأة في كل ميدان سواء أكان دينيا أو ماديا كانت المرأة تقدِر على الخوض فيه، وفرض على أمته حماية حقوقها باعتبارها أمانةً مقدسة عندهم. ولهذا السبب كانت المرأة العربية تَعدّ بعثته r رسالة الخلاص لها.

ثم يقول حضرته: فلو خضتُ في بيان تفاصيل هذه الحقوق أكثر لابتعدت عن طريقي، (أي لما كنت لا أبين موضوع حقوق المرأة أصلا لذا أستطيع الخوض في التفصيل) وإلا لأخبرتُكم أن تعليمه r عن المرأة يحتل أسمى مرتبة لم يرتق إليها أي دين ولا تمدن في العالم. ومن المؤكد إن قوله الجميل بأنه “حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة” مبني على حكمة عميقة.

يقوم بعض دعاة الثقافة في العالم المعاصر بإثارة بعض الأمور السطحية التي لا علاقة لها بالحرية ويتكلمون عن حقوق المرأة وكأنها مسلوبة منها، ويثير الطاعنون في الإسلام بعض الشبهات حول القيود التي فرضها الإسلام عليها فيعترضون، وإن هي إلا لإقامة شرفها وللحفاظ على سكينة البيوت وتربية الأجيال القادمة. والحقيقة أن الإسلام حصرا أعطى تعليما عن حرية المرأة وحقوقها. نسأل الله I أن يفهم العالم هذه الحقيقة ويجتنب التشنيع والإفساد، وأن تُدرك الأحمديات أيضا- اللاتي أحيانا يتبعن أهل الدنيا- هذه الحقيقة، وأن هذه هي الحرية، ويدركن الحقيقة والمكانة التي أعطاها لهن الإسلامُ. فهي لم يعطها أيُّ دين آخر لأتباعه، ولا أية حركةٌ نسائية لعضواتها، ولا حتى تلك المؤسسات العالمية المتنورة المزعومة لحماية حقوق المرأة. نسأل الله I أن يوفق الرجالَ أيضا ليعطوا النساء حقوقهن كما علَّمهم الإسلام، ليكون المجتمع آمنا مسالما.

بعد هذا أود أن أطلب منكم الدعاء بإيجاز للأوضاع السائدة. اُدعوا الله I أن يخلِّص العالم من الكورونا والآفات الأخرى ويهب الناسَ عقلا وفهما بأن بقاءهم وسلامتهم في الإنابة إلى إله واحد، وأداءِ حقوق بعضهم البعض، والقضاءِ على الفتنة والفساد من العالم بتقديم التضحيات. وهب الله الحكام أيضا العقلَ لإدارة النظام بعدل. نسأل الله أن يحمي كل أحمدي من النتائج الوخيمة للفوضى والاضطراب السائد في هذه الأيام في أميركا، وأن يوفق المواطنين بتقديم طلباتهم والسعي لنيل حقوقهم بوجه صحيح. إذا كسر الأميركان الأفارقةُ بيوتهم وأشعلوا النار فيها فإنهم يجلبون الضرر والخسارة لأنفسهم؛ وقد علّق على ذلك عدد من القادة الأفارقة أيضا قائلين إنّ عليهم أن لا يُشعلوا النار في بيوتهم ولا يخرِّبوها. إنما يجوز لهم نيلُ الحقوق بطرق شرعية وباحتجاج تسمح لهم الحكومة به. وأمّا إذا أبادوا ممتلكاتهم هم فلن ينفعهم بتاتا، بل سوف يتكبدون الخسارة. فعلى المحتجين أن يفكروا في هذا أيضا. على النظام الحكومي أيضا أن يفهم في ضوء هذه الاضطرابات أن المشاكل لا تُحَل بالقوة فقط، وأن القوة لا تقدر على حل كل القضايا، وإنما تدار الشؤون الحكومية بإعطاء جميع المواطنين حقوقهم، وبدون ذلك من المستحيل أن يستتب الأمن والسلام في البلد. إذا كان الشعب غير مطمئن فلا تستقر أي حكومة أمامه مهما كانت قوية. على كل حال نسأل الله تعالى أن تزول الفتن حيثما كانت، وأن تؤدي الحكومات حقوق الشعب، وأن يمارس الشعب الضغط على الحكومات إلى حدّ مسموح لنيل حقوقهم.

وكذلك يجب أن تفكر الحكومة الباكستانية أيضا أن عليها أن تدير شؤون البلد بإنصاف، وتكف عن ممارسة الظلم والاعتداء على الأحمديين خوفا من المشايخ وهو يتزايد في هذه الأيام. وتتلقى الدرس من تاريخ البلد. فبإثارة قضية الأحمدية وممارسة الظلم والاعتداء على الأحمديين لم تبق حكومة الحكام السابقين ولن تبقى في المستقبل أيضا. فاتركوا التخيّل أن بهذه القضية يمكن إطالة مدة الحكم. ألا إنّ الأحمدية قد تقدمت وازدهرت أكثر من ذي قبل نتيجة هذا الاضطهاد، وسوف تتقدم وتزدهر في المستقبل أيضا، إن شاء الله. فهذا فعلُ الله ولا مانع له. نحن ندعو الله I أن يزيل الظلم والفساد والاضطراب من كل مكان وأن يتلقى كل إنسانٍ الدرسَ من هذا الوباء المتفشي في هذه الأيام، ويُحدث في نفسه تغييرات. وأن يوفقنا الله نحن الأحمديين لأداء حق عبادته وحقوق عباده أكثر من ذي قبل، لكي ننال حب الله أكثر فأكثر، ونشاهد تحقق الرقي والازدهار بأم أعيننا..

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز