خطبة  الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 17/4/2020

في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا

******

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

سوف أتحدث اليوم عن حضرة معاذ بن الحارث من بين الصحابة البدريين رضي الله عنهم. كان معاذ من الأنصار من بني مالك بن النجار الذين هم من الخزرج. اسم والده الحارثُ بن رفاعة، واسم أمِّه عفراءُ بنت عبيد. وكان لمعاذ أَخوانِ هما معوذ وعوف، وثلاثتهم يُنسَبون إلى أمهم أيضا بالإضافة إلى أبيهم، فيقال لهم: بنو عفراء. شهد معاذ وأخواه عوف ومعوذ غزوةَ بدر، واستُشهد عوف ومعوذ فيها، أما معاذ فحضر سائر الغزوات أيضا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أن الحارث ورافع بن مالك الزرقي رضي الله عنهما كانا من أوائل الأنصار الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة. وكان معاذ من الأنصار الثمانية الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى في مكة. كما حضر معاذ رضي الله عنه بيعةَ العقبة الثانية أيضا.

عندما وصل معمر بن الحارث إلى مكة مهاجرا آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن الحارث رضي الله عنهما.

لقد ذكرت قصة مقتل أبي جهل بالتفصيل في إحدى الخطب في السنة الماضية، ولكني أرى لزاما أن أتحدث الآن أيضا عن مقتله قليلا لأنه ذو صلة بمعاذ رضي الله عنه، وسوف أذكر بهذا الصدد ملخص روايات البخاري، ولأن ذكرها كلها صعب في هذا الوقت. فلابد أن أقرأ أولاً رواية كاملة وردت في البخاري وهي:

عن صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:

بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِن الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا (أي بين مَن هما أكثر منهما شبابا وقوة)، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا (أي يموت مَن هو أدنى إلى الأجل مِن بيننا). فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ.

فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا. فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاس،ِ قُلْتُ أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ. ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا لَا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ. هذه رواية البخاري.

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ. فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ، أَوْ قَالَ قَتَلْتُمُوهُ.

وورد في رواية أحمد بن يونس أن عبد الله بن مسعود قال: هل أنت أبو جهل؟ هذا أيضا ورد في رواية البخاري.

عَنْ أَنَسٍ وقال حضرة سيد زين العابدين ولي الله شاه في شرح رواية البخاري: ورد في بعض الروايات أن معوذا ومعاذا ابني عفراء قد ضربا أبا جهل حتى أوشك على الموت، ثم قام عبد الله بن مسعود بقطع رأسه عن جسده. هذا ما ورد في البخاري، كتاب المغازي. وقال العلامة ابن حجر العسقلاني: من المحتمل أن يكون معوذ بن عفراء أيضا قد ضرب أبا جهل بسيفه، بعد أن ضربه معاذ بن عمرو ومعاذ بن عفراء.

من شارك في قتل أبي جهل يوم غزوة بدر، نجد تفصيل ذلك في أحد المصادر، حيث نقل ابن هشام عن ابن إسحاق أن معاذ بن عمرو بن الجموح قطع رجل أبي جهل فسقط، فضرب عكرمةُ بن أبي جهل معاذا بسيفه، فقطع يده حتى انفصلت. ثم إن معوذ بن عفراء هجم على أبي جهل فسقط وفيه رمق، فقطع عبد الله بن مسعود رأس أبي جهل عن جسده، أي عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليبحث عن أبي جهل بين القتلى.

وبحسب ما ورد في حديث صحيح مسلم فإن ابنَي عفراء حملا على أبي جهل حتى قتلاه. وهذا ما ورد في البخاري في باب قتل أبي جهل.

وقال الإمام القرطبي: من الوهم أن ابني عفراء قتلا أبا جهل. الواقع أن معاذ بن عمرو بن الجموح اشتبه على بعض الرواة، أي أنه معاذ بن عمرو بن الجموح، فظنه البعض معاذ بن عفراء.

وقال العلامة ابن الجوزي: معاذ بن الجموح ليس ابنًا لعفراء، وكان معاذ بن عفراء شريكًا في قتل أبي جهل. ربما كان لمعاذ بن عفراء أخ أو عم في ذلك الوقت، أو أن تكون الرواية ذكرت ابنًا واحدًا لعفراء، فظن الراوي بالخطأ أنها تذكر ابنيْ عفراء.

على كل حال يقول أبو عمر أن الأصح من هذه الرواية هو حديث أنس بن مالك الذي يذكر أن ابنًا واحدًا لعفراء شارك في قتل أبي جهل.

وقال ابن تيم: من المحتمل أن يكون معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء أخوين من طرف الأم، أو يكونا أخوين بالرضاعة.

وقال العلامة الداودي: المراد من ابنيْ عفراء سهل وسهيل، ويقال إنهما معوذ ومعاذ.

على كل حال، هناك روايات تقول إنَّ ثلاثة شاركوا في قتل أبي جهل، بينما ورد في بعضها أن اثنين قتلاه، وكان أحدهما معاذ بن الحارث.

لقد كتب حضرة الصاحبزاده مرزا بشير أحمد وقائع غزوة بدر وتحدث عن مقتل أبي جهل كالآتي: اشتد القتل وسفك الدم في ساحة القتال. كان المسلمون يواجهون جمعًا هم ثلاثة أضعافهم، وكانوا مدججين بالسلاح من كل نوع، وقد خرجوا إلى ساحة القتال مصممين على محو اسم الإسلام وأي أثر له. كان المسلمون المساكين أقلَّ منهم عددًا وعتادا، وقد ضربتهم صدمات الفقر والغربة، ونظرًا إلى الأسباب المادية كان أهل مكة سيفترسونهم في دقائق، ولكنّ المسلمين كانوا مشغوفين بحب التوحيد والرسالة، وقد جعلهم ذلك أقوى من أي شيء في الدنيا، بمعنى أن الإيمان الحي كان قد شحنهم بقوة خارقة غير عادية فقاموا في ميدان القتال بخدمة الدين بصورة عديمة النظير، بحيث كان كل واحد منهم سباقا على الآخر ومتحمساً للتضحية بحياته في سبيل الله تعالى. فقد قتل حمزةُ وعليٌّ والزبير y صفًّا بعد صفٍّ من الأعداء. كان الأنصار مُفعَمين بإخلاص لدرجة أن عبد الرحمن بن عوف t يروي ما معناه: عندما بدأ القتال العام نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَار، فهبط قلبي نوعا ما بالنظر إليهما لأن المقاتل في مثل هذا القتال يعتمد كثيرا على من كانا على جانبيه. فإذا كانا شديدَيْن اطمأنّ لأنه يستطيع أن يقاتل جيدا. فكنت في ذلك إذ غَمَزَنِي أَحَدُهُمَا وكأنه يريد أن يخفي قوله عن صاحبه الواقف بالجانب الآخر، فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أين أَبو جَهْلٍ الذي كان يؤذي النبي r في مكة؟ فقد عاهدتُ الله أن أقتله أو أموت دونه. فلم أكن قد أجبتُه حتى غَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا فتعجبت من جرأتهما لأن أبا جهل كان بمنـزلة قائد الجيش وكان محاطا بجنود متمرسين، فأشرت لهما بيدي إلى أبي جهل. فما إن فعلتُ إلا ووصلا إليه في لمح البصر بشقّ الصفوف وانقضّا عليه انقضاض الصقر وهجما عليه بسرعة هائلة لدرجة أنه أُسقط في أيدي أبي جهل ومن معه حتى سقط أبو جهل على الأرض. كان ابنه عكرمة أيضا معه، ولكنه لم يتمكن من إنقاذ أبيه غير أنه هجم على معاذ من الخلف حتى أصاب يدَه اليسرى إصابة شديدة. لاحق معاذٌ عكرمةَ ولكن الأخير لاذ بالفرار. ولما كانت يدُ معاذ شبه مقطوعة، وكانت تعرقله في القتال شدّ عليها معاذ وفصلها عن الجسد وخاض القتال مجددا.

يقول سيدنا الخليفة الثاني t في بيان هذا الحادث: أما أبو جهل الذي ذُبحت عند ولادته الجِمال إلى أسابيع ووُزّعت لحومها على الناس وظلَّ صوت الدفوف يدوّي في أرجاء مكة، فقد قُتل في غزوة بدر حيث أصيب بجراح بالغة على يد صبيّين أنصاريين يبلغان من العمر خمس عشرة سنة فقط.

يروي عبد الله بن مسعود t أنه لما أخذ الناس يعودون من ساحة القتال إلى بيوتهم، خرجت أبحثُ عن الجرحى- علمًا أن عبد الله بن مسعود t كان من سكان مكة فكان يعرف أبا جهل جيدا – وبينما أنا أمشي في ساحة القتال إذ أنا بأبي جهل يتأوّه من شدّة الجراح. فلما جئته قال لي: لا أراني ناجيًا من الموت وقد اشتد بي الوجع، وحيث إنك من أرض وطني مكة، فاعمل لي معروفًا، وهو أن تضع النهاية لحياتي لتنتهي آلامي. وإني، كما تعلم، من الأسياد، ومن عادة العرب أنهم يقطعون رؤوس الأسياد من أصل الأعناق كدليل على سيادتهم، فأتمنى أن تقطع عنقي من أصله. يقول عبد الله بن مسعود: فقطعتُ عنقه قريبا من الذقن، كيلا تتحقق أمنيته الأخيرة أيضًا.

عن الرُبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ: أن عمَّها معاذ بن عفراء بعث معها بقناع من رطب، فوهبها النبي r حليةً أهداها له صاحب البحرين.

وفي رواية: عن الرُبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ أن عمها معاذاً أهدى معها للنبي، فوهبها حليةً جاءته من صاحب البحرين.

يقول العلامة ابن سيرين: إنما أهدى له r صاحب البحرين وغيره من الملوك لما اتّسع الإسلام وكاتبَ الملوك، وأهدى لهم، فكاتبوه وأهدوا إليه.

لقد تزوج معاذ بن الحارث أربع نساء، وهنّ: حبيبة بنت قيس وأنجبت له عبيد الله، وأمُّ الحارث بنت سبرة التي أنجبت الحارث وعوفا وسلمى (أمّ عبد الله) ورملة. زوجته الثالثة هي أمّ عبد الله بنت نمير وأنجبت إبراهيم وعائشة. وزوجته الرابعة هي أمّ ثابت رملة بنت الحارث بن ثعلبة وأنجبت سارة.

لقد أورد العلامة ابن سيرين في تأليفه “أسد الغابة”، أقوالا مختلفة عن وفاة معاذ t، منها أنه أصيب بالجراج يوم بدر وعاد إلى المدينة ومات بها متأثرا بالجراح. وجاء في قول آخر أنه عاش إلى عهد خلافة عثمان t، وقيل إنه عاش إلى عهد سيدنا علي t ومات يوم صفين التي نشبت بين عليّ ومعاوية في عام 36 و 37 من الهجرة، وقد اشترك فيها معاذٌ لصالح عليّ رضي الله عنهما.

على أية حال، هناك أقوال مختلفة عن وفاة معاذ ويتبين من تلك الأقوال والروايات أنه نال عمرا طويلا، بالنظر إلى زوجاته وعدد أولاده إذا كانوا كما ذُكروا.

بعد ذكر هذا الصحابي سأذكر الآن مرحوما وهو السيد رانا نعيم الدين ابن فيروز دين منشي. وقد تُوفّي قبل بضعة أيام، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان مصابا منذ فترة طويلة بعدة أمراض، فأُدخل المستشفى عدة مرات وكل مرة شفاه الله تعالى بفضله. وكلما كان يُشفى ويقدر على المشي كان يأتي إلى المسجد هنا، ولكن مرضه الأخير أودى بحياته. وُلد المرحوم بحسب الأوراق في عام 1934م، وتقول بعض الروايات أنه وُلد في عام 1930م أو 1932م، غير أن الأوراق الرسمية تذكر ولادته في عام 1934م. فهكذا كان عمره 86 عاما. لقد دخلتِ الأحمديةُ عائلةَ المرحوم عن طريق والده المرحوم فيروز دين الذي بايع المسيح الموعود u عن طريق المراسلة في عام 1906م. وبعد تقسيم الهند إلى بلدين (الهند وباكستان) جاءت عائلته إلى باكستان، ومكثت بداية في لاهور ثم انتقل المرحوم إلى ربوة في عام 1948م.

ثم قدّم نفسه للاشتراك في “كتيبة الفرقان”، وبعد العمل في هذه الكتيبة أرسل سيدُنا الخليفة الثاني رضي الله عنه المرحومَ إلى الأراضي قرب مدينة “مير بور خاص” حيث ظلّ يخدم إلى بضع سنين.

كان منضمًّا إلى نظام الوصية قديمًا أي منذ 1951. تزوج وكان اسم زوجته “ساره بروين” وهي كانت حفيدة السيد “دولت خان” أحد صحابة المسيح الموعود u. وبحسب المعلومات الواردة عنه في سجلات العاملين في الحرس الخاص وما ورد في الأمر المكتبي، عيّن السيد رانا نعيم الدين كعامل احتياطي في الخدمة في 3 أغسطس عام 1954. ثم ظل يخدم كحارس في جوقة الحرس الخاص من نوفمبر 1955 إلى 11 مايو 1959. لما كان الخليفة الثاني t يسافر إلى “نخله” أو “جابه” من أجل أعمال التفسير الكبير وكان أحيانًا يقيم هنالك عدة أشهر، حظي رانا نعيم الدين بشرف الخدمة هناك كحارس لهذين المكانين الصغيرين اللذين تمّ إعمارهما، كما كان يعتني هناك بمولّد الكهرباء لأنه لم تكن الكهرباء قد وصلت إلى هذه الأماكن، وكان مولد الكهرباء يعمل بالمازوت.

وبحسب المعلومات المتوافرة في سجلات الوصية سافر إلى “هرَبَّه” محافظة سيالكوت بعد العمل في قسم الحرس الخاص إلى 1978، وبعد ذلك أخذ يخدم في مسجد الجماعة في مدينة “ساهيوال”، وخلال ذلك في أكتوبر 1984 هاجم المعارضون مسجد الجماعة الإسلامية الأحمدية في “ساهيوال” بينما كان هو على خدمة حراسة المسجد فردّ عليهم، وبناء على ذلك أقيمت قضية ضد 11 فردًا من أفراد الجماعة كان السيد رانا نعيم الدين منهم. لقد سُجن وحظي بشرف كونه أسيرًا في سبيل الله من 26 أكتوبر 1984 إلى مارس 1994.

وبدلا من أن تتخذ الشرطة إجراءات ضد المهاجمين رُفعتْ القضية ضد 11 فردًا من أفراد الجماعة وبالتالي تمت معاقبتهم. لقد حُوّلت القضية إلى المحكمة العسكرية- التي كانت محكمة خاصة أقيمت في زمن “ضياء الحق”، وبدأت هذه القضية تُسمع فيها من 16 فبراير 1985 واستمرت إلى 1 يونيو 1985. كان اثنان من أحد عشر متهمًا قد غادرا البلاد، كما تمّت براءة اثنين آخرين، وبعد ذلك أُرجئ أمر سبعة متهمين وكان رانا نعيم الدين منهم. وبعد مدة أصدرت هذه المحكمة العسكرية الخاصة حكم الإعدام ضد الداعية السيد إلياس منير والسيد رانا نعيم الدين، وسجن 25 عامًا للمتهمين الخمسة الآخرين. وعند الاستئناف ضد هذا القرار أصدرت المحكمة العليا بلاهور الأمرَ بالإفراج عنهم في مارس 1994، وعند اكتمال الإجراءات والأوراق اللازمة أُفرج عنهم في 19 مارس 1994. وعليه فقد نال هؤلاء شرف أن يكونوا أسرى في سبيل الله لمدة تسعة أعوام ونصف.

بعد ذلك تمّ الاستئناف من قِبل المعارضين ضد قرار المحكمة العليا عن إطلاق سراح هذين الأسيرين المحكوم عليهما بالإعدام، وبدأت جلسة الاستماع في المحكمة في مايو عام 2013 ولكن بما أنهما كانا قد خرجا من البلد لذلك فإن هذه القضية لا تزال قيد الانتظار.

لقد تعرض المرحوم خلال أسره للاضطهاد الشديد من قبل الشرطة، ومورس عليه الضغط الكثير لاستصدار اعترافٍ منه أنه أُرسل إلى هناك من قِبل خليفته لقتل المسلمين، وذلك لكونه كان يعمل حارسًا عند الخليفة.

لقد انتقل السيد رانا نعيم الدين إلى لندن في عام 1994 بعد أن أُفرج عنه في هذه القضية، وظل يخدم هنا في فريق الحراسة الخاصة فوق طاقته بالرغم من كبر سنه. لقد توفيت ابنته الكبرى في عام 2010، ثم بعد عدة أيام توفيت زوجته أيضا. وعند ذلك سألني للسفر إلى باكستان. كانت الظروف صعبة بحيث كان سفره يبدو مستحيلا، إلا أنني سمحت له بالسفر وقلت له أن يرجع بسرعة، وبالفعل قد سافر لعدة أيام ورجع.

لقد ترك خلفه ابنًا وأربع بنات، ابنه واقف الحياة ويعمل حاليا في مكتب السكرتير الخاص في بريطانيا، والبنات الأربع أيضا يعشن في لندن.

يقول ابنه بأن والدنا علّمنا دوما التشبث بالخلافة والتعلق بها. وكان بنفسه محبًّا كبيرًا للخلافة ووفيا لها، وكان يقول: عندما أذهب لأداء خدمة الحراسة وأرى الخليفة هناك فإنني أزداد شبابًا، وهذا هو السر في صحتي الجيدة بحيث أذهب للخدمة حتى في هذا السن المتقدم ولولا ذلك لكنت قد لزمت الفراش منذ زمن.

كان متقيدا بالوقت والمواعيد لأداء الخدمة لدرجة أنه كان يتجهز قبل ساعتين أو ثلاثة من موعد خدمته. وإذا قلتُ له بأنه لا يزال هناك وقت كثير، ردّ قائلا: ماذا سأعمل هنا إذا بقيت في البيت.

كتب أحد الأطباء يدعى الدكتور هشام: اطلعت على ملفه الصحي وأصابتني حيرة لدى قراءته لأن الذي يصاب بمثل المرض الذي تعرض له في هذا السنّ المتقدم يجلس في البيت أو يوضع في دار المسنين العجزة، إلا أنه كان يتحرك ويمشي وكان يقول: السر في صحتي الجيدة أنني أذهب إلى الخليفة وأبقى معه وفي صحبته.

يقول ابنه: كنت أدلك رجليه عمومًا، وفي إحدى المرات عند التدليك قرب ركبته سمعت صوت تألّمه الخفيف فسألت: ماذا حصل؟ فقال: لا شيء، فلما أصررت عليه قال: إنها آلام الاضطهاد الذي تلقيته في السجن. كان يصبر ويتحمل كل أذى تلقاه في السجن. وإنّ ضرْبَ السجناء في سجون باكستان يكون بطريقة ظالمة جدًّا. على أية حال لقد تحمل كل هذا في السجن بصبر بالغ، ولما خرج منه كان صبورًا أيضا لدرجة أنه لم يكن يخبر أحدًا إن كانت صحته متوعكة بل في معظم الأحيان كان يقول: الحمد لله، أنا بخير.

يقول ابنه عن طاعته للخلافة: كنت جالسًا عند والدي، وبحسب عادتي طلبت منه أن يحكي لي عن بعض الواقعات من حياته فأخبرني قائلا: لقد رافقت الخليفة الثاني t خلال سفره إلى “جابه” حيث كان يؤلف التفسير الكبير، وحدث هناك أن حضرته سخط عليَّ جراء بعض الأمور وقال لي: اذهب إلى المسجد، واستغفر هناك.

يقول: فتوجهت إلى المسجد الذي كان من الطين وكان له باحة صغيرة، فجلست في باحته وبدأت بالاستغفار، وبينما أنا كذلك إذ هبّت فجأة عاصفة تبعها مطر غزيز وطارت مظلة كانت قد أقيمت في باحة المسجد، إلا أنني بقيت في مكاني منشغلا بالاستغفار، فلما مضى وقت لا بأس به سأل الخليفة الثاني t: أين ذهب رانا نعيم الدين؟ فخرج بعض الإخوة بحثًا عني ووجدوني في المسجد وقالوا لي بأن حضرته يدعوني إليه. فلما جئته قال: كنت أعرف أنك ستكون جالسًا هناك، اذهبْ فقد عفوت عنك.

يقول ابنه بأن والدي كان يذكر كثيرا ويبدي سروره تجاه ما حظي به من فرصة كبيرة ليكون عند الخليفة الثاني t أثناء مكوثه “في جابه” من أجل تأليف التفسير الكبير، وكان من عادته أنه يشارك الجميع في أفراحهم غير أنه لم يكن يخبر أحدًا عن أحزانه.

ثم يذكر ابنه ميزات والده فيقول بأن والدي كان أبًا شفوقًا وصديقًا صدوقًا.

وقف ابنه رانا وسيم أحمد حياته، ويقول: لما قُبل وقْفِي، أوصاني والدي قائلا: الوقف مسؤولية كبيرة، وعليك أن تحقق مقتضياته ملتزماً بالتوبة والاستغفار، إنْ آلمك أحد فالزم الصمت ولا تقل له شيئًا، واترك الأمر لله تعالى، واصبر، ولا تدع الصبر يومًا، إن الله مع الصابرين. وكان ينصحني وكأنه صديقي الحميم.

كان يعامل زوجتي -التي هي كنته- معاملة الأصدقاء، بل كان يعاملها بأفضل مما كان يعامل بناته.

يتابع ابنه ويقول: لقد قص علي قصة بنفسه، أنه عندما كان في ربوة تشرف بكونه بوابا للسيدة أم المؤمنين رضي الله عنها. حين انخرط في نظام الوصية نصح أقاربه الآخرين أيضا بذلك، كان يدفع التبرعات بانتظام كبير، حيث كان يدفع التبرعات أولا في اليوم الأول من الشهر وبعده ينفق على أمور أخرى، كان دوما يساعد كثيرا من الناس بأمواله بصمت، دون أن يذكر ذلك لأحد.

كتبت بناته أن والدنا كانت له علاقة حب عظيم بالخلافة بحيث كنا نغبطه، فكان حبه للخليفة يجري في عروقه، فكلما ذُكر له الخليفة دمعت عيناه.

إحدى بناته كتبت أن والدي كان يكنّ لمسؤوله احتراما كبيرا، فذات يوم كنا نحن البنات نجلس معه في مكتب السكرتير الخاص ننتظر الإذن للدخول إلى الخليفة للالتقاء بحضرته، فلاحظت أن والدي قام فجأة بكل انتباه، كما كان يقوم أثناء عمله، فاستغربنا ما الذي أصابه فجأة. فلما رفعتُ رأسي لأرى، وجدتُ نائب مدير الحرس الخاص كان قد دخل المكتب لأمرٍ ما أو لأداء عمله الخاص، فعرفت أن والدي كان قد قام احتراما له ثم ظل واقفا ما لم ينصرف المسؤول. كل ذلك حدث خلال دقيقة لكنه علَّمَنا الكثير، لقد نصحَنا طول حياته أننا إذا كنا نريد أن نجني الفوائد في الحياة فعلينا أن نلتصق بالخلافة كما يلتصق الحديد بمغناطيس. قبل بضعة أيام أعطانا والدي نحن البنات الأربع وأخي وزوجته عيديةً، فلما قلنا له: لم يطلع حتى رمضانُ! قال لا ضمان للأجل ويجب ألاّ أتأخر عن أداء واجباتي، فأصر على أن يقدم العيدية لأولاده قبل بضعة أيام من وفاته.

تقول كنَّتُه: كان دائما يعتني بي وينصحني بصفته أبا لي، حين توفي والدي قال لي ولزوجي اذهبا فورا إلى باكستان لحضور الجنازة. كلما استيقظتُ ليلا وجدتُه يصلي، كان يكنّ للخليفة حبا عظيما. لقد كتَب الجميع تقريبا أنه كان يكنّ للخلافة علاقة وفاء كبير. وكان يقول: إنما بفضل أدعية الخليفة عشت في السجن ولم يتم إعدامي، وبأدعيته أنا هنا، وكان يقول: لا أدري أين اختفى – ببركة دعاء الخليفة – رئيس البلد الذي قد وقّع على الأمر بقتلي، بينما أنا موجود هنا كآية حية.

تقول إحدى بناته السيدة عابدة: كان ينصح أولادنا دوما بأن يوطدوا علاقتهم بالله والخلافة ففي ذلك بقاء لهم، كان ينصح دوما بتلاوة القرآن الكريم وكان شخصيا يداوم على الصلوات وقيام الليل، فلم أر في حياتي قط أنه فوَّت التهجد، كان خزينة أدعيةٍ لنا، وكان مضيافا، ويهتم بأقاربه الفقراء. كان المرحوم يدفع تبرعات والدَيه وزوجته المرحومة أيضا بانتظام. ولقد سمعته يردد بصوت عال بيتا تعريبه:

سواء كان فضلٌ منك أو ابتلاءٌ فنحن راضون بما ترضاه أنت يا ربي.

بعد وفاة والدتي اعتنى بنا نحن البنات كثيرا كما عامَل كنته كأنها ابنته بل أكثر من ذلك، فكلما جاء بهدية أو قدم عيدية أعطى كنته قبلنا، وكان يقول قد جئنا بابنة أحد إلى بيتنا لذا علي أن أعتني بها أكثر فأنا سوف أُسأل عن ذلك.

كتبتْ إحدى بناته: فعلا، لقد عاش أيام الابتلاء في السجن راضيا بربه ومحبًّا لدينه والخلافة فلم نسمع منه قط أفٍّ دع عنك الشكوى، لم يتأخر قط عن الصلوات والتهجد حتى في المرض. في السجن كان قد أصيب بألم في الكلية نتيجة التعذيب وقد تفاقم في أواخر حياته، كما كان يعاني أثناء التنفس، وكان يعاني ألما آخر أيضا، فلم نسمع منه كلمات تنم عن الاضطراب، بل كان دوما يشكر الله ويحمده ولم ينطق بأي كلمة سوى ذلك.

كتبت ابنتُه الأخرى، كان والدي يفكر فينا كثيرا لدرجة أنه قال لي ذات يوم: قد بلغتُ من العمر 87 سنة تقريبا ولا أعرف متى يأتيني الأجل، فإذا تُوفيتُ فاحملوني إلى باكستان. ثم قال لنا نحن البنات: قد خصصتُ النقود لشراء تذاكركن، لكي لا تُضطررن للطلب من أزواجكن عند الذهاب مع جثماني. فسافِرن على نفقة أبيكن.

حاليا يصعب نقل الجنازة بسبب الأوضاع، ودُفن جثمانه هنا أمانةً، وإذا ظهرت أي وسيلة فسوف نسعى لإرسال جثمانه إلى باكستان بحسب أمنيته، إن شاء الله.

يقول ابنُ أخت المرحوم رانا شبير وهو يعمل في مستشفى طاهر لأمراض القلب بربوة: قد تسنى لي اللقاء مع المرحوم مرات كثيرة في السجن، فكلما ذهبتُ إلى السجن لإيصال أغراضه أصابنا قلق واضطراب لكنه كان ينصحنا بالصبر والدعاء دوما، فكان رجلا صالحا من أسمى الطراز وكان صبورا.

وكذلك كتبت السيدةُ روبينة ابنةُ أخ زوجة المرحوم: كان المرحوم يقيم إلى عام 1980 في بيت صغير قرب إقامة الخليفة، وعندما كنا نذهب إلى ربوة لحضور الجلسة السنوية وأحيانا كانت ترافقنا بعضُ عائلات غير أحمدية أيضا حيث كان بعض الأقارب يحضرون الجلسة، فكان زوجُ عمتي يقول لها: يجب أن تهتمي بطعام الضيوف وسكنهم دوما ويجب ألاّ يتضايقوا، وكان ينام مع أفراد بيته في المطبخ أو غرفة المؤونة، ويقدم الغرف والشرفة لنوم الضيوف. وكان يقول: هؤلاء ضيوف المسيح الموعود u ويجب أن لا يواجهوا أي مشكلة.

وكتب أحد أولاد أخته: ذات يوم ذهبتُ لزيارته في السجن لأطمئن عليه ولما أردت أن أسأله عن تفاصيل الحادث، قال بكل حماس: يا ابني عليك أن تحافظ على الشهادتين حتى لو خسرت الحياة في هذا السبيل، فلا تبال بذلك أبدا، فخيِّل إليّ أن هذه الكلمات لا تصدر من إنسان بل من أحد الملائكة. كان مسلما أحمديا شجاعا وباسلا ومحافظا على الشهادتين ومحبا للخلافة. فحين انتقلتُ من بلجيكا إلى لندن قال لي إذا كنتَ قد انتقلتَ إلى هنا حبا للخليفة فاعتصمْ بالخلافة ولبِّ كل نداء للخليفة، وإلا فلا فائدة من هذا الانتقال. ثم قال لي: يجب أن تحافظ على صلواتك، وكن منيبا إلى الله دوما بدلا من التذمر بسبب أي مشكلة. كان يتبرأ من كل كاذب ومنافق، وكان يهتم كثيرا بأداء واجبه، وكلما قال له أهلُه إثر توعك صحته أن يستريح في البيت، قال: أنا بخير وهذا العمل إكرام من الله في أيام الشيخوخة هذه.

يقول السيد إلياس منير المحترم الذي كان مع المرحوم في السجن: إنني مصاب باضطراب شديد لأني قد قضيت جزءا من حياتي مع رانا المحترم، ولا أستطيع أن أراه في ساعة الوداع الأخير هذه. كنت أسيرا مع رانا المرحوم عشر سنوات في السجن، فلم أره قط يترك أهداب الصبر، حتى حين قُرئت عليه أوامر الدكتاتور العسكري الظالمة والغاشمة بإعدامه، سمعها بوجه طلق وتقبَّلها بثبات.

كان كثير العيال وكان أولاده كلهم صغارا ولم يكن له معاش جيد أيضا، لكنه كان متوكلا، وكان متحمسا لخدمة الدين، وكان يهتم بكرامة الجماعة فقط. كلما أصابه القلق قال: إن عزائمهم خطيرة جدا ولن يعصمنا منهم إلا الله تعالى. ثم أصلح الله تعالى بنفسه أموره وهيأ أسبابا لزواج بناته وهو أسير.

كتب السيد إلياس منير وهو يذكر حادثا بإيجاز أن المهاجمين حين شنّوا الهجوم على المسجد وبدؤوا يسيؤون إلى الشهادتَين والآيات والأحاديث المكتوبة على الحوائط، لا أستطيع أن أنسى ذلك المشهد إذ رأيتُ المرحومَ ينادي بصوت عال مثل الرعد مخاطبا المهاجمين: “لن أسمح لكم أن تمحو الشهادتَين”. لم أسمعه يتكلم بالأردية من قبلُ ولكنه قال هذا بالأردية وبصوت عال، وأجبر ثلاثين أو أربعين شخصا أن يختفوا في زوايا المسجد ثم يهربوا. قد فعل ذلك بكل شجاعة وإضافة إلى ذلك حين سأل ضابط الشرطة: مَن كان أطلق النار؟ فلم يتوقف للحظة بل تقدم فورا وقال: أنا الذي أطلقتُ النار. وبعد ذلك ضربه رجال الشرطة بشدة ليجبروه على أن يذكر أسماء بعض المسؤولين في الجماعة ويُلقي المسؤولية على عاتقهم، ولكن ما أحسن هذا الجريّ الذي لم يدَعهم يمسّون شرف الجماعة قط، والحق أن المسؤولين في الجماعة لم يكونوا يعلمون أنه يملك بندقية شخصية. ثم لم يقبل المرحوم أيّ ضغط أمام المحكمة العادية ومحكمة الجيش الخاصة. واعترف شفهيا وخطيا بكل شجاعة وبصفاء القلب أنه هو الذي أطلق النار، وبسبب شجاعته وصدقه وعاطفته للحفاظ على شرف الجماعة أكرمه الله تعالى ووفّقه لخدمة الخلافة إلى آخر لحظة من حياته.

ثم كتب السيد إلياس منير نفسه: أثناء أيام الأسْر حين كان والدي يتلقى رسائل الخليفة الرابع رحمه الله وخُطبه كان يأتي بها إلينا في السجن، حينها لم تكن القناة الفضائية قد بدأت وكانت الخطب تأتي مكتوبة. حين كان والدي يأتي بالخطب كان المرحوم “رانا” يُجلسني معه ويطلب مني أن أُسمعه خطب الخليفة. وكل هذه الفترة التي بقينا فيها ننتظر تنفيذ حكم الإعدام كنا نُخرَج من السجن لبعض الوقت فنفتـرق، ثم نُجمَع في سجن واحد، وكلما كنا نجتمع في السجن كان المرحوم يكرّس جل وقته في الاستماع للخطب بكل اهتمام. وكان يهتم بالصلاة بالجماعة كلما سنحت الفرصة، بل في بعض الأحيان كان يدعو للصلاة بعضَ الأحمديين الآخرين الموجودين في السجن. وأما رمضان فجاء في أيام أيار وحزيران وتموز حيث كان الجو شديد الحرارة أثناء فترة أسْرنا وكان المرحوم “رانا” يصوم كل رمضان رغم كبر سِنه وصعوباتِ السجن. وأبدى عزيمة قوية وواجه كل مشكلة برحابة الصدر، وحين أُصدر الحكم بإعدامه قضى وقته بـهمّة وشجاعة شعر بها الأعداء أيضا. وبعد أن صدر حكم الإعدام ووقّع عليه رئيس الدولة جاء أحد مسؤولي السجن إلى السيد “رانا نعيم الدين” وقال له: عجبا لهؤلاء المرزائيين (الأحمديين) إذ صدر حكم إعدامهم وقد أوشكت حياتهم أن تنتهي بالرغم من ذلك لم أر أي أثر في وجوههم ولم يُبدوا أي حزن. تحدّث طويلا. قال السيد “رانا”: عرفت أن المسؤول لا يعرفني وحين أنهى كلامه قلتُ له: هل شعرتَ بأي أثر في وجهي؟ قال: لا، فقلتُ له: أنا أيضا أحمدي، وقولي هذا هزّه بشدة.

وأقرأُ في النهاية رسالة للخليفة الرابع رحمه الله كتبها إلى السيد “رانا نعيم” في أيلول 1986. قال فيها: وصلتني رسائلك المليئة بالإخلاص، إن ثباتك على الصخرة المتينة للإيمان العظيم لمما يُعتزّ به، لا بد لرجال الله تعالى أن يمروا بمثل هذه الطرق الصعبة قبل أن ينالوا مراتب عالية. إنني أغبطكم لسعادتكم، إن الشجرة تُعرف بثمارها، إنكم أغصان خضراء وثمار حلوة لشجرة المسيح الموعود u فلن يُضيعكم الله تعالى أبدا. إن الجماعة كلها تدعو لكم وأدعيتي أيضا معكم. وعساكم قد سمعتم قصيدتي الأخيرة، قد ذكرتُ فيها لكم وللمخلصين أمثالكم رسالة الحب والسلام. نصركم الله تعالى بملائكته ونجّاكم من براثن العدو، وكان الله معكم.” هذه رسالة الخليفة الرابع إلى السيد “رانا”.

قال مبارك صديقي المحترم: ذات مرة تحدثتُ مع المرحوم عن أيام أسره ومشاكل السجن، فقال مبتسما: إن حياتنا نحن الأحمديين وقف لله ولرسوله ولطاعة الخليفة، لذا لا أجد أية مشكلة وأرضى دوما برضى الله تعالى.

لا شك أنه ظل يرضى برضى الله تعالى إلى آخر حياته، وكلما سألتُه قال “الحمد لله” دوما. وكلما كان يرجع من المستشفى كان يأتي للحراسة في اليوم التالي، وكان يقول: إنني بخير، بل كان يدعو لي أيضا بالخير. وقال لي أحد الأطباء: مثل هذا الشخص المصاب بهذه الأمراض ورِجلاه أيضا متورّمتان المفروض أنه لا يستطيع أن يخرج من البيت ولكنه يأتي للحراسة، وكان الطبيب يحتار لذلك. لا شك أن الأطباء كانوا يحتارون ولكنهم لا يعلمون أن المرحوم كان يكن حبا للخلافة وحرقة للمكوث بالقرب من الخليفة، وهذه الحرقة كانت تجذبه إلى المسجد للحراسة. رأيتُ في وجهه طمأنينة دوما وحبا للخلافة. عامله الله تعالى بلطف وحب في الآخرة أيضا وبوّأه عند أحبابه.

إنني أعرفه منذ صغري كما ذكرتُ حين كنا نذهب إلى “هوجابا نخلة” مع الخليفة الثاني t لبعض الأيام في فصل الصيف، كان المرحوم يعاملنا بحب في تلك الأيام أيضا، وأما بعد أن أصبحتُ الخليفة فقد اتخذ تعامُله معي سِـمَة أخرى. كانت تُرى فيه مشاعر الحب والوفاء للخلافة كل حين كما سمعتم الآن أحداثا تشهد على ذلك. وفّق الله تعالى أولاده أيضا ليمشوا على خطى والدهم بالوفاء دوما، لم أستطع أن أصلي عليه بسبب الظروف والقيود الحكومية، وأشعر بالأسف لذلك وسأصلي عليه غائبا في وقت من الأوقات إن شاء الله.

وفي الأخير أريد أن أقول مجددا عن المرض المتفشي في هذه الأيام بأن بعض الأحمديين أيضا مصابون، فادْعوا الله تعالى لهم أن يشفيهم شفاء كاملا ويوفقنا أيضا للسلوك على سبل رِضاه ولعبادته بوجه صحيح ولأداء حقوق العباد، وأن يرفع عنا هذا البلاء عاجلا، ويهب أهل الدنيا عقلا وفهما ليعرفوا إلها واحدا ويعبدوه ويوحّدوه. رحم الله تعالى جميع الناس. آمين.

*****

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز