خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 20/07/2018
في مسجد بيت الفتوح بلندن
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.
كان من أصحاب النبي ﷺ خلاد بن رافع الزرقي الأنصاري. وكان من السعداء الذين اشتركوا في غزوة بدر وأُحد. رزقه الله أولادا كثيرين. فقد ورد في روايةٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْت مَعَ النّبِيّ ﷺ إلَى بَدْرٍ، وَكَانَ كُلّ ثَلَاثَةٍ يَتَعَاقَبُونَ بَعِيرًا، فَكُنْت أَنَا وَأَخِي خَلّادُ بْنُ رَافِعٍ عَلَى بَكْرٍ لَنَا… فَكُنّا نَتَعَاقَبُ. فَسِرْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِالرّوْحَاءِ، أَذَمّ بِنَا بَكْرُنَا، فَبَرَكَ عَلَيْنَا، وَأَعْيَا، فَقَالَ أَخِي: اللّهُمّ إنّ لَك عَلَيّ نَذْرًا، لَئِنْ رَدَدْتنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَأَنْحَرَناهُ. قَالَ فَمَرّ بِنَا النّبِيّ ﷺ وَنَحْنُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ بَرَكَ عَلَيْنَا بَكْرُنَا. فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ﷺ بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ وَتَوَضّأَ فِي إنَاءٍ ثُمّ قَالَ افْتَحَا فَاهُ فَفَعَلْنَا، ثُمّ صَبّهُ فِي فِيهِ ثُمّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمّ عَلَى عُنُقِهِ ثُمّ عَلَى حَارِكِهِ ثُمّ عَلَى سَنَامِهِ ثُمّ عَلَى عَجُزِهِ ثُمّ عَلَى ذَنَبِهِ ثُمّ قَالَ: ارْكَبَا وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ ﷺ فَلَحِقْنَاهُ أَسْفَلَ الْمُنْصَرَفِ وَإِنّ بَكْرَنَا لَيَنْفِرُ بِنَا، حَتّى إذَا كُنّا بِالْمُصَلّى رَاجِعِينَ مِنْ بَدْرٍ بَرَكَ عَلَيْنَا، فَنَحَرَهُ أَخِي، فَقَسّمَ لَحْمَهُ وَتَصَدّقَ بِهِ. أي كانوا قد نذروا أنه إذا تم ما أرادوا سينحرون البعير ففعلوا.
ثم هناك صحابي آخر اسمه حارثة بن سراقة الذي استُشهد يوم بدر في عام 2 من الهجرة. إن أمّ الرُبيع بنت البراء هي أمّ حارثة بن سراقة وهي عمة أنس بن مالك. أسلم حارثة مع أمّه قبل الهجرة وكان أبوه قد توفِّي من قبل. آخى النبي ﷺ بينه وبين السائب بن عثمان بن مظعون.
قال أبو نعيم: كان حارثة عظيم البر بأمّه، حتى قال النبي ﷺ: “دخلتُ الجنة فرأيتُ حارثة”. قتله حبان بن العرقة ببدر شهيداً؛ رماه بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب حنجرته فقتله.
عن أنس: أن النبي ﷺ لقي حارثة يوماً، فقال: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً، قال: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا؛ فأسهرتُ لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فكأني أنظر إلى أهل الجنة فيها يتزاورون، وإلى أهل النار يتعاوون. فقال له النبي ﷺ: أنت امرؤٌ نور الله قلبه، عرفت فالزمْ. قال حارثة ما مفاده، ادعُ لي يا رسول الله بالشهادة، فدعا له ﷺ. وعندما دُعي الفرسانُ يوم بدر كان حارثة أول البارزين فكان أول فارس استُشهد. وقيل أنه كان أول أنصاري استُشهد في غزوة بدر.
عندما وصل خبر استشهاده أمَّه أمَّ الرُّبيِّع جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، قد علمتَ مكان حارثة مني، فإن يكن من أهل الجنة فسأصبر، وإلا فسيرى الله ما أصنع، قال: يا أم حارثة، إنها ليست بجنة ولكنها جنات كثيرة، وهو في الفردوس الأعلى؛ قالت: فسأصبر.
وفي رواية أخرى: فرجعت أمه وهي تضحك وتقول: بخ بخ لك يا حارثة!
في غزوة بدر قَتل اللهُ زعماء الكفار وأخزاهم وأكرم المسلمين الذين اشتركوا ببدر. لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة.
أقول: هذا لا يعني أنهم لو اقترفوا الذنوب أيضا مع ذلك ستكون الجنة واجبة لهم. بل المراد هو أنه لن يصدر منهم ما يخالف هدي الله تعالى وسيرشدهم الله بنفسه دائما. كما قال النبي ﷺ عن حارثة بن سراقة الذي استُشهد يوم بدر أنه في الفردوس الأعلى.
ثم هناك صحابي آخر اسمه عَبَّاد بن بشر، قُتل يوم اليمامة شهيداً في عام 11 من الهجرة. كان يُكنى أبا بشر، وقيل: أبا الربيع، وكان من قبيلة بني عبد الأشهل. كانت له ابنة واحدة وتوفّيت في الصغر. أسلم عباد بن بشر في المدينة على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضَيْر. آخى النبي ﷺ بين عباد وأبي حذيفة بن عقبة. شهد مع النبي ﷺ المشاهد كلها بما فيها غزوة بدر وأُحُد، وكان من الصحابة الذين أرسلهم النبي ﷺ لقتل كعب بن الأشرف.
لقد ذكر حضرة مرزا بشير أحمد ؓ حادث قتل كعب بن الأشرف في كتابه “سيرة خاتم النبيين” مستمدا من كتب التاريخ المختلفة. فقد رُوي أن غزوة بدر أظهرت عداوة يهود المدينة القلبية. كان يهود المدينة يزعمون أن الكفار سيقضون على المسلمين، ولكن رجحت كفة الحرب لصالح المسلمين فانتصروا، وهذا أيضا أظهر عداوة اليهود للعيان.
يقول مرزا بشير أحمد ؓ: من المؤسف أن نفي بني قينقاع أيضا لم يؤَدّ إلى إصلاح اليهود بل ظلوا يزدادون في خبثهم وعيث الفتن. وإن حادث قتل كعب بن الأشرف عروة من هذه السلسلة من الأحداث.
كعب كان يهوديًّا دينا ولم يكن يهوديًّا نسبا، بل كان من العرب، وكان أبوه الأشرف رجلا نشيطا من بني نبهان الذي كان قد جاء إلى المدينة وأقام العلاقات مع بني النضير، وصار حليفهم، وأخيرا قد كسب الاقتدار والنفوذ بحيث زوَّجه الزعيمُ الأكبر لبني النضير أبو رافع بن أبي الحقيق ابنتَه، وهي التي ولدت له كعبا، الذي حين كبر سبق والده منـزلة، حتى بدأ يهود العرب كلهم يعدّونه سيدا لهم. كان كعب شاعرا مفوها ورجلا ثريا جدا إضافة إلى كونه وجيها ووسيما، فكان لكرمه وإنفاقه يفرض سيطرته على علماء القوم ووجهائهم، أما أخلاقه فكان صاحب أخلاق سيئة جدا، وكان قد بلغ الغاية في نسج المكايد السرية والمؤامرات، وكان خبيرا في إثارة الفتن والفساد. فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، شارك كعبٌ اليهودَ الآخرين في إبرام الميثاق مع حضرته ﷺ على التعاون المتبادل والدفاع المشترك وإرساء الأمن والسلام. فقد شارك في هذا الميثاق في ظاهر الأمر بينما في قلبه بدأت نارُ البغض والعداء تشتعل فبدأ معارضة الإسلام ومؤسسه ﷺ بالمؤامرات والمكايد السرية. فالروايات تفيد أنه كان ينفق كثيرا على علماء اليهود ورهبانهم كل سنة، لكنه بعد هجرة النبي ﷺ حين جاؤوا إليه لاستلام مساعدة سنوية منه ذكَر لهم أثناء تبادل الحديث النبيَّ ﷺ وطلب منهم رأيَهم فيه في ضوء الكتب الدينية. فقالوا: في الظاهر يبدو أنه هو النبي نفسه الذي وُعدنا به، فاستاء كثيرا من هذا الجواب، وزجرهم كثيرا وصرفهم دون أن يقدم لهم شيئا من المساعدة. فلما انقطع دخْل علماء اليهود ذهبوا إليه مرة أخرى بعد فترة، وقالوا له قد أخطأنا في فهم العلامات، وفكرنا وتوصلنا إلى نتيجة مفادها أن محمدا (ﷺ) ليس في الحقيقة ذلك النبي الموعود. فبهذا الجواب تحقق هدف كعب، ورضي عنهم وقدم لهم المساعدة السنوية.
باختصار هذه كانت معارضة دينية وصحيح أنها تفاقمت لاحقا لكنها ليست محل اعتراض، ولا يُدان كعب بسببها، إذ المعارضة الدينية أمر معروف. (الحديث يجري عن قتله، أي لم يكن هذا سببا كافيا لقتله) لكن السؤال هو ما الذي دفع إلى قتله؟ فمعارضة كعب اشتدت بعدها كثيرا وصارت خطيرة، وأخيرا اتخذ كعب بعد معركة بدر موقفا مفسدا ومثيرا للفتن، نتج عنه أوضاع خطيرة جدا للمسلمين. في الحقيقة كان كعب يظن قبل بدر أن حماس المسلمين هذا مؤقت، وتدريجا سوف يتشتتون ويعودون إلى دين آبائهم تلقائيا، لكن حين نال المسلمون فتحا غير متوقَّع في بدر وقتل غاليبة أشراف قريش، أيقن أن هذا الدين الجديد لن ينحمي بسهولة، فعقد العزم على استنزاف الجهود للقضاء على الإسلام، وأول ما ظهر منه البُغض القلبي والحسد حين وصل خبر المسلمين في بدر إلى المدينة، حيث قال علنا أن هذا الخبر يبدو كاذبا تماما، لأن من المستحيل أن ينتصر محمد ﷺ على الجيش العظيم لقريش، ويباد العدد الكبير من سادة مكة المشهورين، وإذا كان هذا الخبر صحيحا فالموت أفضل من هذه الحياة. ثم لما تأكد من صحة هذا الخبر وأيقن أن الانتصار في بدر قد أحكم الإسلام وعززه، وهو لم يكن حتى يتصور ذلك، امتلأ غيظا وغضبا، واستعد للسفر فورا وخرج إلى مكة، وهناك أشعل النار في قلوب قريش بسلاطة لسانه وشعره، وخلق في قلوبهم ظمأ للدم الذي لا يكاد يرتوي، وملأ قلوبهم بعواطف الانتقام والثأر والعداء، فلما نشأت في عواطفهم صاعقة قوية بإثارة كعب، أخذهم إلى فناء الكعبة وجعلهم يمسكون بستائرها وناشدهم أن لا يجلسوا بهدوء وطمأنينة ما لم يقضوا على الإسلام ومؤسسه. أخذ هذا العهد من كفار مكة. وبعد خلق هذه الأجواء البركانية في مكة توجَّه ذلك الشقيُّ إلى قبائل العرب الأخرى، وقابل كل قوم وأثار الناس ضد المسلمين. ثم بعد العودة إلى المدينة قام بالتشبيب بالمسلمات، أي نظم أشعارا قذرة وفاحشة وذكر فيها المسلمات، حتى لم يتورع عن جعْل نساء عائلة النبي ﷺ عرضة لأشعاره القذرة ونظم تلك الأشعار وأشاعها في البلد، وأخيرا تآمر على قتل النبي ﷺ حيث دعاه إلى بيته لتناول الطعام ونسج المؤامرة لقتله على يد بعض شباب اليهود ، لكن النبي بفضله تعالى قد اطلع على ذلك وفشلت هذه المؤامرة، فلما بلغ الأمر هذا الحد. وبلغت اتهامات نقض العهد والتمرد والإثارة على الحرب والفتنة ونشر كلام الفحش ومؤامرة القتل ضد كعب درجة الإثبات، قرر النبي ﷺ بصفته الحاكم ورئيس السلطة في المدينة بمقتضى الميثاق الذي أبرم بينه وبين سكان المدينة بعد هجرته إليها، أن قتل كعب واجب، فقال لبعض صحابته أن يقتلوه. ولما كانت أجواء المدينة حساسة بسبب إثارة كعب الفتن والفساد، وكان يُخشى أنه لو قتل علنا إثر الإعلان عن ذلك في الملأ وبشكل رسمي، أن يؤدي إلى اندلاع الحرب الخطيرة داخل المدينة، وكان يخشى أن يحدث القتل وسفك الدم الكثير. وكان النبي ﷺ يريد أن يُوقِف القتل العام حتى بتقديم أي تضحية جائزة، ولم يكن يريد الحرب، فقد قرر أن لا يُقتل كعب علنا وجهرا، لذا ينبغي أن يقتله بعض الصحابة بصمت عند الفوز بفرصة سانحة. فعَهد بهذه المهمة إلى صحابي مخلص من الأوس اسمه محمد بن مسلمة، وقال له أن يشاور في أمره سيد الأوس سعد بن معاذ، فقال محمد بن مسلمة: من أجل قتله بصمت لا بد من الحيلة للإتيان به إلى مكان آمن ليقتل، فقال، نظرا إلى النتائج الخطيرة التي كان محتملا ظهورها إثر ترك القتل بصمت في مثل هذه القضية-: حسنا. فاصطحب محمد بن مسلمة باستشارة سعد ابن معاذ أبا نائلة وعددا من الصحابة فوصلوا إلى بيت كعب، ونادَوا كعبا من بيته، وقالوا له: إن صاحبنا أي محمدًا رسول الله ﷺ قد سألَنا صدقة ونحن فقراء، فهل تتكرم علينا بالدَّين؟ قفز كعب بسماع ذلك فرحا وقال: والله ليس ذلك اليوم بعيدا حين تتخلون عنه متبرئين. فقال محمد بن مسلمة: إنا قد اعتنقنا الآن دين محمد ﷺ ونترقب ما مصيره، فقل لنا هل ستهيئ لنا الدين أم لا.
قال كعب ارْهَنُونِي قَال محمد أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ ذلك الشقي: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. فكظم محمد غضبه وقال: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَشَبّ أَهْلِ يَثْرِبَ وَأَعْطَوْهُمْ، قَالَ فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَال محمد كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَالعرب كلهم سيعيّروننا وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ السِّلَاحَ، فَوافق كعب ووَاعَدَهُ محمد بن مسلمة وصاحبه أَنْ يأتيانه لَيْلًا، وحين جاء الليل أتوا بسلاحهم لأنهم الآن كانوا يستطيعون الذهاب بسلاحهم علنا ووصلوا بيت كعب ودعوه وأخذوه إلى ناحية أثناء الحديث وبعد قليل أمسكوا به وضربوه بسيف حتى قتلوه. باختصار، وقع كعب قتيلا وعاد محمد بن مسلمة وصاحبه إلى النبي ﷺ وأخبراه بقتله، وحين ذاع خبر مقتل كعب عمّ المدينة خوف وذعر وثار غضب اليهود، فجاء وفد من اليهود في اليوم التالي إلى النبي ﷺ واشتكوا أن سيِّدهم كعب قُتل هكذا، قال النبي ﷺ بعد الاستماع لهم: هل تعلمون ما الجرائم التي ارتكبها كعب؟ ثم ذكّرهم النبي ﷺ بنقض كعب العهد وحثِّه الناسَ على الحرب، وإثارته الفتن وقوله كلاما فاحشا وكيدِه للقتل وغيرها من الأمور، فسكت هؤلاء الناس خوفا، وبعد ذلك قال لهم النبي ﷺ عليكم أن تعيشوا بسلام في المستقبل على الأقل ولا تزرعوا بذور الفتنة والفساد، فبعد ذلك كُتبت اتفاقية جديدة عن رضى اليهود، فوعد اليهود من جديد بأنهم سيعيشون بأمن وسلام ويتجنبون الفساد وإثارة الفتن. لم يقل النبي ﷺ بعد سماع حديث اليهود أن المسلمين لم يقتلوا كعبا بل أحصى جرائمه وأخبرهم بالنتيجة الطبيعية لجرائمه وهو القتل في كل حال، ولم ير اليهود بُدًّا من التسليم بصحة قول النبي ﷺ لذلك عملوا اتفاقية جديدة لكي لا تحدث مثل هذه الأحداث في المستقبل ويسودَ الأمن ولا يسعى اليهود لأخذ الثأر ولا يعاقبَهم المسلمون. ولو كان اليهود يرون مقتل كعب خاطئا وغير شرعي لما سكتوا بل لطالبوا بالدية، ولكنهم لم يطالبوا بها وسكتوا، وكل هذه الأمور تدل على أن هذا القتل كان جائزا بحسب قانون ذلك الزمن، والفتنة، التي كان كعب يُثيرها، كانت أكبر من القتل وهذا كان جزاء مثل هذا المجرم، وهذا ما كان ينبغي أن يكون. وهذا العقاب، الذي عُوقب به كعب، كان جائزا بحسب قانون ذلك الزمن، وهذا ما يظهر من سلوك اليهود أيضا فلا مجال للاعتـراض. ولو لم يكن ذلك جائزا لأثار اليهود سؤالا مفاده: لماذا لم تُرفع القضية في المحكمة ولم يعاقَب علنا، فهذا يُثبت أن مقتله كان جائزا ومشروعا تماما، وكان عقوبة له.
ولكن ليكُن واضحا هنا أن الأحزاب المتطرفة والحكومات أيضا اليوم يستنبطون من هذا استنباطا خاطئا، ويظنون أن القتل بهذا الطريق مشروع. أولا: الذين يُقتَلون اليوم لا يعيثون الفساد على هذا النحو وليسوا من مثيري الفتن، ثانيا: عُوقب هناك مجرم فقط وليست أسرته أو غيره ولكن هؤلاء الناس حين يقتلون فلا يتـركون الأبرياء من النساء والأولاد وذوي العاهة إلا ويقتلونهم، باختصار لا يجوز هذا الأمر بحسب القانون الحالي ولكن في ذلك الزمن كان هذا العقاب صحيحا وواجبا وطبّقته الحكومة.
واستعمل النبي ﷺ عباد بن بشر على صدقات مُزينة وبني سليم، فأقام عندهم عشرة أيام وعند العودة من هناك ذهب إلى بني المصطلق لجبي الصدقات وأقام هناك أيضا عشرة أيام، ثم عاد إلى المدينة، وكذلك ورد في الروايات أن النبي ﷺ استعمله على غنائم غزوة حنين وعلى حرسه بتبوك.
كان عباد من الصحابة الأفاضل. ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.
عن عباد بن بشر الأنصاري أن رسول الله ﷺ قال: يا معشر الأنصار؛ أنتم الشعار (أي الثوب الذي يلي الجلد من البدن)، والناس الدثار (الثوب الذي يكون فوق الشعار)، لا أوتين من قبلكم.
استُشهد عباد بن بشير في حرب اليمامة وكان عمره خمسا وأربعين سنة. وعَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيْتِي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا. (صحيح البخاري)
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، أحدهما عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ والآخر أظنه أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ فإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا ليريهما الطريق حتى وصلا إلى بيتهما.
شهد عباد الحديبية أيضا، كتب مرزا بشير أحمد ؓ تفصيل هذا السفر: خرج النبي ﷺ من المدينة مع ألف وأربعمائة صحابي أو أكثر في ذي القعدة في السنة 6 من الهجرة يوم الاثنين في وقت الصبح وكانت معه من زوجاته أم سلمة، وجعل نميلة بن عبد الله واليَ المدينة وعبد الله بن بن أم مكتوم الضرير إمامَ الصلاة، وحين وصل ذي الحليفة التي تبعد عن المدينة ستة أميالٍ تقريبا في الطريق إلى مكة أمر بالنزول وبعد أداء صلاة الظهر أمر بتقليد الْهَدْي وَإشْعَاره وكان سبعين جملا وَأمر الصحابة بالإحرام وأحرم هو نفسه أيضا، ثم لمعرفة أحوال قريش، وما إذا كانوا يريدون شرا أم لا، بعثَ بين يديه بسر بن سفيان عينا وهو من بني خزاعة الذين يسكنون قريبا من مكة وسار رسول الله ﷺ نفسه ببطء نحو مكة، ولمزيد من الحيطة قدم عباد بن بشر أمامه طليعة في عشرين فرسًا من خيل المسلمين.
خرج رسول الله ﷺ حتى إذا كان بعد أيام بعسفان وهي على طريق مكة بمنزلين تقريبا، رجع إليه من أرسله لاستطلاع الخبر وقال يا رسول الله هذه قريش مكة وهم في حماس وثورة، وقد عقدوا العزم على منعك، حتى إن بعضهم قد لبسوا جلود النمور تعبيرا عن حماسهم ووحشيتهم، إنهم مصممون على الحرب ومنع المسلمين في كل حال. كما أخبر أن قريشا قد أرسلت طلائعها في كتيبة فرسان تحت إمرة خالد بن الوليد، وكان خالد لم يسلم بعد، وهذه الكتيبة قد وصلت قريبا من المسلمين، وفيها عكرمة بن أبي جهل. فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار أمر صحابته أن يميلوا إلى اليمين تاركين الطريق المعروف إلى مكة، وذلك تفاديا لأيّ اشتباك مع الكافرين. فتقدم المسلمون سالكين طريقا صعبًا ووعرا إلى جانب البحر. ثم وصلوا حيث وقعت واقعة صلح الحديبية.
وكان الصحابي عباد بن بشر بين الطليعة التي خرجت لاستطلاع أخبار الكفار. كان موضع ثقة عظيمة لدى النبي ﷺ. وكان من بين الصحابة الكرام الذي بايعوا النبي ﷺ عند الحديبية وتسمى بيعة الرضوان.
وهناك واقعة من غزوة ذات الرقاع، وهي أن النبي ﷺ نزل فِي مَسِيرِهِ هذا فِي شِعْبٍ، وكانت عَشِيّةَ ذَاتِ رِيحٍ قوية، فقال صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ نَكْلَؤُك. وَجَلَسَ الرّجُلَانِ عَلَى فَمِ الشّعْبِ، فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْر لعمار أنا أحرس أول الليل، فاذهبْ ونمْ، واحرسْ آخر الليل لكي أنام أنا آخرَه. فَنَامَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَامَ عَبّادُ بْنُ بِشْر ٍيُصَلّي. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أسر نسوة لأهل نجد بسبب جرائمهم، وكَانَ زَوْجُ إحداهن غائبا عند الأسر وإلا لكان معها، فلما رجع وجد المسلمين قد أسروا زوجته فحَلَفَ أنه لن يَبرح حَتّى يُصِيبَ مُحَمّدًا أَوْ يُهْرِيقَ دم أصحابه. فخرج يَطْلُبُ غِرّةً من المسلمين حتى وصل إلى شعب الوادي ذلك الذي بات فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ورَأَى سَوَادَ عباد بن بشر، فقَالَ لا شك أن هذا حارس الْقَوْمِ، فَفَوّقَ لَهُ سَهْمًا فَوَضَعَهُ في جسده، فَانْتَزَعَ عباد السهم واستمر في الصلاة، ثُمّ رَمَاهُ بِآخَرَ، فَانْتَزَعه عباد أيضا، ثُمّ رَمَاهُ الثّالِثَ، وكان الدّمُ قد خرج كثيرا، فأكمل عباد الصلاة ثُمّ أيقظ عَمّارا، فلما رآه جريحا قال له مَا مَنَعَك أَنْ تُوقِظَنِي؟ قَالَ كُنْت أقرأ سُورَة الْكَهْفِ فَكَرِهْت أَنْ أَقْطَعَهَا حَتّى أَفْرُغَ مِنْها.
هذا كان مستوى عبادة هؤلاء القوم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت عباد بن بشر يقول: يا أبا سعيد رأيت الليلة كأن السماء قد فرجتْ لي، ثم أُطبقتْ علي، فهي إن شاء الله الشهادة. قال قلت: خيرًا والله رأيتَ. قال أبو سعيد الخدري: ورأيت إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار: احطموا جفون السيوف، وتَميّزوا من الناس. ثم اختار أربعمائة رجل من الأنصار ما يخالطهم أحد من غيرهم، يقدُمُهم عباد بن بشر وأبو دجانة والبراء بن مالك حتى انتهوا إلى باب الحديقة، فقاتلوا أشد القتال. وقُتل عباد بن بشر، فرأيت بوجهه ضربا كثيرا، ما عرفتُه إلا بعلامة كانت في جسده.
ثم هناك الصحابي سواد بن غزية الأنصاري رضي الله عنه. وكان من بني عدي بن النجار، وشهد بدراً وأحدا والخندق والمشاهد كلها بعدها، وهو الذي أسر خالد بن هشام المخزومي يوم بدر.
وفي رواية أنه كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر، فأتاه بتمر جيد، فاشترى منه النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً بصاعين. أعجب النبيَّ صلى الله عليه وسلم التمر الذي أتى به، فاشتراه منه ودفع ثمنه تمرًا من نوع آخر.
وكتب حضرة مرزا بشير أحمد في كتابه “سيرة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم” وهو يتحدث عن وقائع غزوة بدر: هناك واقعة تدلّ على حسن حظ الصحابي سواد وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي يوم الجمعة وفي السابع عشر من رمضان من السنة الثانية الهجرية الموافق 14 مارس 623 الميلادي، استيقظ المسلمون وصلى محبو التوحيد هؤلاء الفجرَ في العراء ساجدين أمام الإله الواحد الأحد، ثم ألقى النبي صلى الله عليه وسلم خطبة حول الجهاد. وعند طلوع الضوء بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يسوي صفوف المسلمين للقتال مشيرًا بسهم في يده. وكان الصحابي سواد متقدما في الصف، فأشار إليه بالسهم ليتأخر، فلمستْ خشبةُ السهم صدره، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم في لهجة المتجاسر: يا رسول الله لقد بعثك الله بالعدل والإنصاف، فأَقِدْني.
إنها واقعة عجيبة فعلا، كان خارج الصف، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوّي الصفّ أصابته خشبة سهمه، فقال بجرأة عجيبة يا رسول الله لقد بعثك الله بالعدل والحق، ولكنك أصبتني بالسهم بدون حق، فالآن لا بد أن أقتصّ منك. فأصيب الصحابة بالحيرة والذهول جدا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بمنتهى اللطف: تعال واقتص مني بسهمك كما أصبتك بسهمي، وحسر عن بطنه. فتقدم سواد وأخذ يقبّل صدر النبي صلى الله عليه وسلم من فرط المحبة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم: ما هذا الذي فعلت؟ قال وقد غلبت عليه الرقة: يا رسول الله، العدو أمامنا، ولا أدري هل أرجع حيا اليوم أم لا، فوددت أن يلامس جسدي جسدك وأقبلك. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير.
كانت عند الصحابة أساليب عجيبة للتعبير عن حبهم وعشقهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وهناك واقعة عكاشة أيضا، ولكنها متأخرة جدا، أما قصة سواد فكانت قبلها. كانوا دائما يتحينون الفرص لا ليعبروا عن حبهم وعشقهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل ليحوزوا بركات قرب النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. رفع الله درجات هذه النجوم المتلألئة، ووفقنا لإدراك حقيقة عشق الرسول العربي صلى الله عليه وسلم. آمين.
