خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 15/12/2017
***
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 100)
هذه الآية تذكر صحابة النبي  الذين سبقوا وحازوا المركز الأول في الروحانية، وتقدموا على الجميع في ارتقاء المعايير الرفيعة للإيمان والعمل بحسب تعليم الله . فهؤلاء قد آمَنوا قبل الجميع، وتركوا نماذجهم قدوةً لمن يأتي بعدهم، لكي يقلدهم الآخرون. فقد وصف الله  الصحابة هنا في هذه الآية بأنهم مَثلٌ يحتذى به. وأعلن أنه  قد رضي بمستوى إيمانهم والأعمال التي أنجزوها، وهم أيضا اتخذوا الفوز برضوان الله الغاية المنشودة في حياتهم. فكانوا عبادا شاكرين لله . فقد قال الله  إن الذين سيتبعونهم ويحرزون الإيمان والإخلاص والوفاء والأعمال الصالحة، سينالون الأجر والنعم من الله على الدوام. لقد كشف الله  على النبي  مكانة صحابته الرفيعة ووصف اتّباعهم وسيلةَ الاهتداء. فقد ورد في حديث عن عمر بن الخطاب، “عن النبي  قال: «سألت ربي عز وجل فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي» قال: فقال لي: يا محمد إن أصحابك عندي بمنـزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم ، فهو عندي على هدى”.
ولقد قال سيدنا عمر  أيضا إن النبي  قال أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم. فهذه هي المكانة الرفيعة التي بيَّنها الله  لصحابة النبي . فكل واحد منهم لنا بمنـزلة نبراس الطريق.
يقول سيدنا المسيح الموعود  عن مقام الصحابة وكيف كان الله راضيا عنهم وكانوا راضين عنه : لقد أبدى الصحابة في سبيل الله ورسوله إخلاصًا حتى جاءهم نداء: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ هذا هو المقام السامي الذي ناله الصحابة  أي رضي الله عنهم ورضوا عنه. إن الألفاظ عاجرة عن بيان محاسن هذا المقام وكمالاته. الرضا بالله تعالى ليس بوسع كل إنسان، بل هو أعلى مقام التوكل والتبتل والرضا والتسليم الذي إذا بلغه المرء لما بقي عنده شكوى من الله. وإن رضوان الله  عن عبده يتوقف على كمال صدقه ووفائه وطهارته ونزاهته وطاعته التامة. الأمر الذي يتبين منه أن الصحابة كانوا قد اجتازوا مدارج المعرفة والسلوك كلها.
ثم يقول حضرته ناصحا وموضحا هذا الموضوع:
طهِّروا قلوبكم ليرضى الله عنكم وترضوا عنه، (أي يجب أن لا تبقى عندكم أي شكوى من الله، ولنيل رضاه  يجب عليكم إيصال صدقكم ووفائكم إلى الكمال ورفْع معايير طهارتكم أيضا إلى الكمال، وإحراز أرفع مستويات الطاعة أيضا، وبذلك سيرضى عنكم مولاكم، وترضون عنه) وسيجعل في أجسامكم وأعمالكم بركة. (أي بعد تحقق هذه المكانة تُنال البركة)
إذن إن الصحابة قدوة لنا إذا كنا نريد الفوز بقرب الله. فقد وصفهم الله قدوةً تحتذى ونجومًا نيرةً حتى لو كان بدا لنا أنهم كانوا يختلفون فيما بينهم. وهذا ما أخبرَنا به النبي  عن مكانة صحابته ودرجتهم، وقال: قَالَ: اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ. (الترمذي)
ثم قال النبي  في موضع آخر: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي (ففي المسلمين فرق شتى يتبادلون التهم الكثيرة، وخاصة الشيعة يتهمون الصحابة كثيرا، لكن النبي  يقول) فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ. (أبو داود)
فهؤلاء الناس مكانتهم ومرتبتهم سامية جدا، وهم قدوة لنا، وعلينا أن نتبعهم، إذا كنا نريد رضوان الله . ودونك أن نتكلم ضد أحدهم أو أن يخطر ببالنا أن نفحص مكانة أحدهم في ضوء معاييرنا المخترعة، فهذا باطل. لقد أخبرَنا سيدنا المسيح الموعود  عن مكانة الصحابة ومرتبتهم أكثر فقال:
ينبغي أن تنظروا بعدل إلى ما قدمه صحابة هادينا الأكمل  من تضحيات في سبيل الله ورسوله. لقد أُخرجوا من ديارهم، واضطُهدوا، وتعرضوا لصنوف المصائب، وقُتلوا، ومع ذلك لم يبرحوا يمضون قدمًا بصدق وصفاء. فما الذي جعلهم يضحون بأرواحهم هكذا؟ إنما سبب ذلك أن لمعان فورة حب الله الصادق كان قد وقع في قلوبهم. ولذلك فلو قارنتم النبي  بأي نبي، فلن تجدوا له مثيلاً من حيث التعاليم، وتزكية النفس، وكراهية الدنيا وحطامها لأتباعه، وجعلِهم ينذرون نفوسهم في سبيل الحق بشجاعة. هذه هي مكانة أصحاب الرسول . أما المحبة والألفة المتبادلة بينهم فقد رسَمها الله تعالى في كلمتين إذ قال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (الأَنْفال: 64)، أي: لولا أن الله ألف بين قلوبهم لما أمكن تأليفها ولو أُنفقَ جبلٌ من ذهب.
والآن هناك جماعة أخرى، وهي جماعة المسيح الموعود، والتي عليها أن تتصبغ بصبغة الصحابة. أما الصحابة فكانوا قومًا أطهارًا بحيث إن القرآن الكريم زاخر بالثناء عليهم، فهل أنتم مثلهم؟ فإن الله تعالى يخبر أنه سيكون مع المسيح الموعود قوم يكونون أمثال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. كان الصحابة قوما ضحَّوا بأموالهم وأوطانهم في سبيل الله، وتخلوا عن كل غال ونفيس. لا شك أنكم قد سمعتم كثيرًا قصة سيدنا الصديق الأكبر رضي الله عنه؛ فذات مرة أُمر الناس بالإنفاق في سبيل الله، فجاء بكل ما في بيته. فلما سأله النبي : ماذا تركت في البيت، أجاب: الله ورسوله. كان من رؤساء مكة، ومع ذلك اكتفى من اللباس برداء من الصوف كالفقراء. اعلموا أن هؤلاء القوم كانوا قد استُشهدوا في سبيل الله. لقد قيل لهم: إن الجنة تحت ظلال السيوف، أما نحن فلم نعامَل بهذه الشدة، إذ ورد فينا: “يضع الحرب”، أي أنه لن تكون حروب في زمن المهدي.
ثم قال  وهو يبين عن كيفية حياة الصحابة :
“انظروا هل غلب كبار صحابة الرسول  على الكفار لأنهم  كانوا مولعين بعيش هني وطعام شهي؟ كلا، لم يكن الأمر هكذا. لقد وردت صفتهم في الصحف السابقة أيضا أنهم يقيمون الليل ويصومون النهار، وأنهم يبيتون ذاكرين متفكرين. أما وكيف كان عيشهم، فإن الآيات التالية ترسم أسلوب حياتهم رسما تاما: وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (الأَنْفال: 62)، ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا (آل عمران: 202)
قال : والرباط هي تلك الخيول التي تربط على حدود العدو، فالله تعالى يأمر هنا الصحابة بأن يكونوا مستعدين لمواجهة العدو، ونبّههم باستخدام لفظ الرباط إلى الاستعداد التام والحقيقي. عهدت إليهم مهمتان: أولاهما محاربة العدو الظاهري، والثاني المحاربة الروحانية. (أيْ أمر بالرباط للمحاربة الروحانية أيضا، فلا بد من الاستعداد الحقيقي لذلك) والرباط يطلق في اللغة على النفس وقلب الإنسان، من لطائف الأمر أنه لا يعمل من الخيل إلا ما يكون مروَّضا ومعلَّما. في هذه الأيام يتم ترويض الخيل وتعليمها على هذا النحو حيث يعنى بتربيتها وتعليمها كما يعلم الأطفال ويربَّون بحيطة وعناية خاصة. إذا لم يتم تدريبها وترويضها فلا تصلح لشيء مطلقا، وتكون مجلبة للخطر والضرر بدلًا من أن تكون نافعة. (كذلك ثمة حاجة لتدريب النفس ولترويضها ولتعليمها، فلن يتم الرباط ما لم يسعَ المؤمن للرقي العلمي والعملي ويكبحْ النفس أيضا)
ماذا كانت نماذج الصحابة التي كانت نتيجة قوّة الرسول  القدسية؟ أقدم بعض هذه النماذج. منها نموذج سيدنا أبي بكر  الذي قد ذكرتُه في مقتبس المسيح الموعود  أنه  أحضر جميع أغراض البيت في سبيل الدين، والآن اسمعوا واقعة تسفر عن تواضعه:
مرةً كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ وطال النقاش وربما ارتفعت الأصوات، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، ربما احتدّ الصوت في الغضب فاعتذر، فَلَمْ يَقبل عمر اعتذاره… فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ  وَقَصَّ عَلَيه الْخَبَرَ وقال ذهبتُ إليه وسألته أن يغفر لي، فقال رسول الله  يغفر الله لك يا أبا بكر . وبعد قليل نَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، أيْ شعر بأنه هو المخطئ فندم، وذهب إلى بيت أبي بكر  ولم يجده في بيته، فَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ  فحين رآه رَسُولُ اللهِ  تمعّر واحمرّ وجهه من الغضب، وحين رأى أبو بكر  أن النبي  ساخط على عمر برك على ركبتيه وهو يقول للنبي : وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فاعف عن عمر. (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن)
هذا كان تواضعه وخشيته من الله، وكان عمر  أيضا نادما وجاء ليستعفي، فكلاهما كان نادما. هذا هو المجتمع الطاهر الذي أنشأه النبي  والذين كانوا يعيشون ذلك المجتمع نالوا رضوان الله تعالى.
ثم وردت قصة تواضع عمر ، قال أحد الناس لعمر : أنت خير من أبي بكر ، فبكى عمر وقال: والله، ليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، هل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال : أما ليلته فلما خرج رسول الله  هاربا من أهل مكة خرج ليلا فتبعه أبو بكر، أما يومه فلما توفي رسول الله  وارتدت العرب وأنكروا الصلاة والزكاة، حينها عزم الجهاد عكس رأيي وكتب الله له النجاح وبذلك أثبت  أنه  كان على الحق.
ثم كان من كبار صحابة الرسول  عثمان  الذي كان الخليفة الثالث. تتميز حياته بصلة الرحم وبميزات كثيرة أخرى. تقول عائشة رضي الله عنها كان عثمان أكثر الناس صلة للرحم وخشية لله. حين دعت الحاجة إلى توسعة المسجد النبوي تقدم كثير من الناس ليضحوا من أجل الدين، فدعا النبي  إلى ضم البيوت التي هي حول المسجد إلى المسجد. ومن البدهي أنها كانت ستُشترى من أصحابها، فتقدم عثمان  ليشتريها فاشتراها بخمسة وعشرين ألف درهم. وحين واجه المسلمون مشكلة الماء وكانوا يأخذون الماء من بئرِ يهوديٍ، وحين واجهوا مشكلة في ذلك اشترى عثمان  ذلك البئر من اليهودي بثمن غال، وهيأ الماء للمسلمين، هذه كانت مواساته لخلق الله.
ثم علي ، قال معاوية لأحد الناس: صفْ لي عليًّا، فقال: أوَ أعفيتني؟ قال: لا أعفيك، (لأن السائل كان يعلم أنه كان بينهما خلاف) فقال ذلك الشخص لمعاوية: إذ لا بدّ فإنه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته. (أي كان يحب العبادة في الليل بدلا من التوغل في أمور الدنيا) كان غزير العبرة، طويل الفكرة،… كان كأحدنا، (أيْ كان عيشه بسيطا) والله، كان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة منه… يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله. (أي إذا كان أحد ذا قوة، وأراد اتخاذ موقف باطل طمعا في شيء، فكان حضرته لا يتيح له الفرصة لذلك، بل كان يؤاخذه، لكن الضعيف لم يكن ييأس من عدله). هذه هي خصال علي. فقال معاوية لدى سماع قوله: صدقتَ، وبكى.
وهناك صحابي آخر للنبي  اسمه عبد الرحمن بن عوف . كان يتبوأ مقاما عاليا في التضحية المالية. كان من كبار التجار، وذا ثروة كثيرة. ذات مرة سمع شخص صوتَ إنسان يطوف بالكعبة المشرفة ويدعو الله ويقول رب احفظني من شح نفسي. فلما نظر إليه فإذا هو عبد الرحمن بن عوف.
ذات يوم أتت إلى المدينة قافلة تجارية لسعد فيها سبع مئة جمل محملة بالحنطة والطحين وغيرها من السلع، حتى صارت هذه القافلة حديثَ أهل المدينة في كل مكان إذ كانت كبيرة جدا. فلما بلغ عائشة رضي الله عنها خبرُها قالت سمعتُ رسول الله  يقول عبد الرحمن من أهل الجنة. فلما علم عبد الرحمن بن عوف بذلك أتى عائشة رضي الله عنهما وقال اشهدي أني أقدِّم كل هذه القافلة من سبع مئة جمل بما حملت في سبيل الله تعالى.
ومما يدل على المكانة العظيمة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه حصل بينه وبين خالد بن الوليد رضي الله عنهما خصام ذات مرة، فقال النبي  يا خالد لا تقل لأصحابي شيئا، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا لم يبلغ عظمة صباح أو ليلة قضاها عبد الرحمن بن عوف مجاهدًا في سبيل الله.
هناك صحابي آخر اسمه سعد بن أبي وقاص ، وهناك قصة له مع أمه بعد إسلامه وهي كما يقول سعد: لما أسلمتُ قالت أمي: يا سعد! ما هذا الدين الذي قد أحدثتَ!؟ لَتَدَعَنَّ دينَك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتُعَيَّرُ بِي، فيقال: يا قاتِلَ أُمِّه. قلت: لا تفعلي يا أُمَّه، إني لا أَدَعُ ديني هذا لشيء. قال: فمكثتْ ثلاثة أيام مع لياليها لا تأكل ولا تشرب حتى جهدتْ واشتد جهدها. قال: فلما رأيتُ ذلك قلت: والله يا أُمَّه، لو كانت لك ألف نفسٍ، فخرجتْ نفساً نفساً، ما تركتُ ديني هذا لشيء، إنْ شئتِ فكُلي، وإن شئتِ فلا تأكلي. فلما رأتْ ذلك أكلتْ.
يقول الله لنا: عليك بطاعة الوالدين وخدمتهما، أما إذا ألحّا عليك بمخالفة الدين وعصيان الله تعالى فلا تطعهما بل عليك بطاعة الله.
لقد شرفه الله تعالى بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة رضي الله عنها: أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ ظل يسهر عدة ليال ولم يستطع النوم. فقال في ليلة ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة. كانت الأيام أيام خوف، فأراد أن يستريح قليلا. تقول عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا صوت السلاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن هذا قال أنا سعدٌ جئتُ أحرسك، لأني شعرت بالخوف عليك. قالت ونام رسول الله  بهدوء وظل يدعو له.
وهناك صحابي آخر اسمه الزبير بن العوام . كان شديد الخشية، أعني كان يخشى الله كثيرا مخافة أن يعصي الله فيؤاخذه. قال له ابنه ذات مرة: أبي لماذا لا تروي الحديث كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعل أصحابه الآخرون؟ قال لقد لازمت النبي  ورافقته منذ إسلامي ولم أفارقه قط، وقد سمعت عنه الكثير وعندي أحاديث كثيرة، لكني أخاف تحذير النبي  إذ قال مَن كذَب عليّ فليتبوأْ مقعده من النار”. فأخاف أن أخطئ فأتفوه بكلام ربما لم أفهمه جيدا.
كان شجاعا شديد البسالة. لما طالت محاصرة الإسكندرية جاء بسُلّم وأخذ يصعد على جدار الحصن، فقال له أصحابه الطاعون متفش في المدينة بشدة. قال لا بأس، جئنا للطعن والطاعون. ولم يرض بقولهم وصعد جدار القلعة.
كان كثير المال، كلما أتاه مال تصدق بأكثره في سبيل الله تعالى.
ومن هؤلاء الصحابة طلحة بن عبيد الله . كان ثريا وكثير الإنفاق في سبيل الله تعالى. ذات مرة باع جزءا من عقاره لعثمان رضي الله عنهما بسبع مئة ألف درهم، ثم أنفقها كلها في سبيل الله.
وكانت الضيافة من خصاله البارزة. ذات مرة جاء النبي  ثلاثة من إحدى القبائل وأسلموا وكانوا شديدي الفقر والبؤس، فقال صلى الله عليه وسلم لصحابته من يتولى ضيافتهم، فرضي طلحة بضيافتهم مسرورا، وذهب بهم إلى بيته وأسكنهم فيه وظل يكرمهم بضيافته حتى جعلهم من ضمن أفراد بيته ولم يفرق بينه وبينهم إلا الموت.
كان طلحة  شديد الحرص على الصداقة والإخوة. عوقب كعب بن مالك الأنصاري  بالمقاطعة لغيابه عن غزوة تبوك، فلما أعلن النبي  العفو عنه بأمر الله تعالى حضر كعب إلى مجلس النبي ، فسارع إليه طلحة لاستقباله بكل وله وشوق، وصافحه وهنأه. وكان كعب يذكر صنيعه هذا دائما ويقول لم يبد لي أحد ما أبداه لي طلحة من الحفاوة والفرحة.
وهناك ميزة أخرى لطلحة بشأن العلاقات بين الزوجات والأزواج، تقول زوجته كان طلحة إذا رجع إلى البيت دخل ضاحكا متبسما. أي كان كثير العمل والأشغال ومع ذلك إذا رجع إلى البيت لم يرجع عبوسا ومكشرا بحيث يخاف منه أهل البيت وينـزوون في زواية منه، كلا بل كان يرجع إلى البيت فرحا ويخرج منه مسرورا. مما يعني أنه كان يعاشر أهل بيته بالحسنى، وكان يعيش معهم فرحا، وليس أنه كان يعاملهم بغير ما يعامل به الناس خارج البيت. تقول زوجته إذا سألته لم يبخل، وإذا لم أسأل لم ينتظر لكي يُسأل. أي أنه كان يعطينا بدون سؤال منا أيضا، وكان يطلع على حاجاتنا ويسعى لسدها من تلقائه. كانت له أربع نساء، وكلهن كن فرحات جدا. تقول زوجته هذه: كان يشكر المعروف ويعفو عن الخطأ.
فهذه هي المبادئ التي تبعث الطمأنينة في البيوت وتقوي العلاقات بين الزوجين. لذا فهذا الصحابي أسوة لنا في هذه الأمور أيضا.
لقد رُوي في باب طاعة الصحابي عبد الله بن مسعود  الخليفةَ أن عمر  عيّنه لتعليم أهل الكوفة وتربيتهم، وكتب إليهم: “وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي”. أي أبعثه لتربيتكم مع أننا بحاجة ماسة إليه هنا في المدينة. كان عبد الله بن مسعود  يحتل مكانة رفيعة جدا. وقد حافظ عثمان  أيضا على مكانته هذه بل أمَّره على الكوفة وولّاه أيضا دار القضاء وبيت المال. كان أهل الكوفة يُحدثون بعض الفتن والمشاكل لذا عزله عثمان  من الولاية لحِكمة ما ودعاه إلى المدينة وطلب منه المكث هنالك. عندها طلب منه أهل الكوفة أن ألا يعود إلى المدينة بل يبقى عندهم في الكوفة، وأخذوا على عاتقهم مسؤولية ألا يضره أحد. فقال عبد الله بن مسعود: إن طاعة الخليفة واجبة عليّ ولا يمكنني بأي حال أن أفتح باب فتنة عاصيا أمر الخليفة، فعاد إلى المدينة.
وقد روى عنه أحد الرواة ما مفاده: لقد جلستُ في مجالس الصحابة كثيرا ولكن عبد الله بن مسعود كان فريدا من بينهم من حيث الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. كان يحب النظافة والرشاقة الظاهرية أيضا، فمع كونه زاهدا في الدنيا فقد روى عنه أحد خدامه أنه كان يلبس لباسا أبيض فاخرا ويستخدم أجود العطور. يقول أبو طلحة  ما مفاده: كانت تفوح منه رائحة زكية جدا لدرجة كان يُعلم في الظلام أيضا بسبب رائحته أن عبد الله بن مسعود قادم.
ثم خُذوا مَثل بلال  الذي تحمل أصناف المصائب ولم يخرج من فمه إلا “أحد”، “أحد”. كان يُجَرّ على رمال حارقة، ومع ذلك ثبت على إيمانه وأعلن دائما: “أحد”، “أحد” و: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. ثم هناك سعد بن معاذ الأنصاري ، الذي حقق يوم بدر تمثيلا عن الأنصار ما كان يتوقعه النبي  منهم وقال ما معناه: لقد آمنّا بك يا رسول الله، وصدّقناك وشهدنا أن ما جئتَ به حقٌّ، وقد عقدنا معك عهدا وثيقا أننا سنطيعك دائما، فتقدمْ يا رسول الله كما أراك الله وستجدنا معك بإذن الله. ولو أمرتَنا أن نقفز في البحر لقفزنا، ولن يتأخر منا شخص واحد. لا نخاف مواجهة العدو بل سنقاتله بكل شجاعة، ونحن واثقون من أن الله تعالى سيريك منا ما تقرّ به عينك. فمُرنا يا رسول الله وسنذهب معك حيثما ذهبتَ.
إذًا، هؤلاء الصحابة قد أوفوا بعهودهم وضربوا أمثلة عليا، فرضي الله عنهم. لقد ذكرتُ بعض الأمثلة فقط من سيرة الصحابة وإلا فالتاريخ زاخر بها. والصحابة أسوة حسنة يجب أن نتأسى بها.
يقول المسيح الموعود : إن نيل الفوز والفلاح بدون القرآن أمر مستحيل، والحصول على مثل هذا النجاح أمر خيالي يتحراه الناس. يجب أن تضعوا أمامكم أسوة الصحابة وانظروا كيف أنهم عندما اتبعوا رسول الله  وآثروا الدين على الدنيا، تحقق كل ما وعدهم الله به. لا شك أن المعارضين كانوا يستهزئون بهم في البداية بأنهم لا يستطيعون الخروج من بيوتهم بحرية ومع ذلك يدَّعون أنهم سوف يصبحون ملوكا. والحق أنهم قد نالوا بتفانيهم في طاعة الرسول  ما لم ينالوه منذ قرون طويلة. كانوا يحبون القرآن الكريم ورسول الله ، وكانوا ساعين في طاعتهما ليل نهار. ولم يتبعوا الكفار حتى في التقاليد والعادات. (أي قد نبذوا كليا ما كان يعمله الكفار) عندما آمنوا بدأوا بالعمل بتعليم الإسلام وحده. وما دام الإسلام في هذا الحال، حالفه الازدهار الرقي أي ظل الإسلام يحرز التقدم.
ثم يقول  في مكان آخر ذاكرا فضائل الصحابة :
كان الصحابة  مخلصين ومطيعين لرسول الله  لدرجة لا يوجد نظيرهم في أتباع أيّ نبي. وكانوا قائمين على أوامر الله بحيث يزخر القرآن الكريم بمدائحهم. لقد ورد أنه عندما حرِّمت الخمر أُهرقت الخمر التي كانت في الأواني وسالت بها القنوات كما يُروى. ولم يصدر من أحدهم بعد ذلك تلك الفعلة الشنيعة بل صاروا أعداء للخمر بكل معنى الكلمة. انظروا إلى هذا الثبات والاستقامة على الطاعة. إن الإخلاص والحب وحسن الاعتقاد الذي أطاعوا به رسول الله  لا يوجد نظيره في غيرهم قط. يتبين من قراءة وقائع قوم موسى  أنهم أرادوا أن يرجموه أكثر من مرة. أما حواريو عيسى  فكانوا ضعفاء الاعتقاد لدرجة اضطر المسيحيون أنفسهم للاعتراف بذلك، وقد سماهم المسيح نفسه ضعيفي الاعتقاد في الإنجيل. لقد خانوا معلّمهم بشدة وخذلوه في ساعة العسرة، تسبب أحدهم في القبض عليه والآخر أنكره ولعنه.
ولكن الصحابة كانوا مطيعين ومخلصين للنبي  حتى شهد الله أنهم لم يقصِّروا في التضحية بأرواحهم في سبيل الله. وقد تحلّوا بكل صفة من صفات الإيمان مثل العبادة، والزهد والسخاء والشجاعة والإخلاص، ولم توجد هذه الشروط الإيمانية في أيّ قوم آخر.
المصائب والشدائد التي تحمّلها الصحابة في صدر الإسلام لا يوجد نظيرها في قوم آخرين. لقد تحمل هؤلاء البواسل المصائب ولم يتركوا الإسلام. لقد بلغت تلك المصائب مرحلة اضطروا لترك وطنهم والهجرة مع النبي . وعندما تجاوز شر الكفار الحدودَ كلها واستحقوا العقوبة أمر الله تعالى الصحابة  أنفسهم أن يعاقبوا هؤلاء القوم المتمردين. فاضطر هؤلاء القوم -الذين كانوا يعبدون ربهم في المساجد ليل نهار وكان عددهم قليلا ولم تكن لديهم عُدّة وعتاد حربية- للخروج إلى الميدان للدفاع ضد هجمات الأعداء. فكانت الحروب الإسلامية دفاعية كلها.”
ثم يقول  في موضع آخر:
“لو ألقينا نظرة على زمن النبي  وأصحابه  لوجدنا أنهم كانوا أناسا بسطاء على شاكلة الإناء النظيف والطاهر الذي يُصبح نظيفا بالتلميع، كذلك كانت قلوب الصحابة منورة بأنوار كلام الله تعالى ومطهرة من صدأ الكدورة الإنسانية، وكأنهم كانوا مصداقا حقيقيا لقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا… فعلى الإنسان أن يكون نقيا هكذا وينظف نفسه دوما ليصبح كإناء ملمَّعٍ طاهر حتى يُوضع فيه طعام إنعامات الله تعالى. ولكن كم هم مصداق: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا في هذا العصر.”
إذًا، علينا أن نسعى جاهدين أن نصلح أنفسنا وننظف أواني قلوبنا. فلما آمنّا بالمسيح الموعود ، المحب الصادق للنبي ، فعلينا أن نعمل بكل ما بيّنه المسيح الموعود . من المعلوم أن النبي  هو الذي قدّم سُنّته وأسوته في البداية ثم قدّم لنا أصحابه أسوتهم، فلا يمكن أن نكون مسلمين حقيقيين ما لم نتأسَّ بتلك الأسوة، ووفقنا الله جميعا لذلك.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز