خطبة الجمعة 7/2/2020

تناول حصرته ذكر الصحابي البدري محمد بن مسلمة الأنصاري t وكان اسم أبيه مسلمة بن سلمة. وأمه أم سهم واسمها خُليدة بنت أبي عُبيد. كان الأنصاري من بني الأوس

وُلِد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وهو ممن سُمّي في الجاهلية محمدًا. كان اليهود في المدينة ينتظرون نبيا بشّر به موسى u فقالوا سيكون اسم ذلك المبعوث محمدا، وحين سمع العرب ذلك بدؤوا يُسمّون أبناءهم محمدا.

أسلم على يدي مُصْعب بن عمير قبل سَعْد بن معاذ. آخى رسولُ الله r بينه وبين أبو عبيدة بن الجراح.

ولّاه النبي r على المدينة عند خروجه لبعض الغزوات، وأبناء محمد بنِ مسلمة جعفرُ وعبد الله وسعد وعبد الرحمن وعمر يُحسَبون من صحابة الرسول r، شهد بدرا وأحدا وجميع المشاهد مع النبي r ما عدا مشهد تبوك وتخلف في المدينة من تبوك بإذن النبي r.

كان من بين الصحابة الذين قتلوا كعب ابن الأشرف وأبا رافع سلام بن أبي الحُقيق. حيث كانا يسعيان دوما للإساءة إلى المسلمين. وفيما يلي سرد تفصيلي لهذه الحادثة:

كتب مرزا بشير أحمد t في كتابه “سيرة خاتم النبيين” أن مشهد بدر كان قد كشف عن عداء اليهود القلبي في المدينة وازدادوا عداء وشرا وفتنة، وقتْلُ كعب بن الأشرف أيضا حلقة من ذلك، كان كعب يهوديا ولكنه لم يكن من نسل اليهود بل كان من العرب، وكان أبوه رجلا شاطرا ومكارا من بني نبهان، وجاء إلى المدينة وارتبط ببني النضير وأصبح حليفهم، ونال أخيرا سلطة ونفوذا لدرجة زوّجه رئيس بني نضير الأكبر أبو رافع بن أبي الحقيق ابنته، ومن بطنها وُلد كعب الذي حين كبر نال مكانة أعظم من أبيه حتى بلغ مرتبة بدأ يحسبه جميع يهود الجزيرة سيدهم، وكان قد بلغ منتهاه في السيئات وإثارة الفتنة والفساد. وحين جاء النبي r المدينة مهاجرا كان كعب مع اليهود الآخرين الذين كتبوا مع النبي r ميثاق الصداقة والأمن والأمان والدفاع المشترك، ولكن بدأت نار البغض والعداء تنشب في قلب كعب خفيةً، وبدأ يخالف الإسلام ومؤسِّسه بالمكائد السرية والمؤامرات الخفية، واشتد عداؤه وازداد معارضة وفتنة يوما فيوما حتى سلك بعد بدر مسلكا كان ملؤه الفساد والفتنة أدّى إلى ظروف خطيرة للمسلمين. تآمرَ لاغتيال الرسول r، حيث خطّط أن يدعو النبيr إلى بيته بحجة استضافته فيقتله بعض الشباب، ولكن الله بفضله أطلع النبي r بالمؤامرة قبل فوات الأوان، ففشلت. أصدر النبي r قراره بأن كعب الأشرف يستوجب القتل على تصرفاته المجرمة هذه، وعهد النبي r هذه المهمة إلى محمد بن مسلمة، وأوصاه أن يستشير سعد بن معاذ رئيس الأوس قبل اتخاذ أي أسلوب لقتل كعب. ففعل وأخذ معه أبو نائلة واثنين أو ثلاثة من الصحابة، ووصل إلى دار كعب، ودعاه إلى الخارج ثم قال له إن صاحبنا، أي محمدًا r، يطالبنا بالصدقات وقد ضيّق علينا، فنرجوك أن تعطينا بعض المال دَينًا. فقفز كعب فرحًا بسماع ذلك وقال: والله، ليس ببعيد ذلك اليوم الذي تملّون فيه صاحبكم وتخذلونه. قال كعب: نعم، ولكن لا بد من رهن. ارهنوني نساءكم. فقال محمد كاظمًا غيظه: خذ سلاحنا إن أردت. فرضي كعب بذلك. وعندما خيم الليل حضر هؤلاء النفر بسلاحهم إلى دار كعب، إذ كان جاز لهم عندها حمُل السلاح إليه علنًا ليعطوه إياها رهنًا بحسب المعاهدة. فاستدرجوا كعبًا من داره وأخذوه جانبًا، فضربوه بسيوفهم وأردوه قتيلا. ثم غادر محمد بن مسلمة وأصحابه المكان مسرعين إلى عند النبي r وأخبروه بقتل كعب.

ولما انتشر خبر قتله في البلدة سادها السكوت الممزوج بالخوف، وثار اليهود جدا، وجاء وفدهم في الصباح إلى النبي r واشتكوا إليه قتل رئيسهم كعب بن الأشرف. فقال النبي r بعد سماع كلامهم ألا تعلمون جرائمه؟ ثم إن النبي r عدّد لهم جرائمهم المختلفة. فسكت اليهود وخافوا ولم يثيروا المزيد من الضجة. ثم قال لهم النبي r عليكم أن تعيشوا معنا مسالمين ومتعاونين ولا تبذروا بذور الفتن. فرضي اليهود بقول النبي r وعُقدتْ معهم معاهدة جديدة وعدوا فيها من جديد بالتعايش السلمي متجنبين الفتنة والفساد. فلو لم يكن كعب مجرمًا لما عقد اليهود معاهدة جديدة بهذه السهولة ولما سكتوا على قتله، ولم يرد في أي مصدر تاريخي أنهم ذكروا بعد ذلك قط قتل كعب بن الأشرف متهمين المسلمين على ذلك، لأنهم كانوا يدركون في قرارة نفوسهم أنه قد نال عقوبة كان يستوجبها.

لقد كتب بعض المؤرخين الغربيين كثيرًا حول اغتيال كعب بن الأشرف، مثيرين المطاعن الكثيرة ومعتبرين قتله وصمةَ عار في جبين النبي r. ولكن يجب على المرء أن يرى (أولاً): هل كان هذا القتل أمرًا مشينًا في حد ذاته أم لا؟ و(ثانيًا) هل الطريقة التي اتُّبعت لقتله كانت مسموحة أم لا؟

فأولاً، ليكن معلومًا أن كعب بن الأشرف كان قد دخل في معاهدة أمن وسلام مع النبي r، وكان قد عاهد المسلمين على نصرهم ضد كل عدو خارجي وعلى التعايشِ معهم كالأصدقاء. كما رضي، بحسب هذه المعاهدة، بالنبي r حاكمًا ورئيسًا في هذه الحكومة الديموقراطية التي أقيمت في المدينة، وبأنه سيقبل قراراته r في كل المنازعات. فمادام كعب قد نقض كل هذه المواثيق والعهود وخان المسلمين بل حكومةَ المدينةِ، وبذَر بذورَ الفتنة والفساد في المدينة، وأجّج نيران الحرب في البلاد وحرّض قبائل العرب ضد السلمين كثيرا، ونسج المؤمرات لاغتيال النبي r. ففي تلك الظروف لم تكن لكعب جريمة واحدة بل كانت مجموعة الجرائم التي استحال غض الطرف عن اتخاذ إجراءات تعزيرية عنها.

أما السؤال عن أسلوب قتل كعب بن الأشرف، هل كان أسلوب قتله جائزا أم لا؟ ليكن معلوما أيضا أنه بحسب الميثاق الذي أُبرم بعد الهجرة بين المسلمين واليهود لم يعُد النبي r مواطنا عاديا فحسب بل صار رئيس سلطنة ديمقراطية قامت في المدينة. وقد خُوِّل أيضا لأنْ يحكم بما يراه مناسبا في النـزاعات والأمور السياسية كلها. فرأى r قتل كعب واجبا لمصلحة أمن البلاد نظرا إلى افتتانه. فلا مجال للاعتراض على حكم قتله قط.

أما الاعتراض أن النبي r سمح لأصحابه بالكذب والتزوير بهذه المناسبة، فهذا خطأ تماما لأن الروايات الصحيحة تكذّب هذه الفكرة.  أما ما قاله محمد بن مسلمة ومن معه لكعب، فالحق أنه لم يكن في كلامهم أيضا ما يخالف الصدق والأخلاق، ولم يكذبوا قط بل استخدموا كلمات ذات معنيين نظرا إلى الغاية والهدف من مهمتهم، ولم يكن لهم بدٌّ منها. وليس محل اعتراض أبدا عند عاقل وأمين أن يقول أحد بمقتضى هدف نبيل وحسن كلاما بسيطا وصحيحا بشيء من الانحراف الخفي.

إضافة إلى ذلك، فقد أثار البعض اعتراضا أنه هل الكذب والخداع جائز في الحرب. فقد ورد في بعض الروايات أن النبي r كان يقول: “الحربُ خدعةٌ”. من المحتم أن المراد من الخداع هنا التدبير الحربي والخطة الاستراتيجية.

الخدعة التي سُمح بها في الحرب ليست خداعا حقيقيا أو كذبا، بل المراد منها الخطط للحرب، التي تُتخذ لإغفال العدو أو إحراز الغلبة عليه. يقول مرزا بشير أحمد t إن الحديث التالي يصدِّق تأويلي هذا، والحديث أن أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ليست في الحقيقة كذبا ويمكن أن يعدها الناس كذبا خطأً وهي الحرب، وأن يُصْلِحُ الرَّجُلُ بَيْنَ النَّاسِ وأن يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا إرضاء وإفراحا.

بعد إيراد حدث كعب بن أشرف أورد ابن هشام الروايةَ أن النبي r قال للصحابة بعد قتل كعب: مَنْ ظَفَرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ فَوَثَبَ مُحَيّصَةُ يهوديا فَقَتَلَهُ. والرواية نفسها أوردها أبو داود أيضا، والراوي في كلتا الروايتين ابن إسحاق.

حين نتدبر هذا الحدث لا يبدو صحيحا، لأن وتيرة النبي r العامة تكذبه تكذِّبه قطعا، أن يكون r قد أصدر بمثل هذا الأمر. إضافة إلى ذلك لو كان الحكم عامًّا لقُتل الكثير حتما نتيجة له. بينما ورد في الروايات قتلُ شخص واحد، مما يثبت أن الحكم لم يمكن عامّا. ثم ما دام ثبت من الروايات الصحيحة الأخرى أن النبي r عقد عهدا جديدا مع اليهود في اليوم التالي، لذا في هذه الحال لا يجدر القبول أن بوجود هذا العهد أصدر r هذا الحكم. ولو كان شيء من هذا القبيل لأثار اليهود ضجة حتما، لكنه لا يتبين من أي رواية من التاريخ أن اليهود رفعوا أي شكوى من هذا النوع.